تاريخ وثقافة

ماذا قدم السلطان عبد الحميد للقدس وفلسطين في مواجهة هرتزل؟

المساهمة الاستثنائية للسلطان عبد الحميد في تحسين بنية البنية التحتية والمؤسسات في القدس خلال حكمه العظيم

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، نشأت فكرة الحركة الصهيونية كفكرة تهدف إلى إنشاء وطن قومي لليهود. انتشرت هذه الفكرة بين اليهود في أوروبا الشرقية والوسطى. حيث سعوا إلى التخلص من التمييز والعداء الذي واجهوه في تلك المناطق والحكومات التي استولت على شعوبها.

قاد هذه الحركة الصحفي النمساوي المعروف تيودور هرتزل (1860-1904م). والذي نجح في تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا في عام 1897م. كان هرتزل حريصًا على إقناع اليهود الأثرياء وذوي المكانة البارزة بأن الوطن القومي المستقبلي لليهود يجب أن يكون في فلسطين بالتحديد. وليس في الأرجنتين أو أوغندا كما اقترحه بعض الأشخاص.

سعى هرتزل إلى تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتنظيم الجهاز الإداري للمنظمة التي ستكون مسؤولة عن تنفيذ هذه الأهداف، وكان هذا الجهاز هو “الوكالة اليهودية”. كما عمل على جمع الأموال والتبرعات لدعم هذا المشروع الوطني.

جهود هرتزل في التقريب بين الحركة الصهيونية والسلطان عبد الحميد

في سعيها لتحقيق أهدافها، بدأت الحركة الصهيونية بزيادة الاتصالات مع القوى العظمى. واستغلت علاقاتها الواسعة مع قادة أوروبا. كانت لديها علاقة ممتازة مع القيصر الألماني وليام الثاني. الذي كان مقربًا من السلطان العثماني عبد الحميد. الأخير كان يتوجه نحو الألمان لتحديث الصناعات العسكرية ومشروعات ضخمة مثل سكة حديد برلين-بغداد. وهذا كان جزءًا من محاولته لمواجهة التوسع البريطاني والفرنسي في المنطقة.

تمكن هرتزل من إقناع الإمبراطور الألماني بأهداف الحركة الصهيونية من خلال أصدقائه المؤثرين. وبعد عام من انعقاد مؤتمر الحركة الصهيونية الأول، التقى هرتزل بالفعل مع القيصر الألماني. في هذا اللقاء. طلب القيصر من هرتزل أن يقدم مقترحًا للسلطان عبد الحميد. فأجاب هرتزل قائلاً: “نحن نأمل أن يسمح لنا السلطان بإنشاء شركة ذات امتياز تحت الحماية الألمانية”.

ماذا قدم السلطان عبد الحميد للقدس وفلسطين في مواجهة هرتزل؟

لقاء السلطان عبد الحميد وهرتزل: تصاعد الجهود الصهيونية واستراتيجية ألمانيا

في الاجتماع الذي جمع بين السلطان عبد الحميد والقيصر الألماني في وقت لاحق. = قدَّم القيصر أفكار هرتزل وأصدقائه ومطالبهم. وكانت ردة فعل السلطان سلبية للغاية. لكن عندما التقى الإمبراطور الألماني هرتزل لاحقًا في القدس. أعرب عن دعمه للجهود التي يبذلها اليهود في تعزيز الزراعة في فلسطين، شرطًا أن يحترم اليهود السيادة العثمانية ويظلوا وفينا للسلطان العثماني.

في تلك الفترة، كانت رؤية ألمانيا الاستراتيجية تركز على ضمان وحدة الدولة العثمانية وحماية أراضيها من التدخلات الاستعمارية البريطانية والفرنسية. وبناءً على ذلك. رفض السلطان عبد الحميد مطالب الصهاينة، ودعا زعماء الحركة الصهيونية إلى الامتثال لهذه الرؤية.

من ناحية أخرى، علم هرتزل بالتحديات التي واجهتهم من جانب ألمانيا وأدرك أن ذلك يشكل عقبة أمام تحقيق أهدافهم. لذلك، قرر أن تكون خطواته القادمة مستقلة عن الألمان. وبدأ يسعى إلى ترتيب لقاء مباشر مع السلطان عبد الحميد. في الفترة بين عامي 1896 و1902، زار هرتزل إسطنبول خمس مرات. ونجح في مقابلة السلطان عن طريق وساطة صديقه اليهودي النمساوي نيولنسكي، الذي كان أيضًا صديقًا للسلطان عبد الحميد.

صراع الإرادات: عبد الحميد يُطرد هرتزل بعد محاولات متكررة لشراء فلسطين

هرتزل، من خلال وسطاء، قدم عرضًا لبريطانيا لإعادة جزيرة قبرص، التي احتلتها في عام 1878، إلى الدولة العثمانية. وفي مقابل ذلك. طلب من الحركة الصهيونية دعمًا لوقف دعم الدول الأوروبية للقضية الأرمنية التي كانت تهدد وحدة الدولة العثمانية في شرق الأناضول. لكن السلطان عبد الحميد رفض هذه العروض.

رغم رفض السلطان، نجح هرتزل في لقاء السلطان عبد الحميد بعد وساطات أخرى في 18 مايو 1901. خلال هذا اللقاء، أبدى السلطان عبد الحميد رفضه لبيع أي جزء من أراضيه. مؤكدًا أنها تعود للشعب العثماني الذي دافع عنها بدمائه.

لم يكتف هرتزل بالرد السلبي من السلطان، بل قدم عرضًا ماليًا مغريًا بقيمة 5 ملايين ليرة ذهبية. محاولًا إقناع السلطان بضرورة تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. ورغم تأكيد اليهود على ولائهم للسلطان العثماني، إلا أن السلطان أبقى على موقفه.

كان السلطان يراقب نشاط الحركة الصهيونية من خلال مخابراته وعناصره في أوروبا. وكان يدرك خططهم وأهدافهم بعيدة المدى. وبالتالي، في لقاء آخر، قرر السلطان عبد الحميد طرد هرتزل ومُرافقيه. وقد سجَّل السلطان تفاصيل هذا اللقاء في مذكراته. حيث أكد على رفضه لفكرة توطين المهاجرين في فلسطين وشدد على حق شعبه في أرضه.

إسهامات السلطان عبد الحميد في تنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين

في القرن التاسع عشر، شهدت فلسطين تدفقًا نسبيًا من اليهود الذين هاجروا إليها قبل مؤتمر الحركة الصهيونية بعقدين على الأقل. كانت هذه الهجرة ناتجة عن ظروف صعبة تعرض لها اليهود في دول أوروبا الشرقية. وخصوصًا بعد اتهام يهود روسيا بالتورط في اغتيال القيصر الإسكندر الثاني. وعلى الرغم من هذه الهجرة. فإن نسبة المهاجرين إلى فلسطين كانت ضئيلة جدًا ولم تتجاوز 2% من الهجرات اليهودية الإجمالية في تلك الفترة.

لكن متصرف القدس العثماني لاحظ هذه الهجرات وأرسل تقارير إلى الحكومة العثمانية في إسطنبول. رد الحكومة على هذه التقارير كان بعدم السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين. ولكن اليهود تمكنوا من تفادي هذا القرار عبر دخولهم إلى بيت المقدس كحجاج ثم البقاء لفترات أطول من تلك المصرح بها في تأشيراتهم العثمانية. بعد ذلك، كانوا يطلبون الحماية من دول أوروبية كبرى مثل بريطانيا وفرنسا. ولتنظيم هذه العمليات، سمحت قوانين الدول الأوروبية بممارسة حماية دينية للأقليات داخل الدولة العثمانية.

في مواجهة هذه الوضعية، قام السلطان عبد الحميد بفرض قيود إضافية على دخول اليهود إلى فلسطين. أصدر فرمانًا في عام 1884 لمتصرف القدس العثماني، ينص على أن الحُجاج اليهود يُسمح لهم بدخول منطقة القدس فقط إذا كانوا يحملون جوازات سفر تحمل التأشيرة العثمانية. وعند دخولهم، كان عليهم دفع تأمينًا يضمن مغادرتهم بعد مرور 30 يومًا.

دعم السلطان عبد الحميد للقدس والمقدسيين في وجه تحديات الهجرة اليهودية

في فترة الزمن بين عامي 1890 و1891، أصدر السلطان عبد الحميد ثلاث فرمانات سلطانية ذات أهمية كبيرة. الفرمان الأول قضى بطرد المهاجرين اليهود إلى أميركا. حيث كان يُخشى من أن وجودهم في فلسطين قد يؤدي في المستقبل إلى إنشاء حكومة يهودية في القدس. الفرمان الثاني نفى فكرة استيطان اليهود في فلسطين لأسباب تتعلق بمصالح السكان المحليين. أما الفرمان الثالث. فحذّر من خطر هجرة اليهود ونشاطهم في الزراعة. مشيرًا إلى أن هذا يهدف إلى إقامة دولة يهودية وقد يؤدي إلى الإضرار بمصالح الفلسطينيين.

