القلة والكثرة في القرآن الكريم.. بين المدح والذم وفق ميزان الحق
القلة والكثرة مفهومان متكرران في القرآن الكريم، حيث استخدمهما الله سبحانه وتعالى في سياقات متعددة. ولم يكن العدد في حد ذاته معيارًا للخير أو الشر، بل العبرة بما تحمله هذه القلة أو الكثرة من قيم ومبادئ. فقد تكون القلة محمودة لأنها على الحق، كما في قوله تعالى: “وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ” (المائدة: 49)، وقد تكون الكثرة سببًا للغرور والفساد، كما في قصة قارون الذي طغى بكثرة ماله.
هذا المقال يتناول مفهوم القلة والكثرة في القرآن الكريم، ويبين متى تكون كل منهما محمودة أو مذمومة، مستشهدين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وقصص من التاريخ الإسلامي.
مفهوم القلة والكثرة في القرآن الكريم
القلة والكثرة في القرآن لا ترتبط فقط بالأعداد، بل تشير إلى قيمة هذه الأعداد وتأثيرها. فهناك قلة مؤمنة مخلصة تكون أقوى من كثرة غافلة، كما في قوله تعالى:
“كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ” (البقرة: 249).
وفي المقابل، قد تكون الكثرة مذمومة عندما تعبر عن الباطل، كما في قوله تعالى:
“وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ” (الأنعام: 116).
القلة والكثرة في ميزان الإيمان والتقوى
الإيمان ليس مرتبطًا بالكثرة، بل غالبًا ما يكون المؤمنون قلة في المجتمع، كما في قوله تعالى:
“وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” (سبأ: 13).
وقد حث الرسول ﷺ على التمسك بالحق حتى لو كان الإنسان وحيدًا، فقال:
“بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء” (رواه مسلم).
القلة في الجهاد والصبر والمواجهة
من أعظم الدروس في القلة الصابرة المؤمنة هي قصة طالوت وجنوده القليلين الذين انتصروا رغم قلتهم، حيث قال تعالى:
“فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ” (البقرة: 249).
وهذا دليل على أن القلة قد تكون أقوى من الكثرة إذا كانت صابرة ومؤمنة.
متى تكون الكثرة مذمومة؟
1. عندما تكون سببًا للغرور والطغيان
الكثرة قد تدفع الإنسان إلى الغرور والاعتماد على القوة العددية بدلًا من الاعتماد على الله. وهذا ما حدث مع جيش كفار قريش في غزوة بدر، حيث كانوا أكثر عددًا، لكن الله نصر الفئة القليلة المؤمنة.
2. عندما تكون في المال والرزق بلا بركة
لم تكن الكثرة في المال يومًا دليلًا على النجاح، بل قد تكون فتنة كما في قصة قارون، الذي قال الله عنه:
“فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ” (القصص: 79).
لكن الله خسف به وبداره الأرض، ليبين أن الكثرة لا تنفع إذا لم تكن مقترنة بالشكر والطاعة.
3. عندما تكون في الأعمال السيئة
الله يحذر من أن يكون الإنسان مغترًا بكثرة أعماله دون أن تكون صالحة، فقال:
“وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا” (الفرقان: 23).
القلة والكثرة في العلم والحكمة
القلة قد تكون محمودة عندما تكون رمزًا للعلم والحكمة. فقد كان الأنبياء قلة، لكنهم حملوا نور الهداية للعالمين.
قال النبي ﷺ:
“يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” (رواه البيهقي).
وهذا دليل على أن العبرة ليست بكثرة العلماء، بل بجودة علمهم وتأثيرهم في الأمة.
القلة والكثرة ليستا معيارًا ثابتًا للحكم على الأمور، بل العبرة بالقيمة الحقيقية وراء العدد. فقد تكون القلة أفضل إذا كانت تحمل الحق، وقد تكون الكثرة وبالًا إذا كانت فارغة من الخير. لذلك، يجب على المسلم أن يبحث عن الحق والبركة في الأمور، وليس عن العدد فقط.
اقرأ كذلك: أم على قلوب أقفالها؟ تأثير القرآن في الحياة وعلى الفرد والمجتمع