تاريخ وثقافة

ابن بطوطة في الصين: ملاحظاته عن القبضة الأمنية ومشاهدته لأولى العملات الورقية في العالم

استقبال المسلمين لابن بطوطة في قنجنفو وتوثيقه للعلاقات التاريخية العميقة بين العرب والصين خلال رحلته إلى بكين في القرن الرابع عشر

في السنوات الأخيرة، أصبح حضور الصين في الشرق الأوسط والمنطقة العربية متناميًا لأسباب كثيرة. يشمل ذلك التوسع الاقتصادي وفائض الإنتاج الهائل الذي تتمتع به الصين داخليًا. تحتاج الصين المستمرة إلى أسواق جديدة لبضائعها، إضافة إلى حاجتها المتزايدة لمصادر الطاقة التقليدية مثل النفط والغاز. تتميز دول الخليج وإيران بتوفير هذه المصادر. لذلك، رأينا الصين ترعى اتفاق تقارب ومصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران. يُعتبر ذلك ضروريًا لإيجاد بيئة هادئة تحتاجها الصين لاستمرار تدفقات الطاقة.

أيضًا، يعكس هذا الاتفاق رغبة بكين في زيادة دورها السياسي خارج حدودها. تعتقد الولايات المتحدة أن الصين تشكل المهدد الرئيسي للنظام العالمي الحالي.

الوجود الصيني في المنطقة يتجسد عبر الشراكة الاقتصادية المتنامية. تنخرط الصين في مشاريع البنية التحتية وإدارة الموانئ. تستهدف الصين منطقة الشرق الأوسط كجزء أساسي من مشروعها “الحزام والطريق”. يسعى هذا المشروع إلى إنشاء شراكة اقتصادية ضخمة بين الشرق الآسيوي وقلبه الصين وبين العالم الغربي.

يعتبر الشرق الأوسط جزءًا محوريًا في هذا الطريق. تشمل الاستراتيجية الصينية الطويلة الأمد المنطقة العربية في الخليج والعراق وبلاد الشام ومصر.

العلاقات العربية المبكرة مع الصين

رغم وجود الصين في أقصى الشرق بعيدا عن العالم العربي؛ فإن العلاقات التاريخية بينهما تمتد لأكثر من ألفي عام. تحدث المؤرخون والرحالة المسلمون عن الصين منذ فترة مبكرة. واحدة من الأقوال المشهورة تحث على طلب العلم في الصين: “اطلبوا العلم ولو في الصين”. تشير الكتابات التاريخية إلى العلاقات العربية بالصين قبل مجيء الإسلام بعدة قرون. منذ ظهور طريق الحرير، كانت البضائع الصينية مثل الحرير والخزف والمفروشات تجد طريقها إلى المناطق العربية.

قبل أكثر من 1200 عام، وصل البحار العربي أبو عبيد إلى مدينة قوانغتشو على متن سفينة من ميناء صُحار العماني. هذا السجل يعتبر من أقدم سجلات الملاحة بين شبه الجزيرة العربية والصين. المؤرخ الجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي سجل التواصل البحري بين الصين والأقطار العربية في كتابه “مروج الذهب”. وصف مدينة خانقوا أو الخنساء، المعروفة اليوم بهانغتشو، عاصمة مقاطعة جيجيانغ. قال عنها: “مدينة خانقوا، وهي مدينة عظيمة على نهر عظيم أكبر من دجلة، يصب إلى بحر الصين. بين هذه المدينة وبين البحر مسيرة ستة أيام أو سبعة. تدخل هذا النهر سفن التجار الواردة من بلاد البصرة وسيراف (جنوب إيران) وعمان ومدن الهند… وغيرها من الممالك بالأمتعة والجهاز. تقرب إلى مدينة خانقوا، وفيها خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس، وغير ذلك من أهل الصين”.

وفقًا لهذا النص التاريخي، وُجد المسلمون في الصين كتجار وأهالي منذ العصر العباسي المبكر. ربما يعود وجودهم إلى العصر الأموي؛ حيث بدأ اللقاء الصيني العربي بعد استيلاء المسلمين على مدينة كاشغر على حدود الصين الغربية بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي عام 96هـ/715م.

هناك ثلاث رحلات عربية مبكرة إلى الصين في الأدب الإسلامي من القرنين الثالث والرابع الهجريين. الرحلات قام بها كل من أبي زيد السيرافي سنة 237هـ/851م، وابن وهب القرشي بعد عام 270هـ/883م، وأبي دلف مسعر بن مهلهل سنة 331هـ/942م. تؤكد رحلتان من هذه الرحلات الوجود الإسلامي في جنوب وجنوب شرق الصين بسبب كثافة التجار المسلمين القادمين من الجزيرة العربية وإيران والهند. كانت هناك جوامع، قضاة، أسواق عامرة، وعلاقات جيدة مع ملوك الصين.

الغرائب الصينية في رحلة ابن بطوطة

يُعد الرحالة الأشهر ابن بطوطة محمد بن عبد الله الطنجي من أهم من زاروا الصين وكتبوا عنها. زار ابن بطوطة الصين في القرن الرابع عشر الميلادي. تناول في كتاباته أوضاعها السياسية والاقتصادية عندما قدم سفيرًا من لدن ملك الهند. يقول: “إقليم الصين متسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة. لا يُضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض. يخترقه النهر المعروف بآب حياة، ويُسمّى أيضًا نهر السِّبر (السرو). منبعه من جبل بقرب مدينة خان بالق (بكين). يمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين (كانتون). تكتنفه القُرى والبساتين والأسواق كنيل مصر. إلا أن هذا أكثر عمارة، وعليه النواعير الكثيرة”.

وفقًا للمؤرخ البريطاني “هاملتون جب”، نهر الحياة الذي ذكره ابن بطوطة كان في جزئه الأول القناة الكبيرة بين بكين ونهر اليانج تسي. تُجّار الساحل كانوا يعرفون الشبكة المائية التي تصل بين هانج تشاو واليانج تسي بالنهر الغربي وكانتون في جنوب الصين.

أعجب ابن بطوطة بصناعة الخزف الصيني، الذي نسميه اليوم “الصيني”. يقول إنه لا يُصنع إلا في مدينة الزيتون، وهي “تسوان تشاو فو” شمال فوتشو الحالية. يُصنع أيضًا في مدينة صين كلان، المعروفة اليوم بـ”الصين الجنوبية”. يقرر ابن بطوطة أن هذا الفخار الصيني “يُحمل إلى الهند وسائر الأقاليم حتى يصل إلى بلادنا بالمغرب. وهو أبدع أنواع الفخار”.

من عجائب الصين التي لفتت انتباه ابن بطوطة ضخامة بعض طيورها مثل الدجاج والديوك. يقول: “اشترينا دجاجة وأردنا طبخها فلم يسع لحمها في بُرمة واحدة، فجعلناه في برمتين”.

الغرائب الصينية في رحلة ابن بطوطة

لاحظ ابن بطوطة أن الأسرة التي حكمت الصين في عهده كانت أحد فروع بيت جنكيز خان. بعد استيلائه على الصين بقرن، وصفهم بأنهم “كفار يعبدون الأصنام ويحرقون موتاهم مثل الهنود. ملك الصين تتريّ من ذرية جنكيز خان. في كل مدينة من مدن الصين توجد مدينة للمسلمين. ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها. المسلمون في الصين منظمون محترمون”.

الوجود الإسلامي في الصين يعود إلى زمن الأمويين والعباسيين. التجار المسلمون كانوا يفدون ببضائعهم من البصرة وعمان وإيران. استمرت هذه الوفود في الأزمنة اللاحقة. ذكر ياقوت الحموي في “معجم البلدان” أن بعض العلماء وتجار المسلمين الأندلسيين والمغاربة كانوا يصفون أنفسهم بـ”الصيني” لأنهم سافروا إليها واستقروا للتجارة واللقاء بالجالية المسلمة. منهم “سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري الأندلسي” (ت 541هـ) الذي كان يكتب لنفسه: الصيني لأنه سافر من المغرب إلى الصين. كان فقيهًا صالحا كثير المال. ومثله: “حميد بن محمد بن علي أبو عمرو الشيباني” الذي يعرف بحميد الصيني. سمع السري بن خزيمة وأقرانه من علماء الحديث في القرن الثالث الهجري.

أكثر ما لفت نظر ابن بطوطة أن أهل الصين كانوا من أوائل الأمم التي تعاملت بالعُملات الورقية. تركوا الدينار الذهبي والدرهم الفضي. قال: “أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. جميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا. بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد (ورق) كل قطعة بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان. تسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالِشت وهي بمعنى الدينار عندنا. إذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان، حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جُددا، ووضع تلك. لا يُعطي على ذلك أجرة ولا سواها”.

علق المؤرخ حسين مؤنس على هذا الأمر بأن ذيوع العُملة الورقية دليل على الانحدار الاقتصادي. الذهب والفضة تسربا إلى الخارج. في أوقات الاضطراب والتدهور، يُؤثر الناس الاحتفاظ بالذهب والفضة. أشار ابن بطوطة إلى ذلك عندما قال: “وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قِطعًا كما ذكرناه”.

يبدو أن الانحدار الاقتصادي استمر حتى فقدت العملة الورقية قيمتها تمامًا. أوقف طباعتها سنة 1368م حين انتهى حكم المغول. بعدهم جاء حكم أسرة مينغ، وهي أسرة صينية استمرت حتى عام 1644م. في عهد أسرة مينغ، اضطُهد المسلمون وتضاءل شأنهم بسبب استبداد أباطرة مينغ وتعصبهم المطلق ضد الإسلام.

القبضة الأمنية الصينية وأحوال المسلمين بها

كان ابن بطوطة من أواخر الرحالة المسلمين الذين زاروا الصين في ذروة تسامحها مع المسلمين تحت حكم أسرة يوان المغولية. لاحظ الكثير من عاداتهم في الطعام والشراب والملبس. قال: “يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم. أهل رفاهية وسعة عيش، لكن لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس. التاجر الكبير منهم، رغم ثروته، يرتدي جبة قطن خشنة”.

أبرز المهارات التي امتاز بها الصينيون كانت الرسم. وفاقوا فيها العالم، حسب وصف ابن بطوطة. رسموا ابن بطوطة وأصحابه من العرب، الذين كانوا يرتدون ملابس أهل العراق، عندما زاروا الصين. اندهش ابن بطوطة من سرعة رسمهم ودقتهم. قال: “أهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات، وأشدهم إتقانا فيها. التصوير لا يجاريهم أحد في إحكامه، لا من الروم ولا من سواهم. لهم فيه اقتدار عظيم. ما دخلت مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق”.

رأى ابن بطوطة صورته في قصر أحد حكام المدن. أخبره الحاكم أنه أمر الرسامين برسمه أثناء حضوره. انتبه ابن بطوطة للبُعد الأمني في رسم الصينيين للغُرباء الطارئين على بلدهم. قال: “عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم. إذا فعل الغريب ما يوجب فراره، بعثوا صورته إلى البلاد. حيثما وجد شبه الصورة، أُخذ”.

البُعد الأمني الدقيق والصارم عند الصينيين منذ أكثر من ثمانمئة عام يذكرنا اليوم بصرامة البُعد الأمني عند أحفادهم. الصين من أوائل الدول التي تنتشر فيها كاميرات المراقبة في كل زاوية وبناء. تُعد الصين اليوم رائدة في “المراقبة الجماعية” لسكانها والغرباء القادمين إليها، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه، وعرض سجلات المواطنين “الصالحين” و”غير الصالحين”. هذا ما انتبه إليه ابن بطوطة منذ قرون طويلة.

الإجراءات الأمنية عند الصينيين امتدت إلى تسجيل أسماء القادمين والمغادرين. كان لصاحب البحر أو رئيس “ديوان السفن والموانئ” مسؤولية رجوع المغادرين من الصينيين إلى الخارج. التفتيش الدقيق للبضائع كان ضرورياً. إن ثبت أن مركب “جنك” أخفى بضاعة واحدة، صودر المركب وحمولته لصالح الحكومة الصينية، التي سماها ابن بطوطة “المخزن”. هذا الاسم لا يزال يُطلق حتى اليوم على القصر الملكي في المغرب.

لفت انتباهه حرص الصينيين على سلامة التجار الأجانب وأموالهم. سواء نزلوا ضيوفًا على تجار من أهلهم أو في الفنادق، أثنى ابن بطوطة كثيرًا على الأمن في البلاد. قال: “بلاد الصين آمن البلاد وأحسنها حالًا للمسافر. الإنسان يسافر منفردًا مسيرة تسعة أشهر ومعه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها. ترتيب ذلك أن لهم في كل منزل (كل مسافة معلومة) ببلادهم فندق عليه حاكم يسكن به مع جماعة من الفرسان والرجال. بعد المغرب أو العشاء الآخرة، يأتي الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه، يكتب أسماء من يبيت بالفندق، يختم عليها، ويقفل باب الفندق عليهم. بعد الصبح، يأتي الحاكم مع كاتبه، يدعو كل إنسان باسمه، يكتب محضرًا (وثيقة رسمية)، ويبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني، يأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه”.

عندما نزل ابن بطوطة في مدينة كانتون بجنوب الصين، وجد بها بلدة كاملة للمسلمين. قال: “لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ. لا بد في كل بلد من بلاد الإسلام من شيخ إسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم”. استضافه كبار أعيان المسلمين في المدينة مدة 14 يومًا. يبدو أن المسلمين في مدن الصين كانوا من أمم شتّى. مستضيفه كان اسمه أوحد الدين السنجاري. سنجار بلدة في شمال العراق. وسنرى غيره من القادمين من المغرب ووسط آسيا في تلك الرحلة.

استقبال ابن بطوطة في الصين وتوثيقه للعلاقات الإسلامية الصينية

عند دخول ابن بطوطة مدينة قنجنفو في طريقه إلى بكين، عاصمة الصين القديمة، استقبله المسلمون بحفاوة كبيرة. خرج لاستقباله القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق وأهل الطرب. قال ابن بطوطة: “أتونا بالخيل وركبنا ومشوا بين أيدينا”. كان استقباله بهذا الشكل لأنه كان سفيرًا لملك الهند، قادمًا برسالة لخان الصين.

في قنجنفو، التقى ابن بطوطة بمواطن من بلده المغرب يُسمى قوام الدين السبتي. فرح ابن بطوطة بهذا اللقاء حتى بكى، لأنه ذكّره بوطنه وأهله. بعد ذلك، دخل ابن بطوطة بكين، التي يسميها “خان بالق”. وصفها بأنها من أعظم مدن الدنيا، وأن البساتين تقع خارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقلعة.

كان ملك الصين حينها توجون تيمور، آخر أباطرة أسرة يوان المغولية. خلفته أسرة مينغ فيما بعد. تأمل ابن بطوطة في قصر ملك الصين، واندُهش من اتساعه وكثرة جنوده وموظفيه وفرسانه. سلّم رسالة ملك الهند ثم عاد من حيث أتى. تُعد هذه الرحلة واحدة من أهم وأدق المعلومات التاريخية التي قدمها الرحالة العربي عن الصين بعيون عربية قبل نحو ثمانمئة عام. تجسّد هذه الرحلة عمق العلاقات العربية الإسلامية بالصين منذ مئات السنين.

اقرأ كذلك: لغز الحشاشين: أكثر الجماعات تشويشاً وعنفاً في تاريخ الإسلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات