حافظ الأسد والعداء مع ياسر عرفات: تاريخ مجزرة طرابلس
تعد العلاقة بين حافظ الأسد، الرئيس السوري الراحل، وياسر عرفات، قائد منظمة التحرير الفلسطينية، واحدة من أكثر العلاقات السياسية تعقيدًا في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني. بدأ هذا العداء السياسي يتصاعد مع مرور الزمن، ليصل ذروته في العديد من الأحداث، منها مجزرة طرابلس التي كانت محطة مهمة في هذا الصراع. ولأن الصراع الفلسطيني السوري لم يكن مجرد خلاف بين دولتين، بل كان صراعًا أيديولوجيًا يتعلق بمسائل السيادة على قضية فلسطين، فقد كان له تأثير بالغ على مجريات الأحداث السياسية في المنطقة.
في هذا المقال، سنستعرض تطور العلاقة بين حافظ الأسد وياسر عرفات منذ البداية، ونحلل الأسباب التي قادت إلى مجزرة طرابلس، والأبعاد الاستراتيجية لهذا الصراع في سياق التاريخ الفلسطيني والسوري.
خلفية تاريخية: العلاقات السورية الفلسطينية قبل الأسد
قبل أن يتولى حافظ الأسد السلطة في سوريا، كانت العلاقة بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية تتمتع ببعض العلاقات الودية والتعاون المشترك، ولكنها كانت دائمًا معقدة بسبب التنافس الإقليمي والسياسي بين الزعماء العرب. كانت سوريا تروج للثوار الفلسطينيين وتعتبر قضية فلسطين جزءًا من مشروعها القومي العربي، ما جعلها تتعاون مع الحركات الفلسطينية في مختلف الأوقات.
مع صعود حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 بعد انقلاب عسكري، تغيرت ملامح هذه العلاقة بشكل جذري. بدأ الأسد في تعزيز نفوذ سوريا في المنطقة، وكانت القضية الفلسطينية جزءًا من هذا النفوذ الذي كان يسعى إلى فرضه في الصراع العربي الإسرائيلي.
حافظ الأسد وحركة فتح: بداية التوترات
في بداية السبعينيات، برزت حركة فتح، بقيادة ياسر عرفات، كأكبر فصيل فلسطيني وأكثرهم تأثيرًا في القضية الفلسطينية. بينما كان حافظ الأسد يسعى لفرض الهيمنة السورية على حركات المقاومة الفلسطينية، كان ياسر عرفات يسعى إلى الحفاظ على استقلالية منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين الطرفين.
كانت سوريا ترغب في استخدام القضية الفلسطينية كأداة لتوسيع نفوذها في المنطقة، لكنها لم تكن راضية عن سيطرة حركة فتح على القرار الفلسطيني. كان الأسد يرى في منظمة التحرير الفلسطينية مرآة لهيمنته في العالم العربي، وخصوصًا في لبنان، حيث كان يعيش العديد من الفلسطينيين.
التنافس على القيادة: الموقف السوري من ياسر عرفات
مع مرور الوقت، أصبح ياسر عرفات يمثل رمزية للثوار الفلسطينيين ومنظمة التحرير، وكان يعارض التدخلات السورية في الشؤون الفلسطينية. بينما كان حافظ الأسد يعتبر نفسه قائدًا لمشروع القومية العربية، كان يرى أن دعم الفلسطينيين يجب أن يتم تحت إشراف سوريا، وهو ما رفضه عرفات الذي كان يسعى لحماية استقلالية قراراته.
بدأت تتضح الخلافات بين الأسد وعرفات، وبدأت تظهر محاولات من الطرفين للسيطرة على فصائل المقاومة الفلسطينية. هذا التنافس على القيادة أدى إلى تدهور العلاقات بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية.
أحداث أيلول الأسود: بداية الانقسام الفلسطيني السوري
في عام 1970، شهد الأردن صراعًا داخليًا بين الحكومة الأردنية والفصائل الفلسطينية، وكانت نتيجة هذا الصراع مذبحة معروفة باسم “أيلول الأسود”. في هذه الأحداث، لم تقتصر الأحداث على الأردن فقط، بل تدخلت سوريا دعمًا للمقاتلين الفلسطينيين ضد النظام الأردني، إلا أن دمشق فشلت في تحقيق أي تقدم. في هذا الوقت، كانت العلاقة بين ياسر عرفات وحافظ الأسد في أدنى مستوياتها.
بالرغم من دعم الأسد المبدئي للفلسطينيين، إلا أن مساعداته كانت تأتي مشروطة بدفعهم إلى تنفيذ مواقف سياسية توافق المصالح السورية. ورغم موقف سوريا المعلن في دعمه للقضية الفلسطينية، إلا أن الافتقار للانسجام بين الطرفين كان يعكس حقيقة العلاقات بين الأسد وعرفات.
الحرب الأهلية اللبنانية: الصراع على النفوذ في لبنان
في عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وأصبح لبنان ميدانًا رئيسيًا للصراع على النفوذ في المنطقة. كانت سوريا تسعى إلى توسيع سيطرتها على لبنان، وفي نفس الوقت، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة ياسر عرفات تعتبر لبنان قاعدة رئيسية لمعاركها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وبينما كان حافظ الأسد يعمل على تعزيز النفوذ السوري في لبنان، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تتوسع في هذا البلد الذي استضاف العديد من الفصائل الفلسطينية. في تلك الفترة، أصبحت سوريا تفرض حضورًا عسكريًا في لبنان لحماية مصالحها، وهو ما دفع عرفات إلى اتخاذ مواقف متباينة، حيث كان يسعى للموازنة بين تحالفاته مع سوريا والحفاظ على استقلالية قرار المنظمة.
الجيش السوري في لبنان: دور حافظ الأسد في الأزمة اللبنانية
في بداية الثمانينات، كان الجيش السوري قد دخل لبنان بشكل مباشر في إطار دعم بعض الميليشيات اللبنانية وتثبيت الحكم السوري في هذا البلد. ورغم المساعدة العسكرية السورية في محاربة إسرائيل خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فإن علاقة سوريا بمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات كانت على المحك. كانت سوريا تأمل أن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية بإعلان ولائها لنظام الأسد، وهو ما لم يحدث.
ورغم جهود حافظ الأسد المتواصلة للضغط على الفلسطينيين في لبنان، لم تكن الفصائل الفلسطينية تقبل أن تكون تحت الهيمنة السورية. وكان هذا الانقسام بمثابة نقطة فاصلة في العلاقة بين الطرفين.
مجزرة طرابلس: بداية المواجهة الكبرى
في عام 1983، بدأت القوات السورية هجومًا مباشرًا على مدينة طرابلس اللبنانية، حيث كانت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات قد استقرت هناك بعد اجتياح لبنان من قبل إسرائيل. كانت طرابلس آخر معقل مهم للفلسطينيين في لبنان، حيث كانت القوات السورية تحاصر المدينة من جميع الاتجاهات. كان هدف الهجوم السوري هو القضاء على المقاومة الفلسطينية في لبنان، ولذا قامت القوات السورية بشن هجمات شرسة على المدينة.
كانت المجزرة جزءًا من خطة استراتيجية للنظام السوري للسيطرة على ما تبقى من معاقل حركة فتح والفصائل الفلسطينية. بينما كانت القوات السورية تتقدم، كانت المقاومة الفلسطينية تقاوم بشراسة، لكن التفوق العسكري السوري جعل الوضع أكثر تعقيدًا.
التداعيات السياسية للمجزرة: عواقب الهجوم السوري
أدى الهجوم السوري على طرابلس إلى مقتل العديد من الفلسطينيين، وكان بمثابة نكسة كبيرة لقيادة ياسر عرفات. رغم محاولاته الدفاع عن معاقل المقاومة الفلسطينية في لبنان، فقد اضطرت منظمة التحرير إلى الانسحاب من المدينة، ما أدى إلى خسارة استراتيجية هامة بالنسبة لها. كان لهذا الانسحاب تأثير كبير على معنويات الفلسطينيين، حيث كان يرمز إلى ضعف القيادة الفلسطينية أمام النظام السوري.
بعد هذه المجزرة، كانت العلاقات بين حافظ الأسد وياسر عرفات قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. كان عرفات يدرك تمامًا أن سوريا كانت تعمل على تصفية أي وجود لفصائل المقاومة الفلسطينية خارج سيطرتها. في المقابل، كان حافظ الأسد يتخذ من هذه المواجهات وسيلة لتأكيد الهيمنة السورية على القضية الفلسطينية.
الاستسلام الفلسطيني: نهاية المواجهة
في نهاية المطاف، وبعد أن عجزت الفصائل الفلسطينية عن مقاومة الهجوم السوري في طرابلس، اضطرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى التفاوض على هدنة مع النظام السوري. هذا التفاوض أدى إلى اتفاق على مغادرة الفلسطينيين مدينة طرابلس، ما شكل نهاية لوجودهم في لبنان، وترك فرصة لبقاء سوريا كقوة عسكرية رئيسية في المنطقة.
النتائج الاستراتيجية: تأثير الصراع على القضية الفلسطينية
أدت الأحداث التي نشأت عن المجزرة إلى تراجع كبير في تأثير منظمة التحرير الفلسطينية على مجريات الأحداث في لبنان والمنطقة. كما كانت هذه المجزرة بداية لمرحلة جديدة من التقارب بين النظام السوري وبعض الفصائل الفلسطينية التي كانت قد تتبنى الخط السوري.
اقرأ كذلك: من صلاح جديد إلى مروان حديد: كيف تخلص حافظ الأسد من خصومه