من الذي أثر في الهزيمة العسكرية المصرية في حرب 1948.. تحليل لأوراق النكبة
التأثير الكارثي لنكبة عام 1948 وتبعاتها على مصر والعالم العربي .. بداية نكسات متتالية
في أواخر عام 1947، كانت الأوضاع الإقليمية مشتعلة حول مصر لعدة أسباب، منها قرار تقسيم فلسطين وإقرار وجود الصهاينة فيها. في الوقت نفسه، كانت داخل مصر، التي احتلتها بريطانيا منذ عام 1882. هناك حالة من الغضب المتزايد على مستوى الحكومة والشعب بسبب التدخل البريطاني في شؤون البلاد والنهب المستمر لثرواتها والتحكم في قراراتها.
ومع تصاعد التوترات، كانت قوات الجيش المصري ضعيفة من ناحية التسليح والتدريب واللوجستيات. نتيجة للتدخل البريطاني وتجاهل الحاكمين لضرورة تطوير الجيش. ولكن بعض قادة الجيش في تلك الفترة أدركوا خطورة تمدد العصابات الصهيونية في فلسطين وتأثيرها على مصر في المستقبل.
على سبيل المثال، قام رئيس أركان الجيش المصري الفريق إبراهيم عطا الله باشا بطلب دعم وتسليح الجيش في نوفمبر 1945 خلال اجتماعه في البرلمان المصري. حيث أشار إلى أهمية تعزيز الجيش للدفاع عن مصر في ظل تزايد الخطر الصهيوني في فلسطين. مؤكداً أن الهدف ليس الاعتداء على أحد، وإنما تعزيز القوة الدفاعية للبلاد.
جيش مصر غير مُستعد لمعركة حاسمة في فلسطين
في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كانت مصر تشهد موجة إضرابات واحتجاجات ضد السياسة البريطانية في البلاد. وفي هذا السياق، رأى الملك فاروق فرصة في قضية فلسطين لتحسين أوضاعه الداخلية وصورته الخارجية كزعيم عربي. بدأ يدفع حكومة محمود فهمي النقراشي باشا بمشاركة الجيش المصري في معارك فلسطين لمحاربة العصابات الصهيونية. ولكن النقراشي كان يدرك تماماً أن الجيش المصري غير مهيأ لمعركة حاسمة بسبب نقص التسليح والعتاد.
رغم تحفظ النقراشي ومعرفته بتحديات الجيش. إلا أن ضغط الملك فاروق وافقه على قرض بقيمة 4 ملايين جنيه مصري لتمويل المصروفات الإضافية للجيش المصري على الحدود مع فلسطين في محاولة لتحسين الأوضاع.
مع هذا السياق، كانت هناك غضب واستياء شديدين في مصر بشأن الأوضاع في فلسطين، وخاصة من جماهير الإخوان المسلمين وحركة مصر الفتاة وغيرها من الجماعات والحركات السياسية. تعززت هذه المشاعر بسبب عجز الحكومة عن تلبية تطلعات المتطوعين والفدائيين من الإخوان الذين كانوا يرغبون في الدخول إلى فلسطين لمقاتلة العصابات الصهيونية. بالإضافة إلى ذلك، دخل الإخوان فلسطين قبل الجيش المصري بشكل غير رسمي قبيل معارك عام 1948. وهذا أضاف ضغطًا إضافيًا على الملك فاروق لتوجيه الجيش المصري نحو معركة للحفاظ على صورته وهيبته.
استعدادات غير كافية وانعدام تصور عسكري في حرب 1948
يرى المؤرخ عبد الوهاب بكر أن الفكر المظهري والشكلي كان سائدًا في الدوائر الرسمية خلال فترة حرب 1948. حيث غاب التصور العسكري الجدي للعمليات الحربية. كانت الأمور متسمة بالميوعة وعدم المسؤولية. حيث كانت المراسلات والوثائق تركز على تعزيز وصيانة وتحسين أوضاع القوات بدلاً من مناقشة خطط أو استراتيجيات مستقبلية.
الملك عبد الله الأول ملك الأردن أيضًا أيد هذا الرأي. مؤكدًا أن القوات العربية المجتمعة لم تكن كافية لمواجهة العصابات الصهيونية. وصف الأمور بأنها “تظاهر عربي عسكري وقرار مرتجل في إدخال قوات يعلم رؤساؤها أنها كانت غير كافية”.
وكان دليلًا كبيرًا على عدم استعداد الحكومة والملك فاروق للقتال الكافي هو إنشاء لجنة تسمى “لجنة احتياجات القوات المسلحة”. حيث أنشأتها وزارة الحربية في 13 مايو 1948، أي قبل يومين فقط من دخول القوات المصرية إلى فلسطين. هدفت هذه اللجنة إلى تأمين احتياجات القوات المشاركة في الحرب من الأسواق المحلية أو العالمية. ونظرًا لعدم معرفة الجيش بالضبط بأهدافه ومواعيدها، فقد واجهت اللجنة صعوبات كبيرة في توفير ما كان مطلوبًا. وهذا ينفي دور “الأسلحة الفاسدة” كسبب للهزيمة. الفشل الحقيقي يعود إلى عدم وجود خطة عسكرية وقلة العتاد واللوجستيات المطلوبة.
تحت ضغوط الإمداد والتجهيز .. واقع الجيش المصري قبل دخوله إلى فلسطين
الوثائق توضح أن وضع الجيش المصري كان يشير إلى وضع سيء للغاية قبل أيام من دخوله إلى فلسطين. فقد كان هناك عجز كبير في عربات النقل الكبيرة بلغ حوالي 302، وفي عربات نقل “البيك آب” بلغ حوالي 112. وفي عربات الجيب بلغ حوالي 45. وكان حجم قذائف المدفعية يكفي فقط لمدة أسبوعين للقوات في فلسطين. وكان احتياطي البنادق والرشاشات يكفي فقط لمدة شهر واحد. وهذا يعني أن ما تم استهلاكه من ذخيرة لم يكن من الممكن تعويضه بسبب نقص الإمداد. حتى بعد توقيع هدنة في يونيو 1948. لم تتمكن مصر من الحصول على الذخائر اللازمة لقواتها. والمعدات التي تم توريدها كانت بكميات غير كافية لمواجهة الضغط الشديد على القوات.
في محاولة للتعامل مع هذه المأزقات العاجلة، اقترح بعض الحلول الغريبة والغير تقليدية. واقترح الاتصال بشركات الأسلحة الأوروبية وإبرام عقود معها. حتى لو كان ذلك يتطلب التساهل في بعض الاعتبارات المتعلقة بشروط العقود. كما اقترح أيضًا إرسال مندوبين عسكريين من جميع الوحدات إلى الصحاري للبحث عن الذخائر وقنابل الطائرات وموارد عسكرية أخرى. تلك المقترحات تكشف عن مدى تدهور الجيش المصري في ذلك الوقت من حيث التجهيز والإعداد والتسليح.
وفي الواقع، كانت قوات الجيش المصري في وضع سيء جدًا، حيث لم تشهد أي مناورات عسكرية منذ عام 1931 وحتى عام 1947. كان دورها محدودًا للغاية وتم تخصيصه للأنشطة المدنية مثل حفظ النظام ومكافحة الكوارث وقمع الاحتجاجات. كان الجيش قد تحول إلى أداة مدنية صرفة بدلاً من القوة العسكرية الفعالة.
الجيش المصري في ميدان فلسطين
تكوَّنت القوات المصرية التي دخلت لتحرير فلسطين في 15 مايو/أيار 1948 من نحو خمسة آلاف إلى ستة آلاف مقاتل انتظموا في مجموعة لواء مشاة. كان هذا اللواء مكونًا من ثلاث كتائب وأورطة مدرعة وفوج مدفعية ميدان غير كامل التدريب، بالإضافة إلى ست طائرات مقاتلة، وخمس طائرات نقل، وطائرة استطلاع، وكاسحة ألغام في العريش وبورسعيد، وخمسة زوارق إنزال تستطيع نقل سريتين مشاة أو 250 طنا من الحمولة. وكانت هذه القوة بقيادة الأميرالاي (العميد) أحمد علي المواوي بك، الذي كان مدير سلاح المشاة المصري في تلك الفترة.
كانت هناك ثلاث كتائب من أصل تسع كتائب تكوَّنت لتكون القوات المصرية في تلك الفترة والتي نشرت على الحدود بين مصر وفلسطين. كانت هذه الكتائب هي الكتيبة السادسة بقيادة محمد نجيب، الرئيس الأول لمصر ورئيس أركانها جمال عبد الناصر الرئيس الثاني، والكتيبة التاسعة بقيادة عبد الحكيم عامر، والكتيبة الأولى بقيادة زكريا محيي الدين. وعلى الرغم من أن كل هذه القوات كانت تحت قيادة العميد المواوي، إلا أن فشلها في معارك النقب الأولى أدى إلى إقالته وتعيين اللواء أحمد فؤاد صادق باشا لقيادة الجيش.
عند دخول الجيش المصري إلى فلسطين، توجَّهت أولاً لمحاصرة مستعمرة “الدنقور”، وكانت الكتيبة السادسة بقيادة العميد محمد نجيب هي التي قامت بهذه المهمة، بمساعدة أركانها بمن فيهم جمال عبد الناصر. لم تكن لديهم معلومات كافية عن المستعمرة وسكانها، وعن تحصيناتها وأسلحتها. ونظرًا لعدم توفر الوقت الكافي لاستطلاع الأرض، اعتمدوا على معلومات البدو المحليين. وعندما حاولوا اختراق الأسلاك الشائكة للمستعمرة، واجهوا مقاومة شديدة بسبب تحصيناتها القوية. على الرغم من الخسائر الجسيمة التي أصيبت بها الكتيبة المصرية، أعلن الإعلام المصري بنجاح عملية تطهير الدنقور تلك الليلة.
معركة الجيش المصري في فلسطين
فشلت الكتيبة السادسة من الجيش المصري في اقتحام مستوطنة الدنقور الصهيونية. فيما بعد، زحفت الكتيبة التاسعة نحو غزة، حيث استقبلها أهل المدينة بترحاب كبير. كانت الطائرات المصرية المرافقة تقوم بقصف تل أبيب وتلقي القنابل عليها. خلال هذه العمليات، تعرضت إحدى الطائرات المصرية لإصابة في خزان الوقود نتيجة رصاصات الدفاعات الصهيونية، وسقط قائدها، الذي كان نجل مدير قسم الخيالة في الجيش.
بعد تمكن الكتيبة التاسعة من السيطرة على غزة، تركت مواقعها للكتيبة السادسة بقيادة نجيب وعبد الناصر، ثم تقدمت إلى الشمال صوب دير سنيد أو مستوطنة “ياد مردخاي”، التي كانت تقع على بعد 10 كيلومترات جنوب عسقلان.
من أغرب ما يرويه مؤرخ فلسطين عارف العارف هو أن القوات المصرية، بعد دخولها غزة، قامت بسحب أسلحة الفدائيين الغزاويين وأجهزة الاتصالات واللاسلكي الخاصة بهم. كان الاعتقاد السائد بين الجنود والضباط المصريين أن هناك خونة في غزة قد يدلون اليهود بمواقع القوات المصرية، وذلك بسبب توسيع اليهود للخلاف بين المصريين وأهل غزة. هذه الوقيعة أدت إلى توتر العلاقة بينهم في ظل التقدم الصهيوني نحو الشمال.
وأمام مستوطنة “ياد مردخاي”، نشبت معركة شرسة بين قوات الكتيبة المصرية والصهاينة. استمرت هذه المعركة لخمسة أيام، وقد تسببت في سقوط العديد من الشهداء المصريين. السبب الرئيسي وراء هذه الخسائر الكبيرة كان عدم توفر قوات مدرعة كافية للجيش المصري ليحقق تقدمًا في الوقت المناسب. بعد هذه المعركة، تقدمت قوات الكتيبة التاسعة صوب مناطق أخرى، ولكنها واجهت صعوبات في الدفاع عن نفسها بسبب نقص الدعم والاتصالات.
نكبة أفضت إلى نكسة
في الـ11 من يونيو/حزيران عام 1948، وتزامناً مع هدنة مؤقتة، وصل الجيش المصري إلى مناطق قطاع أسدود ونيتسانيم. وكان هذا الجيش يتألف من اللواء الثاني المشاة، الذي يضم كتائب 4 و5 و6، وقسم من الفوج 1 و3، بالإضافة إلى مدفعية الميدان. وعلى الحدود الجنوبية، كان هناك اللواء الرابع مشاة وسرية من الكتيبة الثامنة احتياط، وقوات من السودان والجيش السعودي. وتوجد قوات مصرية أخرى في مناطق مثل المجدل وعراق سويدان والفالوجة وغزة.
استمرت الهدنة لمدة أربعة أسابيع، ولم يحصل الجيش المصري على أي دعم إضافي من السلاح أو العتاد خلال هذه الفترة. بالمقابل، حصلت إسرائيل على دعم دولي كبير وسخرت كل إمكانياتها لتحسين وضعها القتالي. وفيما احترمت القوات المصرية الهدنة، استغل الصهاينة هذه الفترة لتعديل ترتيباتهم القتالية واستعادة مناطقهم التي كانت قد سُلبت منهم في النقب وشرق الفالوجة.
بنهاية الهدنة، واجهت القوات المصرية في الجبهة الجنوبية ثلاثة ألوية إسرائيلية: “لواء جفعاتي”، “لواء هارئيل”، و “لواء النقب”. وفي الشهور التالية، تم توقيع العديد من هدن الحرب، وآخرها كان في ديسمبر عام 1948. وفي هذا السياق، قامت إسرائيل بعملية تسمى “حوريب” بهدف الاستيلاء على المناطق التي تموضعت فيها القوات المصرية. واستغلت إسرائيل الوضع الدولي وقرار مجلس الأمن الصادر في نوفمبر عام 1948 بوقف إطلاق النار للتقدم في هذه العملية.
نكبة عام 1948 وحربها كانت لها تأثير عميق على مصر والعالم العربي، وكانت بداية لنكبات أخرى وصراعات تلتها في السنوات والعقود التي أعقبتها، مما فتح الباب أمام احتلال إسرائيل للعديد من المناطق العربية، مثل الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء. وكانت تلك الفترة مؤشرًا على الضعف وعدم الاستعداد للجيوش العربية، وسط بسالة المقاتلين العرب في معارك عديدة.
اقرأ كذلك : ماذا قدم السلطان عبد الحميد للقدس وفلسطين في مواجهة هرتزل؟