لماذا أصبحت أفريقيا أولوية لإيران بعد الحرب؟ تحليل استراتيجي في ضوء تحولات أوروبا والعالم
كيف غيّرت الحرب حسابات إيران تجاه أفريقيا؟
لماذا أصبحت أفريقيا أولوية لإيران بعد الحرب؟ تحليل استراتيجي في ضوء تحولات أوروبا والعالم … عقب الحرب التي استمرت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل، برزت إشارات واضحة لتحولات في سياسة طهران الخارجية. وبينما تتابع أوروبا هذه التطورات بقلق، تتجه إيران نحو القارة الأفريقية باعتبارها محورًا استراتيجيًا جديدًا. لقد أثبتت الحرب أن إيران لم تعد ذلك الطرف القابل للعزل، بل أصبحت قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، حتى من قبل الدول الأوروبية.
رغم أن من المبكر الحديث عن نتائج نهائية، إلا أن مؤشرات الحرب والانعكاسات على علاقات طهران مع أفريقيا باتت مهمة جدًا. والسبب أن التفاعلات والتحالفات الجارية في القارة تجعل منها ساحة منافسة حقيقية، خصوصًا في ظل الانكماش الأوروبي.
العلاقات الإيرانية – الأفريقية: مسار طويل وتراكم استراتيجي
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، لم تكن علاقة إيران بأفريقيا ثابتة. بل تأرجحت تبعًا للمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. إلا أن طهران حرصت على نسج علاقات متعددة مع دول شمال وجنوب وشرق وغرب القارة. وساعدت عوامل عديدة في بناء هذا التوجه، من بينها المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والتعاون الفني والعسكري.
وخلال الأربعين سنة الماضية، أصبحت أفريقيا سوقًا كبيرة للمنتجات الإيرانية، خاصة السلاح. وتقدّمت إيران في هذا المجال بعد روسيا والصين وتركيا. بل إنها تعاونت مع أكثر من عشرين دولة أفريقية، مدشّنةً وجودًا قويًا لا يمكن تجاهله. أوروبا من جانبها تراقب هذا التمدد الإيراني في أفريقيا بعين القلق، خصوصًا في المناطق الحيوية مثل القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
إيران بعد الحرب: واقع سياسي جديد وضرورات التمدد في أفريقيا
انتهت الحرب الأخيرة لكنّ آثارها الجيوسياسية لا تزال مستمرة. فقد خرجت طهران من المعركة محتفظة بمكانتها الإقليمية. لم تتمكن الضربات الأمريكية أو الإسرائيلية من إسقاط النظام أو زعزعة استقراره. بل إن الحرب منحت إيران بطاقة قبول في الملعب الدولي بصفتها قوة فاعلة يصعب تجاوزها. لذلك، أصبح الانفتاح على أفريقيا جزءًا من استراتيجية الرد والتوسّع الإيراني.
ورغم الخراب والخسائر، فإن إيران لا تعيش اليوم عزلة كتلك التي عاشتها سابقًا. فالغرب، بما فيه أوروبا، بات مضطرًا إلى التفكير بتفاهمات جديدة مع طهران. خصوصًا في ملفاتها النووية والصاروخية. وأفريقيا ستكون الساحة التي تختبر فيها إيران قدراتها على المناورة وتوسيع النفوذ.
تراجع المخاوف الأفريقية: كيف كسر الإيرانيون الجدار النفسي؟
قبل الحرب، كانت معظم الدول الأفريقية تتجنب الانفتاح على إيران. والسبب الرئيس كان الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي حذّرت من التعامل مع طهران. لكن الأمور تغيّرت الآن. التقارب الإيراني – الخليجي، لا سيما مع السعودية، أدى إلى إزالة الكثير من الحذر الأفريقي.
التحول في المزاج السياسي الأفريقي، خاصة تجاه إسرائيل، شجّع بلدانًا كثيرة على إعادة النظر في علاقاتها مع إيران. إلا أن المغرب ما زال يحتفظ بموقف مناهض لطهران، بسبب دعمها لجبهة البوليساريو. أوروبا أيضًا بدأت تدرك أن أفريقيا لم تعد كتلة صمّاء يمكن توجيهها حسب الرغبة الغربية.
التعاون الإيراني – الأفريقي: آفاق جديدة بعد الحرب
اليوم، تقف إيران أمام فرصة نادرة لتعزيز تعاونها مع الدول الأفريقية. ومن أبرز مسارات التعاون:
-
زيمبابوي والنيجر: تبادل النفط مقابل اليورانيوم.
-
غرب أفريقيا: توسيع الشراكة العسكرية والتجارية.
-
السنغال وموزمبيق وتنزانيا وإثيوبيا: تطوير الصناعات الزراعية والسيارات.
-
البحر الأحمر وباب المندب: تكريس الحضور الإستراتيجي من خلال الشراكة مع جيبوتي وإريتريا والسودان.
هذه المجالات ليست فقط تجارية أو سياسية. بل تحمل بعدًا إستراتيجيًا يتقاطع مع مصالح أوروبا المباشرة. فعبر السيطرة على مضيقي هرمز وباب المندب، تقترب إيران من التحكم بأهم ممرات التجارة الدولية. الأمر الذي يضعها في موقع تفاوضي قوي حتى مع العواصم الأوروبية.
محور إيران – روسيا – الصين: تكتل جديد في أفريقيا يهدد أوروبا
إحدى نتائج الحرب المهمة كانت تسريع تقارب طهران مع موسكو وبكين. ومع انسحاب فرنسا والولايات المتحدة من عدة مناطق أفريقية، بات هذا المحور في موقع ممتاز للتمدد. الدول التي تتحرك ضمن هذا التحالف تشمل:
-
شمال أفريقيا: الجزائر وتونس وربما مصر.
-
الساحل الأفريقي: النيجر، مالي، بوركينا فاسو، وغينيا كوناكري.
-
شرق أفريقيا: السودان، جيبوتي، إثيوبيا، الصومال، وتنزانيا.
-
جنوب القارة: جنوب أفريقيا، موزمبيق، أنغولا.
جنوب أفريقيا تحديدًا تشكّل رأس الحربة في هذا المحور الجديد. فهي تمتلك نفوذًا تاريخيًا وتحالفًا استراتيجيًا مع طهران. وهذا الحضور يقلق أوروبا، التي باتت ترى القارة تنزلق من بين يديها.
القوّة الناعمة الإيرانية في أفريقيا: النفوذ عبر الثقافة والمذهب
عبر العقود الماضية، استثمرت إيران بكثافة في أدوات القوة الناعمة بأفريقيا. فأسّست مراكز ثقافية، وحوزات علمية، ومؤسسات إعلامية، ونظّمت مناسبات دينية. بل قدّمت آلاف المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، لتكوين نخب ثقافية مرتبطة بها.
واليوم، توجد مجتمعات شيعية كبيرة في دول مثل نيجيريا (أكثر من 5 ملايين)، السنغال، سيراليون، غانا، وليبيريا. كما تنتشر في الشرق والجنوب الأفريقي: كينيا، تنزانيا، مدغشقر، ملاوي، وزامبيا. وفي وسط أفريقيا: تشاد، الكونغو الديمقراطية، الغابون، والكاميرون. أوروبا من جانبها تفتقر لأدوات موازية لمواجهة هذا التمدد الثقافي الإيراني في القارة.
أوروبا وإيران في أفريقيا: ميدان التنافس القادم
يبدو واضحًا أن التنافس بين أوروبا وإيران في أفريقيا سيشتد. السبب في ذلك أن القارة السمراء تمثل فرصة لكلتا القوتين لتعويض تراجع النفوذ في مناطق أخرى. أوروبا لا تستطيع الآن تجاهل النفوذ الإيراني، خصوصًا بعد الحرب التي أظهرت قدرة طهران على الثبات والردع.
في المقابل، تسعى إيران لتعويض خسائر الحرب من خلال بناء تحالفات جديدة. هدفها الأول هو ترسيخ وجودها في أفريقيا، والتمدد عبر البوابة الاقتصادية والثقافية والسياسية. ولتحقيق ذلك، ستستخدم طهران كل ما في جعبتها من أدوات تأثير، رغم التحديات المالية الراهنة.
خلاصة: هل تكون أفريقيا بوابة إيران نحو أوروبا من جديد؟
تعيش أفريقيا اليوم تحولات غير مسبوقة. أنظمة تنهار. قوى صاعدة تبرز. النفوذ الفرنسي يتراجع. الولايات المتحدة تنسحب تدريجيًا. في هذا الفراغ، يجد محور إيران – روسيا – الصين فرصة ذهبية للتمدد.
وإذا كانت الصين وروسيا تتحركان اقتصاديًا وعسكريًا، فإن إيران تمزج بين المذهب والسياسة والثقافة. ولذلك فإن أوروبا، إن أرادت الحفاظ على مكانتها، بحاجة إلى إعادة صياغة سياساتها في أفريقيا. أما إيران، فرغم جراح الحرب، فهي تستعد لتكون اللاعب الأكثر تأثيرًا في قارة الفرص القادمة.
اقرأ كذلك: ما هي الدولة التالية في مخطط إسرائيل؟