إنجازات مؤسسة البحرية الإسلامية تاريخياً
حصاد مذهل يشمل حصار القسطنطينية 29 مرة وتوحيد أسطول مصر بـ 36 ألف سفينة مع رسم خرائط دقيقة لاستكشاف قارة أميركا
في كتابه الشهير “قصة الحضارة”، يشير المؤرخ الأميركي ويل ديورانت إلى دور هام للمسلمين في الأندلس خلال فترة معينة. وفي تلك الفترة، كان للمسلمين في الأندلس أكثر من ألف سفينة تجارية تحمل السلع والمنتجات من الأندلس. إلى إفريقيا وآسيا، وكانت هذه السفن تأتي من مئات الموانئ.
تشير المصادر التاريخية القديمة إلى أنه في مصر. كان هناك حوالي 36 ألف مركب يستخدم لنقل الناس والبضائع عبر نهر النيل. وفي العراق. كان هناك حوالي 30 ألف سفينة تعبر نهر دجلة.
ولكن، ما الذي حدث للمسلمين الذين اعتادوا على استخدام وسائل النقل البرية والبحرية بكثرة في تلك الفترة؟
إجابة هذا السؤال تتعلق بالانتقال الحضاري الكبير الذي قام به المسلمون نحو العالم. كانوا يسعون للدعوة الإسلامية والتجارة واستكشاف العالم والتحدي للإمبراطوريات الكبرى. وقد استمر هذا الاندفاع الحضاري لعدة قرون.
المرحلة الحاسمة لهذا الانتقال كانت مع معركة “ذات الصواري” مع الإمبراطورية البيزنطية. حيث تمكن المسلمون من تحقيق الانتصار في تلك المعركة. وبعد هذا النصر. انفتحت أمامهم أفاق كبيرة في الانتشار والتوسع داخل الحضارات الساحلية على البحر المتوسط. وبدأوا في تأسيس مراكز قوية للإسلام على تخوم أوروبا، مثل الأندلس.
من خلال هذا الاندفاع الحضاري، توسعت تأثيرات العرب على المحيطات والبحار العالمية. وأصبحوا لهم نفوذ سياسي وتأثير علمي واقتصادي. وقاموا بفتح مدينة القسطنطينية بعد محاولات عديدة نجحوا فيها بالنهاية. وهو ما ساهم في تغيير النظام العالمي بشكل كبير.
مساهمة مؤسسة البحرية الإسلامية في تاريخ الحضارة البحرية
تعتبر مؤسسة البحرية الإسلامية واحدة من أبرز مؤسسات الحضارة الإسلامية التي وصلت إلى ذروة تألقها في صناعة الأساطيل البحرية الكبرى وعلوم البحرية العسكرية. في هذا المقال، سنستعرض هذه المؤسسة ودورها البارز في تطوير مجالات متعددة ذات أهمية استراتيجية.
بدايةً، أشار المؤرخ الكبير ابن خلدون في “المقدمة” إلى أهمية الصناعة البحرية في الحضارة الإسلامية. كانت هذه الصناعة تتميز بتفتح العقل الإسلامي على الخبرات العلمية والعملية في مجال صناعة السفن. استقبل المسلمون بفتح الأبواب أمام خبراء من خلفيات مختلفة، من حضارات وديانات مختلفة. وسمحوا لهم بمشاركة تجاربهم ومعرفتهم. هذا التبادل المثمر كان أحد عناصر نجاح الحضارة الإسلامية في مجال صناعة السفن.
ما يميز هذا التبادل هو أنه لم يكن مجرد نقل سطحي للصناعة، بل كان عملية توطين وتمكين للصناعة داخل الحضارة الإسلامية. هذا النهج سمح بتخريج خبراء بحريين مسلمين ماهرين، قادرون على تسيير الأساطيل البحرية بكفاءة وجسارة في بحار العالم.
وصلت المؤسسة البحرية الإسلامية إلى أوج عظمتها في فنون الملاحة، حينما نجح أحد روادها في رسم خرائط دقيقة ومبهرة لقارات العالم الجديد، وتحديداً الأميركتين الشمالية والجنوبية. براعة هذا الراسم التركي المسلم ما زالت تثير إعجاب خبراء الخرائط الجغرافية في أبرز الجامعات في أمريكا وأوروبا. إن هذه الإنجازات تبرز مساهمة مؤسسة البحرية الإسلامية في تاريخ الحضارة البحرية وتشهد على التفوق والتقدم الذي حققته في هذا المجال.
اقرأ أيضاً: “الجزري” أطلق اسمه على أول سيارة طائرة تركية ومخترع أول روبت آلي في التاريخ
العرب والبحار: من التردد إلى الجرأة
منذ أقدم العصور، عرف العرب قوة البحار وأهميتها بسبب موقع الجزيرة العربية الاستراتيجي الذي يحيط بها البحر من ثلاث جهات: البحر الأبيض المتوسط من الشمال، والبحر الأحمر من الغرب، وبحر العرب في الجنوب، والخليج العربي من الشرق.
ومع ذلك، كانت البحار تثير تردداً وخوفاً في نفوس أغلب العرب قبل ظهور الإسلام وحتى بعده. حتى أن الخليفة عمر بن الخطاب، رحمه الله، كتب إلى والي مصر آنذاك، عمرو بن العاص، وسأله عن رأيه في البحر. فرد بقوله: “البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دُود على عود”، وأوصى بعدم ركوبه أبدًا. ولكن عمرو بن العاص استمر في ركوب البحر على مر السنين، حتى وصل عمر بن عبد العزيز. واستمر في اتباع نفس النصيحة التي أُعطيت له من قبل الخليفة عمر.
على الجانب الآخر، كان الخليفة عثمان بن عفان أكثر حذرًا تجاه مسألة ركوب البحر. عندما أرسل والي الشام معاوية بن أبي سفيان لطلب إذن بغزو جزيرة قبرص، تنازل عن الأمر وهو أيضًا مستفيضٌ من ركوب البحر. أعطى عثمان إذنًا خاصًا لمعاوية شريطة أن يكون برفقة زوجته. هذا الحكم الشهير يُظهر تقدير عثمان للخطر الذي يمكن أن يواجهه البحارة. وكان يشجع الجنود على اتخاذ القرار الخاص بهم بحرية.
باختصار، يكمن في هذا النص تطور ملحوظ في نهج العرب تجاه البحارة وركوب البحر منذ العصور القديمة حتى ظهور الإسلام، وكيف تغيرت آفاقهم واستجابتهم لتحديات البحارة في ذلك الزمن.
رحلة العرب نحو السيادة البحرية
منذ غزو قبرص في سنة 27 هـ/649 م، شهدت المسلمين تطورًا كبيرًا في علاقتهم بالبحر وركوبه. تبنت هذه الرحلة البحرية تأسيس أساطيل بحرية قوية. ابن خلدون في “المقدمة” قدم تفسيرًا لهذا التغيير الجذري قائلاً: “السبب في ذلك هو أن العرب كانوا في البداية ليس لديهم خبرة كبيرة في ركوب البحر بسبب حياتهم البدوية. بينما كان الروم والإفرنج ماهرين في هذا المجال. عندما أصبحت الدولة الإسلامية قوية وتسلطت على الأمم الأخرى. اتجه العرب نحو ركوب البحر بشكل أكبر. انتشرت ثقافة البحر وأصبحوا محترفين في صناعة السفن واستخدموا مهارات البحريين الذين تم استقدامهم من ثقافات أخرى. وبفضل هذه العمليات وتجربتهم المستمرة في البحر. تمكنوا من بناء أساطيل قوية وشحنها بالرجال والسلاح”.
التأثير الإسلامي في منطقة البحر الأبيض المتوسط والسيطرة الإسلامية على قبرص والشواطئ الشمالية لأفريقيا. دفع البيزنطيين إلى القرار بالمشاركة في معركة بحرية حاسمة تعرف بمعركة “ذات الصواري” في سنة 34 هـ/656 م. وعلى الرغم من أن البيزنطيين جمعوا أضخم أسطول في تاريخهم، إلا أن المسلمين انتصروا في تلك المعركة.
بعد هذا الانتصار، فتح المجال أمام المسلمين لتحقيق الهيمنة البحرية في البحر المتوسط. بدأوا بمحاولات للسيطرة على جزر البَلْيار الأربع. وقام والي المغرب الأموي موسى بن نُصير بفتح ميناءي “مَيُورْقَة” و”مَنُورَقَة” اللذين يقعان بين صقلية والأندلس في سنة 89 هـ/709 م. هذه الأحداث تشهد على النمو والازدهار البحري للعرب في تلك الفترة الزمنية المهمة.
تقدم البحرية الإسلامية: نهضة جديدة في العصور الوسطى
مع تولي أسرة الأغالبة حكم أفريقية/تونس في الفترة من 184 إلى 296 هـ/800 إلى 909 م. تم تكليفهم من قبل الخليفة العباسي هارون الرشيد في سنة 193 هـ/809 م بتقوية أسطولهم العسكري. بدأوا في بناء المزيد من السفن الحربية بهدف فتح الجزر البيزنطية. وأحد أبرز الزعماء في هذا السياق كان أميرهم زيادة الله ابن الأغلب. الذي جهّز جيشًا بحريًا قويًا وقام ببناء العديد من المراكب، كما ذكره ابن الأثير في “الكامل”.
فتح جزيرة صقلية في سنة 212 هـ/827 م علامة فارقة في تقدم البحرية الإسلامية في منطقة جنوب المتوسط. قاد القاضي المالكي أسد بن الفرات هذا الفتح بأمر من الأمير زيادة الله. تم تعيينه كقائد للجيش والقاضي في نفس الوقت. حسب ما أورده ابن عذاري المراكشي في “البيان المغرب”.
في نهاية القرن الثالث/التاسع الميلادي، استولى الفاطميون على حكم الأغالبة وميراثهم البحري. قاموا ببناء مرفأ صناعي ضخم يضم أكثر من مئتي مركب وقاموا بإنشاء قبوين طويلين للآلات البحرية. هذا المرفأ كان ميناء المهدية العجيب، الذي تم توسيعه وتحصينه بشكل كبير. تم تجهيزه بميناء منقور في حجر صلد يتسع لثلاثين مركبًا، وتم وضع سلسلة من الحديد بين برجين على طرفي المرسى. وعندما كانوا يرغبون في إدخال سفينة إلى الميناء، كانوا يمدون الحراس في البرجين أحد طرفي السلسلة حتى تدخل السفينة. ثم يمدونها مرة أخرى لتأمينها من السفن البيزنطية.
اقرأ أيضاً : السلطان ألب أرسلان .. فاتح أبواب الأناضول للإسلام وقاهر البيزنطيين
سيطرة البحرية الإسلامية وتحديات الهيمنة في البحر المتوسط
أساطيل الفاطميين كانت قوية بما يكفي لتثير الرعب في الأساطيل الأوروبية المنافسة. يشير الذهبي في “تاريخ الإسلام” إلى أنه في عام 323 هـ/935 م. أمر خليفة الفاطميين المنصور قائدهم العسكري يعقوب بن إسحق بالخروج بأسطول من مدينة تونس يتألف من ثلاثين مركبًا حربيًا إلى إيطاليا. ونتج عن ذلك فتح مدينة جنوة.
بحلول القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. سيطر المسلمون على جزر البحر الأبيض المتوسط الكبرى وأماكن مهمة في جنوب إيطاليا، مما جعلهم قريبين جداً من روما. وفي وصفه لهذه الهيمنة البحرية الإسلامية، يشير ابن خلدون إلى أن المسلمين تمكنوا من التحكم في هذا البحر وقطعوه بأساطيلهم من صقلية إلى البرّ الكبير المقابل من الضفة الشمالية. كانت أساطيل المسلمين تملأ البحر بأكمله بالمراكب والسفن. وكانت مهاراتهم في الملاحة والقتال لا تضاهى، ولم تجد الأساطيل المسيحية أي فرصة للنجاح في مواجهتهم.
بحلول مطلع القرن الخامس/العاشر الميلادي، كانت السيطرة الإسلامية على البحرية تواجه تحديات متزايدة. خاصة في منطقة البحر المتوسط. حيث استعاد المسيحيون أجزاء كبيرة من جزيرة صقلية واندلعت حروب صليبية في نهاية هذا القرن. ومع ذلك، بقيت الأساطيل الإسلامية تظهر بقوة في الدفاع عن أنفسها. مما يُظهر تفوقها في التخطيط والمناورة وصمودها في وجه التحديات.
عمليات بحرية خاصة وعمليات إسعاف بحري في العصور الوسطى
يتحدث ابن القلانسي عن إحدى العمليات البحرية البارعة التي قادها قائد الأسطول المصري الفاطمي في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. تمت هذه العملية بعد سلسلة من العمليات الاستطلاعية والمخابراتية البحرية المعقدة. قاد قائد الأسطول جماعة من أهل البحر الذين يجيدون اللغة الإفرنجية وأطلسوهم بزي الإفرنج. ثم أرسلهم في مراكب حربية لاستكشاف والبحث عن أماكن ومواقع معينة معروفة بوجود أساطيل صليبية. بعد الانتهاء من المهمة، عادوا إلى مصر بالغنائم والأسرى.
من بين العمليات البحرية المعقدة الأخرى التي قام بها المسلمون كانت عمليات الإسعاف البحرية لفك الحصار الصليبي عن مدن المسلمين. ذكر ابن شداد الموصلي حادثة في عام 585 هـ/1189 م، عندما حاصر الصليبيون مدينة عكا. قام مجموعة من المسلمين بركوب سفينة شحن حربية وارتدوا زي الإفرنج. حلقوا لحاهم وقاموا بوضع الخنازير على سطح السفينة وعلّقوا الصلبان. بعد ذلك، ابتدأوا رحلتهم إلى المدينة بهدف رفع الحصار. تم استقبالهم بفرحة كبيرة في الميناء بعد دخولهم المدينة، وذلك لأن السكان كانوا في حاجة ماسة إلى الطعام والمؤن.
بعد سقوط الفاطميين وصعود الأيوبيين، أصبح لديهم اهتمامًا جديدًا بأساطيل مصر والشام. لعبت هذه الأساطيل دورًا مهمًا في التصدي لهجمات الصليبيين البحرية. على الرغم من ضعف الوضع العام الذي وصفه ابن خلدون بخصوص الأساطيل في مصر والشام.
انتصارات أساطيل الأيوبيين وإعادة تنظيم الأسطول المصري في العصور الوسطى
في “البرق الشامي” للعماد الأصفهاني، نجد تفاصيل مهمة حول انتصارات أساطيل الأيوبيين على الصليبيين. في حادثة عام 573 هـ/1177 م، غزا الأسطول المنصور المصري وتوغّل في الجزائر. حيث نجح في الاستيلاء على بطسة كبيرة وأخرى أيضًا. وقد تم التقاط ألف أسير من الصليبيين خلال هذه الواقعة.
عندما تولى الظاهر بيبرس البُنْدُقْدَاري عرش الدولة المملوكية في عام 659 هـ/1261 م. قام بخطة لإعادة تنظيم الدولة بشكل عام، بما في ذلك صناعة الأسطول البحري. وفي “السلوك لمعرفة دول الملوك” للمقريزي، يتحدث عن جهود بيبرس في إعادة تنظيم الأسطول المصري. أنشأ بيبرس العديد من السفن الحربية في موانئ دمياط والإسكندرية. تمكن بذلك من تحقيق تقدم كبير في تعزيز الأسطول المصري. حيث أعاد تجهيز أكثر من أربعين سفينة والعديد من الحراريق والطرائد.
بفضل هذه الجهود، نجح الأسطول المملوكي في استعادة السيطرة على المبادرة العسكرية. في عصر السلطان الناصر قلاوون. تمت استعادة جزيرة أرواد من الفرنج الذين كانوا يستخدمونها كمقر لهم ويعترضون على الطريق للمسلمين. قاد الأسطول المصري هجومًا ناجحًا ضد الفرنج، ونجح في السيطرة على الجزيرة.
اقرأ أيضاً : معركة “ستامبالا” .. عندما هزمت البحرية المصرية اليونانيين
توسع تاريخي: صناعة الأساطيل والتأريخ البحري في العصور الوسطى
بسبب الهجمات القبرصية البحرية على سواحل مصر والشام، أولت المماليك اهتمامًا كبيرًا لتطوير أساطيلهم. وبفضل هذه الجهود، وصلت أساطيلهم إلى أقصى قوتها، واستطاعوا السيطرة على جزيرة قبرص. التي كانت آخر معاقل الصليبيين في شرق المتوسط. في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. أمر السلطان المملوكي بَرْسْباي ببناء العديد من السفن الحربية الضخمة والسفن المعدة لحمل المعدات والخيول. ووصل عددها إلى مئتي قطعة وأكثر.
في نفس الوقت، كانت الدولة العثمانية تتوسع في الأناضول والبلقان ببطء. وقامت بإعادة تنظيم أساطيلها البحرية بعد فتح مدينة برصة وجعلها عاصمة لهم. تمكنوا من السيطرة على البحر الأسود وسواحل البحر الأبيض المتوسط وتوسيع نفوذهم. وتجددت بقوة الأساطيل البحرية العثمانية أهمية دور الدفاع البحري في هذا الوقت.
أما فتح العثمانيين للقسطنطينية/إسطنبول في عام 1453م، فكان إنجازًا عسكريًا وبحريًا مهمًا. وقد حاصرت هذه المدينة مرات عديدة على مر العصور، ولكنها استطاعت الصمود. وفي هذا السياق. استخدم السلطان محمد الفاتح خطة عسكرية عبقرية لتحقيق النصر. تضمنت هذه الخطة تسيير السفن الحربية على اليابسة على مسافة تقدر بخمسة كيلومترات. وذلك باستخدام ألواح خشب الصنوبر المدهونة بالشحم كمزلقان. ونجحوا في سحب هذه السفن بقوة الأيدي والآلات عبر هذه المسافة الطويلة في ليلة واحدة، مما فاجأ البزنطيين المحاصرين.
تأتي البحرية العثمانية دورًا هامًا في تاريخ الدولة العثمانية، سواء في مجال الدفاع عن المسلمين في الأندلس ونقلهم أو في مواجهة الأساطيل الفرنسية والإسبانية في المتوسط. واستخدمت هذه الأساطيل بشكل خاص في دعم ونجاح القائد البحري العثماني خير الدين بربروسا في تحرير مناطق المغرب الإسلامي وهزيمة الإسبان في غرب المتوسط.
إعداد مؤسسي: دور الصناعة البحرية في تأسيس الأساطيل الإسلامية
لم تكن المسيرة المظفرة لأساطيل المسلمين خلال القرون الأولى من اندفاعهم الحضاري نتيجةً للصدفة. بالعكس، كانت نتيجةً للعقلية الإستراتيجية التي دفعت المسلمين للعناية الكبيرة بصناعة السفن وتشكيل الأساطيل. كان هدفهم الرئيسي هو فتح الأقطار الرومية في شمال البحر المتوسط والأندلس، والهيمنة على بحار العالم.
لتحقيق هذه الأهداف الكبرى. عمل المسلمون على تعزيز أساطيلهم الحربية وأسسوا دور الصناعة البحرية والذين أطلقوا عليهم مصطلح “دار الصناعة”. انتشرت هذه المنشآت في مدن ساحل البحر المتوسط الرئيسية. مثل عكا وصور في الشام، والإسكندرية وجزيرة الروضة في مصر، وتونس وبجاية في تونس، وألمرية والجزيرة الخضراء في الأندلس.
تأسست دار الصناعة الكبرى لإنشاء السفن الحربية في مصر منذ بداية الخلافة الأموية. ولكن في وقت لاحق. تطلب الأمر من الخليفة معاوية إنشاء دور صناعة جديدة على الساحل الشامي، مثل عكّا. وهذا يظهر أهمية السواحل الشامية كمراكز حيوية لصناعة السفن وتطوير الأساطيل.
تجلى هذا الأمر بوضوح في تاريخ الصناعة البحرية الإسلامية. حيث شهدنا توسعًا في الأساطيل البحرية مع تأسيس دور الصناعة في مناطق مختلفة من الدولة الإسلامية. وعندما امتدت الفتوح الإسلامية إلى المنطقة الغربية، أصبح من الضروري إنشاء دور الصناعة في هذه الأقاليم لمواجهة التحديات المستمرة من قبل الأساطيل البيزنطية والأوروبية المجاورة. ولذلك، تم تأسيس دور الصناعة في مدن مثل تونس وبجاية وغيرها، حيث كانوا يقومون بإنشاء السفن الحربية وتطويرها.
عناية فائقة بصناعة السفن الحربية في المنطقة الإسلامية
تطورت “دار الصناعة” في مصر بشكل كبير في منتصف القرن الثالث/التاسع الميلادي بفضل جهود القادة الإسلاميين البارزين. بعد مجيء القائد التركي أحمد بن طولون كوالي للعباسيين وتأسيس دولة الطولونية. توجه الاهتمام نحو تطوير الأساطيل البحرية. واستمر هذا الاهتمام في فترة حكم محمد بن طُغْج الإخشيد، مؤسس دولة الإخشيدية.
وقد اهتم هؤلاء الزعماء بنشر الصناعة البحرية. حيث أُنشئت مراكز لبناء السفن الحربية في مناطق مختلفة مثل ساحل فسطاط في مصر. وقد استمرت هذه الجهود حتى أيام ملك الإخشيديين محمد بن طُغْج، الذي أنشأ دار الصناعة بساحل فسطاط في مصر وجعلها مركزًا هامًا لصناعة الأساطيل البحرية.
من خلال جمع المعلومات التي جمعها المقريزي من المؤرخين السابقين. يظهر أن صناعة الأساطيل البحرية في مصر كانت في أوجها أثناء حكم الفاطميين. فقد أنشأ الخليفة المعز لدين الله دار الصناعة الكبرى بالقرب من ميدان رمسيس بالقاهرة وبنى بها ستمئة مركبة حربية متقدمة للزمن. مما جعلها واحدة من أهم مراكز بناء السفن في تلك الفترة.
أما في منطقة الشام، فقد كانت بيروت تستضيف واحدة من أهم دور صناعة السفن بدولة المماليك. بعد هجوم قبرص اللاتيني على الإسكندرية في عام 767هـ/1365م. قرر المماليك إنشاء مراكب حربية لاجتياح قبرص. تم جلب الصُّناع المهرة من مختلف الممالك وأنشئت مراكز صناعية في ظاهر بيروت لبناء هذه المراكب الحربية التي كانت تستخدم في المياه البحرية.
الريادة في صناعة السفن وأساطيل الأندلس الإسلامية
في الغرب الإسلامي، أظهرت سلاطين الأندلس الأمويين وأتباعهم اهتماماً كبيراً بإقامة دور صناعة السفن الحربية والتجارية. وفي كتابه “قصة الحضارة”. يشير المؤرخ الأميركي ويل ديورانت إلى أن الأندلس كانت لديها أكثر من ألف سفينة تجارية تنقل ثروات الأندلس ومنتجاتها إلى إفريقيا وآسيا. وكانت هذه السفن تأتي من مئات السواحل المزدحمة بالنشاط التجاري.
ومن بين أهم دور صناعة السفن في الأندلس كان الذي أُنشئ في مدينة ألمرية. ووفقًا لابن سعيد المغربي في كتابه “المغرب”، توجد ألمرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكانت بها دار الصناعة المتخصصة في بناء السفن.
وأيضًا كانت مدينة دانية مكانًا آخر حيث كانت هناك دار صناعة بحرية كبيرة. وفي كتاب “الروض المعطار” للحميري. يشير إلى أهمية دور صناعة السفن في دانية حيث كانت تصنع السفن التي كان يخرج بها الأسطول للمشاركة في الغزوات.
ومن اللافت أن الأمويين في الأندلس لم يكونوا يولون اهتماماً كبيراً لتقوية أساطيلهم الحربية حتى وقوع كارثة هجوم الفايكنغ على سواحل الأندلس في عام 229 هـ/844م. هذا الهجوم الذي اشتهروا فيه بالمجوس أو الأردمانين (النورمانيين) أسفر عن اقتحامهم لشواطئ الأندلس الجنوبية واجتياحهم إشبيلية ونهبهم لها. وهذا الحدث الكارثي الذي يذكره ابن سعيد في كتابه “المغرب”، شجب فيه هذا الهجوم ووصفه بأنه استمر سبعة أيام.
القوة البحرية الإسلامية: صناعة الأساطيل والأمويون والموحدون
قد دقّت تلك الواقعة جرس الإنذار. مُنذرةً بالمخاطر المحدقة بخلو البلاد من قوة بحرية تكفي للدفاع ضد هجمات المتسللين البحريين الماهرين. وبفعل تلك التحديات، شهدنا جهوداً نشطة لإقامة أساطيل بحرية حربية أصبحت لها سمعة مهمة ومكانة مرموقة. لاحظنا أنه بعد مرور خمس سنوات فقط من تولي الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني (ت 238هـ/852م) الحكم. استطاع إصدار أمره بتجهيز أسطول قوامه ثلاثمئة مركب وإرساله إلى جزيرتي ميورقة ومنورقة. التي تقع قبالة الساحل الشرقي للأندلس. هذا الإجراء أثر بشكل كبير على مصير جزر البليار، حيث أصبحت جزءًا مهمًا من حضارة الأندلس الإسلامية على مدى أربعة قرون.
تطوّر أسطول الأمويين في الأندلس إلى درجة عالية من القوة في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م). وقد سجّل ابن خلدون هذه الزيادة في القوة بالقول: “في أيام عبد الرحمن الناصر، بلغ عدد مراكب أسطول الأندلس مئتي مركب أو حواليها، وكانت تجهَّز للإبحار والقتال”.
في عهد وزير الأمويين الأشهر بالأندلس، المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ/1003م). شهدنا زيادة في حملات الغزو إلى معاقل الممالك المسيحية في شمال البلاد وغربها. ولقد شارك في 57 حملة غزو بنفسه. مما يظهر التزامه الشديد بتوسيع نفوذه البحري. وفي عام 387هـ/989م. قرر المنصور توسيع سيطرته البحرية غرب الأندلس (البرتغال الحالية) وأمر بإنشاء أسطول كبير تم تجهيزه بالموارد البشرية والعسكرية اللازمة، مما أظهر العزم والاستعداد للتوسع.
وعندما بسطت دولة الموحدين سيطرتها على الأندلس منتصف القرن السادس عشر. استفادت من براعة الأندلسيين في مجال العلوم البحرية وصناعة الأساطيل. أسست دار صناعة جديدة في مدينة سلا بالمغرب بإشراف المهندس محمد بن علي الإشبيلي، الذي كان معروفاً بخبرته في الهندسة ورفع الأثقال. تُصنع في هذه الدار الأساطيل البحرية والسفن التي شكلت جزءًا مهمًا من نجاح دولة الموحدين في توسيع نفوذها وتعزيز سيطرتها على البحر والمناطق الساحلية.
تنظيم وتمويل دور صناعة السفن الحربية في العصور الإسلامية
في سعيها لإنشاء دور صناعة السفن الحربية، أظهرت الدول الإسلامية اهتمامًا بتنظيم وتمويل هذه الصناعة بشكل دقيق. تمثل هذه الجهود الاهتمام الموازي بتنظيم العمل داخل هذه الدور وإشرافه. وتوجيه الموارد البشرية والمواد الصناعية اللازمة لضمان تحقيق أهدافها المحددة. في العصور الإسلامية الأولى. كانت هناك مثالًا واضحًا لتلك الجهود في إنشاء دار صناعة السفن الحربية في تونس أيام الأمويين.
وفيما يتعلق بهذا الموضوع، يقدم البكري الأندلسي في كتابه “المسالك والممالك” تفاصيل مهمة حول كيفية إنشاء دار صناعة السفن الحربية في تونس. يشير البكري إلى أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كتب إلى شقيقه عبد العزيز. الذي كان واليًا لمصر في ذلك الوقت، بأن يوجه إلى تونس ألفًا من القبطيين مع أهلهم وأطفالهم. وأن ينقلهم من مصر ويقدم لهم الدعم اللازم حتى يصلوا إلى تونس. وتم بناء دار صناعة السفن الحربية في تونس وجاء القبطيون إلى تونس بإشراف حسان بن النعمان.
وفي العصر العباسي، كان للخليفة المتوكل اهتمام خاص بتنظيم الأساطيل البحرية. تم تجهيز غزاة البحر بشكل جيد، وتم تدريب الناس في مصر على مهارات الرماية والمحاربة. وكان للقواد المسؤولين عن الأساطيل خبرة كبيرة في مجال الحرب والبحر، وكانوا مهارين في التعامل مع السفن والأسلحة.
فيما يتعلق بالمملوكين، نجد أن صناعة العمائر في مصر كانت مزدهرة في القرن العاشر الميلادي. تم تصنيع مختلف أنواع السفن الحربية والقوارب بمصر، وكان للملاحين رواتب شهرية مرتفعة. وكانوا يتلقون مكافآت إضافية لمساهمتهم في تعزيز الأسطول. وكان هناك أيضًا مصانع لبناء وصيانة هذه السفن في مصر والإسكندرية ودمياط.
في العصور اللاحقة، وتحديدًا في العصور المملوكية، شهدنا تفصيلًا أدق لإدارة شؤون البحرية في مصر. تم تشكيل “ديوان الجهاد”. وهو الجهة المسؤولة عن الأساطيل البحرية وصناعة السفن وتجهيزها. كذلك تم توفير الموارد اللازمة والرواتب للعاملين في هذه الصناعة، وضمان توفير المعدات والمواد اللازمة. كذلك تم أيضًا توجيه الاهتمام لضمان أن يكون العاملون مهارين وخبراء في مجال البحر وصناعة السفن.
تنوع واختصاص: السفن في العصور الإسلامية
تاريخ الحروب الصليبية (492-690هـ/1099-1291م) شهد أداءً مميزًا لأساطيل البحرية الإسلامية في بلاد الشام ومصر. حيث لعبت دورًا بارزًا في مواجهة العدوان الصليبي. وفي عام 550هـ/1160م. كان قائد الأسطول المصري الفاطمي أميرًا بارعًا يُعرف بالإختصار بالإسم الذي أطلقته عليه المصادر. يُذكر ابن القلانسي في “تاريخ دمشق” أن وزير الفاطميين. طلائع بن رُزِّيك الأرمني، ارتضى تولية القيادة البحرية وكان خبيرًا في شؤون البحر.
ازداد تنوع السفن التي استخدمها المسلمون في أساطيلهم بشكل لافت. حيث خصصوا لكل فئة من الناس سفينة تتناسب مع احتياجاتها، سواء كانت سفنًا حربية أو تجارية أو لأغراض سياحية ونقل. ولكل مجالٍ من مجالات الاستخدام خصصت سفنًا مُختلفة في الأحجام والأشكال والسرعات والقدرات.
على سبيل المثال، للفئات العليا من الأمراء والوزراء والولاة وكبار التجار كانت هناك سفن خاصة مجهزة بالأمور التي تتناسب مع مكانتهم وتوفير سبل الراحة. يُذكر ابن بطوطة في رحلته عن وجود سفن مُخصصة للأمراء.
وبفضل نشاط النقل البحري في مختلف المجالات مثل التجارة والسياحة. حققت السفن أرباحًا كبيرة. فقد استخدم الناس السفن لأغراضهم اليومية وللتنقل بين المناطق. في العراق. سُجِّلت إيرادات كبيرة من خدمات النقل البحري، حيث كانت السفن تقدم الخدمات للسلطان والرعية.
أما بالنسبة لأصناف السفن، فكانت متنوعة ومُخصصة لأغراض متعددة، بدءًا من القراقير الكبيرة وحتى الزوارق الصغيرة. والسلالير، والطرايد، والغربان، والشواني، والشياطي، والعُشاريات. هذا التنوع في السفن يعكس التفكير الاستراتيجي والتخطيط الدقيق الذي اتبعه المسلمون في تلبية احتياجاتهم في مجال البحر والسفر.
تنوع استخدامات السفن في العصور الإسلامية
النويري يُلقي الضوء على الاستخدامات المتعددة للسفن في تلك العصور، حيث تكمن لكل نوع منها مكانته ودوره الخاص في الحروب ونقل الجيوش والخيول والبضائع ومستلزمات الجند.
فالقراقير كانت مخصصة لنقل البضائع، وبعضها كان يحتوي على ثلاثة طوابق وثلاثة أشرعة تُمكِّنها من الملاحة في الرياح العاصفة. أما الطريدة فكانت مُجهَّزة بأبواب خلفية قابلة للفتح والإغلاق، واستُخدمت لنقل الخيول خلال الحروب. أما الغربان فقد كانت تُستخدم لنقل الجنود وتجهيزهم بالأسلحة، وكانت بعضها مُجهَّزة بمئة وثمانون مجذافًا والبعض الآخر كان أصغر من ذلك.
ويشير النويري إلى أن الشيطي كان يجرّ بواسطة ثمانين مجذافًا وكانت وظيفته النقل ونقل المؤن. وكان يُستخدم أيضًا الخبري لاستطلاع الأمن والتواصل مع القراقير والغربان وغيرها من السفن الأخرى. أما العُشاري فكان يُجرّ بواسطة عشرين مجذافًا، وكان مخصصًا لنقل البضائع والرجال من الساحل إلى سفن العمق، حيث لا تستطيع القراقير الوقوف إلا في المياه العميقة. أما القوارب الصغيرة كانت مفيدة للغزاة المسلمين خلال الحروب في البحر، حيث كان في كل قارب أربعة أو خمسة من الرماة يقومون بمساعدة الغربان المسلمة في مواجهة الغربان الفرنجية وقراقيرها، وذلك بفضل سرعتها وخفتها على مراكب الفرنج.
الثراء في مصطلحات واستخدامات السفن في الحضارة الإسلامية
في العصور الإسلامية، كان لدى المسلمين مجموعة متنوعة من السفن والمصطلحات المتعلقة بها، وكانوا يفهمون جيدًا كيفية استخدام السفن المختلفة في الحروب والتجارة والنقل.
استعار المسلمون مفهوم السفن البحرية “البوارج” من الهنود، وقد ورد في تاريخ الطبري أنهم دخلوا بغداد في سنة 251 هـ بعشر سفن بحرية تُسمى “البوارج”، وكانت كل سفينة تضم رئيس الملّاحين وثلاثة نفّاطين ونجّار وخبّاز، بالإضافة إلى تسعة وثلاثين رجلًا من الجذّافين والمقاتلين، مما يجعل إجمالي عدد الركاب في كل سفينة حوالي خمسة وأربعين شخصًا.
كما عرف العصر الإسلامي أيضًا السفن الحربية العملاقة، حيث وردت تفاصيل عن قوة الأسطول الصقلي الذي امتلك مئتي شينية (سفن حربية كبيرة)، وثلاثة وثلاثين طريدة (سفن تحمل الخيول)، وستة مراكب كبيرة مُجهَّزة للحرب، بالإضافة إلى أربعين مركبًا تحمل الأزواد. كانت هذه الأساطيل تحمل أعدادًا هائلة من الجنود والفرسان.
وكان البحارة المسلمون يفهمون جيدًا التضاريس البحرية وكيفية اختيار السفن المناسبة لكل نوع من البحار. على سبيل المثال، كانت مراكب البحر الأحمر تختلف عن سفن البحر المتوسط بسبب وجود الشعاب المرجانية والصخور، وبالتالي كان لديهم مراكب مخصصة تُسمَّى “الجُلّاب” لنقل الحجّاج. وقد وصف الرحالة الأندلسي ابن جبير كيفية صناعة هذه المراكب، حيث تُصنع بدقة باستخدام الأمراس والقنبار دون استخدام مسامير ألبتة.
إلى جانب هذا الثراء في مصطلحات السفن، نجد أيضًا مصطلحات تشير إلى عملية صناعة السفينة نفسها، والتي كانت جزءًا أساسيًا من الحياة في البحار، مثل مصطلح “الجَلْفَطَة” الذي يصف عملية تركيب ألواح السفينة وتأليفها بدقة واتقان، وكان يتم ذلك دون استخدام المسامير بل بواسطة استخدام القنبار والزفت والقار.
مفهومات مصطلحات السفن في اللغة والحضارة الإسلامية
اللغة العربية والحضارة الإسلامية غنيتا بمفهومات مصطلحات السفن التي تعكس التفاصيل والأدوار المختلفة في هذا الميدان.
يُشير مصطلح “شحن السفينة” إلى ملء السفينة بالبضائع وجعلها جاهزة للإبحار بجميع تجهيزاتها. وبالنسبة لمصطلح “الميناء”، فهو المكان الذي تتجمع فيه السفن وترتبط به حيث يتم تحميل وتفريغ البضائع.
أما مصطلح “الربّان”، فهو الشخص الذي يقود السفينة ويتحكم فيها خلال رحلتها. يُعتبر هذا المصطلح مهمًا لتحديد قائد السفينة أو الرائس أو الريّس.
يجب التفريق بين مصطلح “الربّان” ومصطلح “النُّوخِذَة” أو “الناخودة”، الذي يشير عادة إلى الشخص الذي يمتلك السفن لأغراض التجارة أو النقل أو الصيد، وقد يكون أحيانًا أيضًا ربّانًا. ومن المثير للاهتمام أن الرحالة ابن بطوطة قد التقى بأحد هؤلاء الناخودة أثناء رحلته إلى الهند، ووصفه بأنه يمتلك ست سفن مخصصة له، وكان لديه سمعة جيدة في ميادين التجارة بالهند والصين واليمن وفارس بفضل ثروته وعدد مراكبه الكبير.
مجتمع على متن السفن: رحلات طويلة وحياة فاخرة في البحار الإسلامية
في ظل طول فترات الرحلات والأسفار عبر البحار، والتي قد تستمر لأسابيع أو حتى أشهر، قام المسلمون بتصميم سفن عملاقة لتلبية احتياجات الركاب وضمان راحتهم. تم تجهيز هذه السفن بمرافق للنوم ومطابخ وأماكن للاستحمام، وتم تخصيص جزء كبير لتخزين الطعام بكميات تكفي مئات الركاب. بعض السفن حتى كانت متعددة الطوابق والأدوار، مما جعلها تبدو وكأنها مدينة عائمة. وفي هذه السفن، توفرت مجموعة متنوعة من البضائع والسلع للبيع للركاب، مما جعلها تشبه أحيانًا أسواقًا متنقلة.
الرحالة الأندلسي ابن جبير شارك تجربته الشخصية أثناء عودته من المشرق إلى الأندلس على متن إحدى هذه السفن الكبيرة. وقال إن السفينة كانت تمتلك الزاد الكافي لركابها، وكانت مدينة جامعة متنقلة تحتوي على كل ما يحتاجه الركاب من مؤن وطعام وفواكه متنوعة، وذكر أمثلةً مذهلةً مثل الرمان والسفرجل والبطيخ والكمثرى والحمص والباقلاء والبصل والثوم والتين والجبن والحوت، وغيرها الكثير. كل هذه السلع كانت معروضة للبيع داخل السفينة!
ابن بطوطة، في رحلته إلى بحار الهند الإسلامية والصين، وصف سعة السفن هناك بأنها تصل إلى أربعة طوابق، وتحتوي على بيوت ومصاري وغرف للتجار. كما وجد أن بعض الركاب يمتلكون مصريات خاصة بهم وكانوا يزرعون الخضراوات والبقول والزنجبيل فيها. كانت هذه السفن مجتمعات متنقلة بذاتها، حيث عاش رجال البحرية وأسرهم على متنها وزرعوا الطعام الطازج.
تجارب البحارة: بين مخاوف الضياع ومغامرات البحر
من أجل حماية أموالهم وأمتعتهم من الضياع في رحلاتهم البحرية، كان التجار والبحارة يتبعون استراتيجية توزيع ممتلكاتهم وتجارتهم على أكثر من سفينة عند الضرورة. يُسجل في الكتب التاريخية أن ابن سيرين سأل بحارة عن كيفية تصرفهم مع أموالهم، فأجابوه قائلين إنهم يقسمونها بين السفن، حتى إذا تعرضت إحدى السفن للعُطب، يمكن أن تتم الاستفادة من الأموال المتبقية في السفن الأخرى. ولولا أهمية السلامة والأمان، لم يكن من العقلاني حمل خزائنهم على متن السفن أثناء الرحلات البحرية.
إلى جانب راحة ووسائل الأمان التي توفرها الأساطيل البحرية، سجلت حياة البحر بوجود مغامرات وصعوبات تتعلق بالظروف البيئية والتقلبات الجوية وكذلك المخاطر البشرية مثل الخطف والقرصنة. تم توثيق هذه الأحداث في قصص رحلات البحار وأساطيرها، ونتج عنها في الثقافة العربية نوعًا من “الأدب البحري”. بدأ هذا النوع من الأدب من سواحل مدينة سيراف على الساحل الغربي لإيران، حيث كانت مركزًا لتلاقي البحارة والتجار من مختلف الأماكن والثقافات.
أقدم هذه القصص والتجارب تجدها في كتاب بعنوان “رحلة السيرافي”، والذي يعود تاريخ جمعه إلى القرن الثالث للميلاد. في هذا الكتاب، يصف التاجر سليمان السيرافي البصري رحلته إلى الصين ويروي القصص التي سمعها من الربابنة العرب الذين سافروا بين البصرة والصين.
السيرافي يتحدث عن الأعاصير والزوابع التي شاهدها البحارة في بحر الهند والتي كانت تتمثل في سحب بيضاء تمتد من السماء إلى سطح البحر، مما يتسبب في ارتفاع الأمواج وظهور زوابع هائلة تلتهم كل شيء في طريقها.
إرث المعرفة في علوم البحار وفنون الملاحة
تجمع أساطيل المسلمين، سواء كانت تعمل في السلم أو في الحرب، قرونًا من الخبرات والمعرفة في مجال الملاحة وعلوم البحار. هذه الخبرات الغنية خلفت تراثًا هائلًا في هذا الميدان. يُظهِر الحسن بن عبد الله العباسي في كتابه “آثار الأُوَّل” تفصيلات عديدة حول حروب البحر ويقدم نصائح قيمة لقادة الأساطيل. يُشير إلى أهمية صيانة وتقوية المراكب والحفاظ على آلاتها. كما يوصي باختيار قواد ورؤساء ملمين بمسالك البحر والظروف البحرية المتغيرة.
يوضح العباسي أدوات وتكتيكات يجب استخدامها أثناء الصدام البحري مع العدو. يُشجع على استخدام النورة المدقوقة والنفط والقُدور والجلود واللُّبود المبلولة بالخل أو الماء لصد نار العدو. ويُنصح باليقظة خلال الليل وعدم إشعال النار أو المصابيح في السفن لتجنب الهجمات الليلية.
مصدر آخر مهم للمعرفة حول حياة ومعارك البحر هو كتاب “الأحكام الملوكية والضوابط الناموسية في فن القتال في البحر” لمحمد بن منكلي الناصري. كان الناصري قائدًا في الجيش المملوكي في عصر السلطان الأشرف شعبان. في هذا الكتاب، يوضح أوقات مناسبة لبناء السفن وأوقات لإبحارها ورسوّها. كما يقدم نصائح حول الطعام والشراب الضروريين لركاب البحر قبل الرحيل وأثناء الرحلة.
اقرأ كذلك : فرنسا تناشد بربروس والبحرية العثمانية وتهديهم ميناء طولون تعرف الى السبب؟
معارف البحارة العرب: بين الفلك والجغرافيا والملاحة
تحمل تاريخ الجغرافيا البحرية العربية العديد من الأخبار والمعارف التي تتعلق بالبحارة وعلوم الملاحة وقواعدها. يشتمل ذلك على فهم علوم الفلك التي كان يستخدمها الربابنة للملاحة في المحيطات والبحار. كانوا يستندون إلى معرفتهم بالمنازل والأبراج الفلكية وتغيرات السماء وحركة النجوم لتحديد مواعيد الإبحار واتجاهات الرياح.
الربابنة والنواخذة استفادوا من هذه المعارف الفلكية والجغرافية وأصبح بعضهم مشهورًا بخبرته ومعرفته. ذكر المسعودي مثالًا عن عبد الله بن وزير الذي كان معروفًا بمعرفته بالبحر والملاحة وكانت له سمعة طيبة في هذا المجال.
الربابنة والبحّارة قاموا بتوثيق معارفهم في مؤلفات وأراجيز تحتوي على قواعد الإبحار والتقنيات والإرشادات. يُظهِر الجغرافي المقدسي البشاري مثالًا على هذه المرشدات البحرية في كتابه “أحسن التقاسيم” حيث يشير إلى أنه توجه في رحلاته بمشايخ عرب يمتلكون معرفة بالبحر والملاحة. ويُظهر الكتابات التقليدية لهؤلاء البحّارة أنهم توارثوا القواعد والتقنيات عبر الأجيال.
وبلغت هذه المعرفة ذروتها مع “أحمد بن ماجد النجدي” الملقب بـ “أسد البحر”. يُعتَبَر واحدًا من أشهر الربابنة العرب وقام بابتكار البوصلة البحرية المعروفة باسم “الحُقّ” أو “الإبرة”. في كتابه “الفوائد في أصول علم البحر والقواعد”، يؤكد على أهمية مراجعة السفن قبل الإبحار وتسجيل أي عيوب وعلل فيها، بالإضافة إلى أهمية تحديد اتجاه الرياح والتيارات البحرية.
الإسهام المؤثر لأحمد بن ماجد والربابنة في علوم الملاحة
أوجه ابن ماجد، الربان المشهور، توجيهات حكيمة بخصوص مكان وتثبيت البوصلة على متن السفينة لضمان استقرارها. يشدد على ضرورة التفقد الدقيق لوضع البوصلة لتجنب أي مشاكل قد تؤثر على اتجاه الرحلة. ينصح أيضًا بسماع الآراء الحكيمة والتصرف بالأخلاق الحميدة.
إلى جانب البوصلة، كان لدى الربابنة المسلمين مناظير رؤية تمكنهم من مراقبة مياه البحار واكتشاف الصخور والشعاب التي تشكل تهديدًا للسفينة. يستخدم النوتي المعروف على متن السفينة هذه الأداة لمراقبة ما يحدث تحت سطح الماء ويوجه القبطان بناءً على ملاحظاته.
قطب الدين النهروالي المكي يسلط الضوء على دور أحمد بن ماجد في مساعدة المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما على الوصول إلى الهند. ويظهر أن هذا التعاون ساهم بشكل كبير في نجاح رحلة دي غاما إلى الهند.
إسهام البحارة المسلمين في رسم خرائط العالم الجديد
لم يقتصر إسهام البحارة المسلمين على مساعدة فاسكو دي غاما في اكتشاف الطريق إلى الهند وجنوب شرق آسيا. بل قاموا أيضًا برسم أول خريطة للعالم الجديد في القرن السادس عشر، وكانت هذه الخرائط تتفوق في دقتها على صور الأقمار الصناعية الحديثة. واشتهر الملاح والخرائطي العثماني محيي الدين بيري ريِّس برسم هذه الخرائط.
من بين أهم ما يميز خرائط بيري ريِّس، ولا سيما الخريطة الثانية التي قدمها للسلطان سليمان القانوني، هو رسمه لقارات العالم الجديد في تلك الفترة، بما في ذلك الأميركتين الشمالية والجنوبية، بدقة مدهشة. حتى أن العلماء الحاضرين في ندوة جامعة جورج تاون عام 1956 أثنوا على دقة هذه الخرائط ووصفوها بأنها تتفوق بكثير على معرفة الغربيين في علم الجغرافيا في ذلك الوقت.
اقرأ كذلك : حملة نهر بروت .. عندما لجأ ملك السويد إلى الأراضي العثمانية لحماية نفسه من روسيا