في الوقت نفسه، أظهر السلطان عبد الحميد اهتماما كبيرًا بدعم القدس والمقدسيين بكل الوسائل الممكنة. فتح الباب أمام الطلبة المقدسيين للالتحاق بالمدارس والجامعات العثمانية، وخصوصًا جامعة إسطنبول. هناك أمثلة تاريخية عديدة على ذلك، مثل الطبيب حسام أبو السعود الذي أكمل دراسته في نهاية القرن التاسع عشر وكان معروفًا بعلاجه للمقدسيين الفقراء وتوفيره للأدوية مجانًا. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك عالم الطب البيطري علي النشاشيبي ومهندس السكك الحديدية نظيف الخالدي. اللذين أكملا دراستهما في نفس الجامعة في عهد السلطان عبد الحميد، وساهما فيما بعد في إنشاء سكة حديد الحجاز.

إنجازات السلطان عبد الحميد في بناء وتطوير القدس

عارف العارف، مؤرخ القدس وفلسطين، يسلط الضوء على العديد من المشاريع البارزة التي قام بها السلطان عبد الحميد في مدينة القدس. على رأس هذه المشاريع يأتي خط سكة حديد القدس–يافا الذي بلغ طوله 87 كيلومترًا وتم إنشاؤه خلال فترة ثلاث سنوات بين عامي 1889 و1892م. هذا الخط الحديدي سهل انتقال المقدسيين وشجع على ازدهار الاقتصاد المحلي في المدينة، حيث أصبح من الأسهل الوصول إلى القدس من مواني يافا على البحر المتوسط.

بالإضافة إلى ذلك، أولى السلطان عبد الحميد اهتمامًا كبيرًا لتحسين البنية التحتية في المدينة المقدسة. قام برفع البلاط القديم من شوارعها وأزقتها في عام 1885م واستبدله ببلاط جديد استمر في الاستخدام حتى سبعينيات القرن العشرين.

ومن بين المشاريع الأخرى التي قام بها في القدس المستشفى البلدي الذي أُقيم في حي الشيخ بدر غربي المدينة عام 1891م. كما قام ببناء شبكة الهاتف في المدينة بالتعاون مع المهندسين المقدسيين عام 1905، وشيد برج الساعة فوق باب الخليل في عام 1909م.

علاوة على ذلك، حرص السلطان عبد الحميد على ترميم الأسبلة المائية القديمة في القدس وإنشاء أخرى جديدة. في عام 1907م، قرر إنشاء سبيل باب الخليل الملاصق لسور المدينة، وجدد عمارة السبيل الكبير في الحرم القدسي، وكذلك سبيل باب القطانين ودرج الصخرة من الغرب، وسبيل السلطان المملوكي قايتباي.

إنجازات السلطان عبد الحميد في تطوير وتحسين القدس

في سياق حرص السلطان عبد الحميد الثاني على تطوير وتحسين القدس، نجد العديد من المشاريع النموذجية التي قام بها خلال حكمه الذي استمر بين عامي 1876 و1909م. من بين هذه المشاريع كان نقل مياه قرية أرطاس، والتي تقع على بعد 12 كيلومترًا جنوب المدينة. تم تنفيذ هذا المشروع لمواجهة سنوات الجفاف وزيادة عدد السكان في تلك المنطقة. وما يجعل هذا الأمر ملفتًا للانتباه هو أن الإنجليز حولوا هذه المياه عن القدس في عام 1925م.

لم يقتصر اهتمام السلطان عبد الحميد على المشاريع التنموية فقط، بل امتد إلى المنشآت الدينية في المدينة المقدسة. ومن أبرز هذه المنشآت مسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، حيث تم تجديد بنيانهما وتحسين ظروفهما. وأيضًا تولى اهتمامًا خاصًا بالمنشآت التعليمية، حيث أمر والي القدس أحمد رشيد بك في عام 1906م بإنشاء المدرسة الرشيدية.

بهذه الجهود التي بذلها السلطان عبد الحميد، يتجلى اهتمامه بالمدينة المقدسة ودعمه للقدس وسكانها في مجالات متعددة، سواء في البنية التحتية، أو الدينية، أو التعليمية، وذلك على مرأى ومسمع من شباب المدينة الطموحين الذين استفادوا من توجيهاته وفتح أبواب الجامعات العثمانية لهم، ومن بينها جامعة إسطنبول.

اقرأ أيضاً: فارس غلوب الثائر .. بريطاني تحول إلى الإسلام وسطع بريقه في صفوف المقاومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات