بهجة الأعياد عند المسلمين: توزيع العيديات ذهباً في الحلوى واحتفالات باستعراضات الجيوش والأسود والفيلة وإطلاق سراح المساجين
ثمة علاقة وثيقة بين الأعياد والأديان عموماً. في الإسلام، تأتي الأعياد بعد مواسم شعائر جماعية واجتماعية ذات دلالة إنسانية عميقة. هذه الشعائر تمثل ركنين من أركان الإسلام الخمسة، وهما: فريضة الصيام وشعيرة الحج. الصيام يغير النفوس على المستوى الشخصي، بينما الحج يمثل التغيير على المستوى الاجتماعي.
ارتباط الأعياد بهذين الركنين يعزز القيم والأخلاقيات. تسري في أيام الأعياد معاني الفرح والغبطة الناتجة عن هذه الشعائر. الإرشاد النبوي أكد على تميُّز المجتمع الإسلامي حتى في تقاليد الفرح. الإسلام جاء بأعياده الخاصة التي تمزج بين التقاليد المجتمعية والمناسك العبادية، مما يخلق “شعائر المرح”.
الإسلام يوازن بين الانفصال الديني والتعايش الاجتماعي مع الأديان الأخرى. المسلمون عرفوا الأعياد كمواسم للفرح والترفيه النبيل. النبي ﷺ كان قدوة في إرشاد أمته إلى طرق البهجة والسرور. كان النبي ﷺ وأصحابه أكثر الناس فرحاً بالأعياد، مما يعكس توازن الإسلام بين الروح والمادة والمرح والجد.
النبي ﷺ حرص على أن تكون الأعياد مناسبات رسمية يسعد بها المجتمع بإشراف الدولة. كان للنبي ﷺ موكب يخترق به طرقات المدينة في ذهابه وإيابه لصلاة العيد، وكان يحمل حربة. هذا التقليد استمر في دول الخلافة الإسلامية، حيث كانت الأعياد مناسبات لاستعراض القوة والفتوة وإبراز المكتسبات.
الأعياد ارتبطت بمواكب الاستعراض العسكري التي تميزت بالبهجة والمرح وإبراز المهارات، بعكس حمل السلاح الضار بالمجتمع. الإمام البخاري بَوَّبَ في صحيحه «باب ما يُكره من حمل السلاح في العيد والحَرَم» لأن الأعياد أيام سِلم وأمان.
لكل بقعة في الحضارة الإسلامية بصمتها الخاصة في الأعياد. بعض الحواضر اشتهرت بإقامة الولائم العظيمة، مثل مأدبة العيد للخليفة العباسي المأمون التي تضمنت 300 نوع من الطعام. في الهند، كانت الاحتفالات تشمل مواكب الفيلة المزيَّنة بالحرير والذهب. بعض العادات انتقلت من حاضرة لأخرى، كما رأى الجاحظ فيلاً في بغداد احتفالاً بالعيد.
هذه المقالة التي أعدتها شبكة دينيز الإعلامية تحتفي بمواسم بهجة الأعياد، وتعرف بها، وتستعرض تقاليدها في تاريخ المسلمين عبر العصور والأماكن.
فرحة نبوية
منذ فجر الإسلام، كانت فرحة العيد تسبق قدومه. كانت ليلة تحرّي الهلال ليلة أنس وحبور. عيد النبي ﷺ وأصحابه كان متواضعًا وبسيطًا، لكنه مليء بالمسرة. كان النبي ﷺ يأمر بأخذ الزينة في العيد، فقد أخرج الحاكم في “المستدرك” أن الحسن بن علي قال: “أمرنا رسول الله ﷺ في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد”.
كان النبي ﷺ يغدو إلى المصلى من طريق، ويعود من طريق آخر. روى الشافعي في “الأم” أن النبي ﷺ كان له يوم العيد موكب. أخرج البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ كان “إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها”. اتخذها الأمراء من بعده.
ذكر المؤرخون الحربة؛ قال الواقدي إن “الزبير بن العوام أعطاه إياها النجاشي، فوهبها للنبي ﷺ، وكان يخرج بها بين يديه يوم العيد”. حملها خلفاء النبي شرفًا توارثه الملوك. ذكر ابن كثير أن سعد القَرَظي “كان يحمل الحربة بين يدي أبي بكر وعمر وعلي إلى المصلى يوم العيد”. استمر وجود الحربة لدى الأمراء في العهد العباسي.
كانت الفرحة بالعيد عامة زمن النبي ﷺ. روى صاحبا الصحيحين عن أم عطية الأنصارية “أن رسول الله ﷺ كان يُخرج الأبكار والعواتق وذوات الخُدور والحُيَّض في العيدين”. الحُيَّض كن يعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين.
كانت صلاة العيدين تسبق خطبتَهما. في العهد الأموي، صار الناس ينفضون بعد الصلاة، فأمر مروان بن الحكم بالخطبة قبل الصلاة. روى مسلم في صحيحه أن مروان بن الحكم كان “أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة”.
العيد زمن النبي ﷺ لم يخلُ من اللهو واللعب. روى البخاري عن عائشة أنها قالت: “دخل أبو بكر وعندي جاريتان تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟! فقال النبي ﷺ: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا!»”.
أضاف البخاري في رواية أخرى: “قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدَّرق والحراب، فقال النبي ﷺ: «تشتهين تنظرين؟»، فقالت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده”.
مراسم محدثة
لم يُنقل عن النبي ﷺ شيء عن تهنئة عيد الفطر أو عيد الأضحى. لكنه نُقل عن الصحابة والتابعين. أشهر ما جاء في “باب الدعاء في العيدين” للطبراني: “عن راشد بن سعد أن أبا أمامة الباهلي وواثلة بن الأسقع لقياه في يوم عيد فقالا: «تقبل الله منا ومنك»”.
مع تطور الدولة الإسلامية، صارت لصلاة العيد ترتيبات أكبر. كان السلاطين هم أئمتها. روى القاضي التنوخي في “نشوار المحاضرة”: “كان يقال: من محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطَرَسوس”. طرَسوس كانت ثغرا لمواجهة البيزنطيين، فكان العيد فرصة لاستعراض القوة العسكرية.
المقريزي وصف تجهيزات صلاة العيد زمن الخليفة الفاطمي العزيز. قال في “اتعاظ الحنفا”: “بُنِيَتْ مصاطِب بين القصر والمصلى يكون عليها المؤذنون والفقهاء، حتى يصل التكبير من المصلى إلى القصر، وركب العزيز فصلى وخطب”.
كانت الصلاة تُعقد في أماكن مفتوحة ومحددة. في “المسالك والممالك” للإصطخري، ذكر أن “مصلى رسول الله الذي كان يصلي فيه الأعياد يقع في غربي المدينة”.
وفي بغداد، قال التنوخي إن “مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام”.
أما في مصر، قال المقريزي إن “مصلى خولان كان مشهد الأعياد ويؤم الناس ويخطب لهم في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص”. في دمشق، كانوا يصلون بساحة تُدعى “الميدان الأخضر”. ابن تغري بردي وصف صلاة العيد في “النجوم الزاهرة”: “أطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر”.
ربما تتعدد صلوات العيد في المدينة الواحدة بتعدد المذاهب الفقهية. في مدينة سَقْسين ببلاد الخزر، قال القزويني في “آثار البلاد”: “أهلها مسلمون، أكثرهم على مذهب الإمام أبي حنيفة، ومنهم من هو على مذهب الإمام الشافعي. يوم العيد تُخرَج منابر، لكل قوم منبر يخطبون عليه ويصلون مع إمامهم”.
من المواقف الطريفة المرتبطة بصلوات العيد ما حدث في المغرب الأقصى زمن السلطان أبي العباس الوطاسي. ذكر الناصري السلاوي في “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”: “الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا السلطان فأبطأ عليهم. عندما أقبل السلطان، رأى الشيخ أبو مالك أن الوقت قد فات، فرقِي المنبرَ وقال: معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا! ثم أمر المؤذن فأذّن وأقام الصلاة. تقدم الشيخ أبو مالك وصلى بالناس الظهر. خجل السلطان واعترف بخطئه”.
من الاحتفالات القديمة المستمرة حتى الآن، كسوة الكعبة المشرفة في عيد الأضحى. قال الفاسي في “شفاء الغرام”: “الكعبة تُكسى يومَ النحر من كل سنة، إلا أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تُسْبل حتى تصل إلى منتهاها بعد أيام من يوم النحر”. قبل قرون، قال ابن جبير: “الكعبة لا تُكسى في يوم النحر، وإنما تُكسى في يوم النفر الثاني”.
استذكار الأحزان في العيد قديم في تاريخنا. عادة زيارة المقابر في الأعياد ضاربة الجذور رغم عدم وجود أصل شرعي لها. أثار ذلك حفيظة السلطة في بعض الأزمنة. في سنة 402هـ/1012م، أصدر الفاطميون قرارا بمنع النساء من زيارة القبور فلم تُـرَ في الأعياد بالمقابر امرأة. في زمن المماليك، يقول المقريزي في “السلوك”: “في 29 رمضان 792هـ/1390م نودي في القاهرة بمنع النساء من الخروج يوم العيد إلى التُّرَب”.
تجمُّل بالغ
أهم تجهيزات العيد تشمل العناية بالزينة ونظافة الأبدان وتجديد الثياب. كان شراء لباس العيد أمرًا نبويًا اهتم به الفقهاء. أكدوا على فضله حتى على غسل الجمعة رغم فرضيتها. يرى الإمام الماوردي أن غسل العيد مأمور به لأخذ الزينة. يتساوى فيه من حضر العيد ومن لم يحضر. بينما غسل الجمعة لقطع الرائحة كي لا يؤذي المجاورين في المسجد. في “الحاوي الكبير”، قال الماوردي: “غسل العيد كاللباس، أما غسل الجمعة فمعناه يزول بعدم الحضور”. كذلك، الشرع يطلب لبس أفضل الثياب في العيد. قال الرملي الشافعي في “نهاية المحتاج”: “أعلى الثياب قيمة وأحسنها منظرا مطلوبة في العيد، لا يختص التزين بحضور الصلاة”.
كان الرجال يتزينون بالحناء والسواد في الأعياد. ابن عذاري المراكشي ذكر في “البيان المُغرب” أن موسى بن نصير قائد فتح مدينة ماردة الأندلسية، صبغ شعره ولحيته في يوم عيد الفطر. الروم رأوه، اعتقدوا أنه نبي يتجدد شبابه بعد المشيب. تأثروا وقرروا مصالحته.
في الغرب الإسلامي، كان العريس يخضب يديه بالحناء في العيد. في “الإتقان والإحكام”، ذكر مَيّارة الفاسي أن رجلاً فعل ذلك وأهدى زوجته كبشًا. لكنه توفي قبل العرس.
الرجال من المسلمين وغيرهم لهم زينتهم في العيد. الخطيب البغدادي ذكر في “تاريخ بغداد” أن أبا قابوس المسيحي أهداه جعفر بن يحيى كساء خَزٍّ. في العيد، كتب له قطعة شعرية يطلب فيها أربعة أثواب إضافية لتكمل زينته.
النساء أيضًا كن يعتنين بصبغ ثياب العيد. ابن عساكر روى في “تاريخ دمشق” أن حفصة بنت سيرين كانت تصبغ ثياب أمها للعيد. أخوها، الإمام محمد بن سيرين، كان يشتري لها ألْيَن الثياب ويصبغها.
ابن الجوزي يروي في “المنتظم” قصة حسان بن أبي سنان الذي لم ينظر إلا إلى إبهامه يوم العيد. البلاذري ذكر في “أنساب الأشراف” أن الحجاج الثقفي عندما رأى كثرة النساء في عيد الفطر بالبصرة، بنى قصرًا ليسكن فيه أهل الشام بعيدًا عن العراقيين.
تحرشات العيد كانت تحدث أحيانًا. ابن الأثير في “الكامل” يذكر فتنة بقرطبة أيام المرابطين بسبب تحرش عبد بامرأة في عيد الأضحى. ثار الناس وحاربوا العسكر لأجل ذلك، وانتصروا في النهاية.
الاحتفالات بالعيد كانت مليئة بالزينة والفرحة، مع اهتمام خاص بالتجمُّل. الجمال والاحتفالات كانا يعكسان روح العيد، مع الحرص على القيم والأخلاق.
مراكب ومواكب
المواكب الرسمية كانت من أهم مشاهد العيد التي تحرص عليها الدولة. تظهر من خلالها هيبتها وقوتها واعتداد حكامها بأبهة سلطانهم. تفاصيل هذه المواكب تحمل العجب العجاب. ابن الجوزي ذكر في “المنتظم” عن الخليفة العباسي المقتفي أنه خرج في عيد الفطر 553هـ بموكب بتجمّل وزي لم يُرَ مثله من الخيل والتجافيف والأعلام وكثرة الجند والأمراء.
العباسيون كانوا يحملون الحربة المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم في العيد، وأيضًا “البردة” المنسوبة إليه. كانت البردة تتوارثها بنو العباس خليفة عن خليفة، ويلبسها الخليفة يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إلى النبي في إحدى يديه. كان للخليفة هيبة ووقار يبهر بهما الأبصار.
العيد كان يذكّر الأمة بمقام الخليفة باعتباره الملك المتعالي على رعيته حتى كبار موظفيه. لم يكن من عادته أن يجلس أحد بجواره يوم العيد. الذهبي ذكر في “تاريخ الإسلام” أن قاضي الفاطميين عبد العزيز بن محمد بن النعمان علا رتبته عند الخليفة الحاكم إلى أن أصعده معه على المنبر في يوم العيد.
كان من المعتاد ألا يجلس أحد إلى جوار الحاكم الأعلى أو يسير بمحاذاته في الموكب. ابن تغري بردي ذكر أن الخليفة المكتفي صلى بالناس يوم عيد النحر، وترجل الملوك والأمراء بين يديه ما عدا وزيره القاسم بن عبيد الله. كان ذلك وهنًا في حق الخلفاء، حسب ابن تغري بردي.
رغم كراهية الصحابة لحمل السلاح في العيد، تأصّل تقليد تنظيم الاستعراض العسكري منذ حكم الأمويين. الخلفاء العباسيون والفاطميون تبنوا هذا التقليد. ابن الأثير ذكر أن الخليفة يزيد بن الوليد كان أول من خرج بالسلاح يوم العيد، وصارت هذه عادة تواطأ عليها الخلفاء.
إبراهيم بن محمد البيهقي ذكر استعراضًا عسكريًا نظمه الخليفة المعتصم بالله في “المحاسن والمساوئ”. عبّأ المعتصم خيله في أجمل زي وأحسن هيئة، وقسم الطريق على القُوّاد وأعطاهم مواقعهم بالصف. خرج القواد وأصحابهم قبل الفطر بيوم ولزموا مصافَّهم. ركب المعتصم إلى المصلى وجلس على كرسي ينتظر مرور القواد.
ابن الجوزي ذكر عرضًا مشابهًا في عيد الفطر 549هـ في “المنتظم”. خرج العسكر بزي لم يُرَ مثله لاجتماع العساكر وكثرة الأمراء. المواكب كانت لها حرمة بالغة، ومن يتسبب في تخريبها يُعاقب بالموت. الذهبي ذكر في “تاريخ الإسلام” أن الخليفة المسترشد بالله أمر بعدم اختلاط أحد بالجيش، ومن ركب بغلاً أو حمارًا أُبيح دمه.
عروض منوعة
من أمتع مشاهد تقاليد العيد في المجتمعات الإسلامية تلك التي رصدها بدقة الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1378م). ضمن ابن بطوطة هذه المشاهد في رحلته الشهيرة. منها مشهد العيد في إحدى سلطنات بلاد الروم (تركيا اليوم). يقول ابن بطوطة: “أظلنا عيد الفطر (733هـ/1333م) بهذه البلدة، فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان (يننج بك ت بعد 338هـ/1337م) في عساكره والفتيان الأخية (جماعات الفتوة). كلهم كانوا يحملون الأسلحة، ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار. بعضهم يفاخر بعضًا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال السلاح. يخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز. يذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها مع الخبز. يكون خروجهم أولًا إلى المقابر ثم إلى المصلى. بعدما صلينا صلاة العيد دخلنا مع السلطان إلى منزله. حضر الطعام، وجعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماطًا منفصلًا، وللفقراء والمساكين سماطًا آخر. لا يُرَدُّ على بابه في ذلك اليوم فقير أو غني”.
من أعجب ما رُؤي في مواكب الملوك إحضار الحيوانات البرية والأسود. تُستعرض هذه الحيوانات أمام الموكب. الجاحظ (ت 255هـ/869م) يخبرنا في “الحيوان” عن مشاهداته في أحد الأعياد. يقول: “خرجتُ يوم عيد، فلما صرت بعيساباذ (منطقة في بغداد) إذا أنا بتل مُجلل بقطوع ومقطعات. رجال جلوس عليهم أسلحتهم. سألت أحدهم، فقال لي: هذا الفيل”.
المقريزيّ سجل في “اتعاظ الحنفا” مشاهد عيد سنة 395هـ/1004م. ذكر أن الخليفة الحاكم ركب يوم عيد الفطر. قُيد بين يديه ستة أفراس بسروج مرصعة بالجواهر وستة فيَلة وخمس زرافات. صلى بالناس صلاة العيد وخطبهم. ابن بطوطة ذكر أيضًا استخدام الفيلة في احتفالات المسلمين الهنود بأعيادهم. قال: “إذا كانت ليلة العيد، يبعث السلطان الخِلَع (الثياب المهداة) إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة. في صبيحة العيد تُزين الفيلة بالحرير والذهب والجواهر. يكون منها ستة عشر فيلًا لا يركبها أحد، هي مختصة بركوب السلطان”.
كثير من الخلفاء والأمراء بالغوا في مظاهر البهرجة والتفاخر في الأعياد. رغم ذلك، كان هناك من يرى الفخر الحقيقي في الإنجازات العملية لصالح الشعوب والأوطان. سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) ترجم للقائد البويهي أبي الطاهر المشطّب الملقب بالسعيد (ت 408هـ/1018م) في “مرآة الزمان”. قال عنه: “كان السعيد سعيدًا كما سُمّي، كثير الصدقات فائض المعروف كثير الإحسان. أهل بغداد إذا رأوا مَنْ لبس قميصًا جديدًا قالوا: رحمَ الله السعيد، لأنه كان يكسو اليتامى والمساكين والضعفاء. هو الذي بنى قنطرة العراق وقنطرة الخندق والياسرية والزياتين وغيرها. الإسْفَهْسِلَارِيَّةُ (قادة العسكر) أخرجوا يوم العيد الجنائب (خيول تُعرَض غير مركوبة) بمراكب الذهب وأظهروا الزينة. قال له أحد أصحابه: لو كان لنا شيءٌ أظهرناه! فقال السعيد: ليس في جنائبهم قنطرة الخندق والياسرية والزياتين”.
كانت زينة العيد عندهم تتضمن صنع الخيام والقباب. هذه القبابُ كانت مقرّات للاحتفال ومكانًا للأكل والشراب واللهو. يُبذل في صناعتها وتزيينها ما يثيرُ العجب. الإمام ابن الجوزي وصف في “المنتظم” خيمة الخليفة في عيد الأضحى. قال: “في يوم النحر (520هـ/1126م) أمر أمير المؤمنين (المسترشد بالله) بنصب خيمة كبيرة وبين يديها خيمة أخرى. نصبوا في صدر الخيمة منبرًا عاليا. حضر خواص الخليفة ووزيره والنقباء وأرباب المناصب والأشراف والهاشميون والطالبيون وخلقٌ من الأعيان. أقبل الخليفة ومعه ولده الراشد (ولي عهده) فوقف إلى جانب المنبر وصلى بالناس صلاة العيد. المكبِّرون كانوا خطباء الجوامع”.
عندما يقترن العيد بانتصار عسكري، تتضاعف الزينة ويُبالغ في الاحتفاء بالقادة العسكريين. الإمام الذهبي يرسم لنا في “تاريخ الإسلام” صورة لاجتماع العيد والنصر في يوم واحد. ذكر القِبَاب العجيبة التي أُنشئت للاحتفالات في سنة 547هـ/1152م. قال: “عاد الخليفة المقتفي إلى بغداد مؤيَّدًا منصورًا بعد إنهاء فتنة نشبت في واسط. غُلِّقت بغداد وزُيِّنَت وعُمِلَت القباب. صاغة الذهب عملوا بباب الخان العتيق قُبَّة عليها صورة السلطان السلجوقي مسعود وخاصّ بك وعبّاس بحَرَكاتٍ تدور. عُملت قباب عديدة على هذا النّموذج. انطلق أهل بغداد في اللعب واللهو إلى يوم عيد النَّحْر”.
موائد وعوائد
الأطعمة والمشروبات كانت من أبرز ما يبهج الناس في العيد. كان الأقدمون يعشقون الطعام ويبدعون فيه، ولديهم تاريخ طويل في ذلك. ذكر السيوطي (ت 911هـ/1506م) في “تاريخ الخلفاء” وصفًا لمائدة الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م). قال أحد جلساء المأمون: “تغدينا مع المأمون في يوم عيد. وضع على مائدته أكثر من ثلاثمئة صنف. نظر المأمون إلى كل صنف وقال: هذا نافع لكذا وضار لكذا. من كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا”.
الفاطميون اهتموا بالحلويات والمرطبات، كما يخبرنا المقريزي في وصفه لصبيحة عيد في قصر الخليفة الفاطمي الآمر (ت 524هـ/1130م). قال: “في صباح عيد الفطر حملت طوافير (صحون عميقة) فيها موائد الفطر. جلبت الصواني الذهبية برسم فطر الخليفة. في السحر من عيد الفطر، جِيء أمام الخليفة بما أحضر من قصوره في مواعين ذهبية مرصعة. كانت مغطاة بمناديل مذهبة. احتوت على التمر المحشو والجَوارِشيات (نوع من الحلوى) وأنواع الطيب وغيرها”.
موائد العيد كانت عامرة بأصناف الأطعمة والحلويات. وصف ابن تغري بردي مائدة الخليفة الفاطمي العزيز في أحد الأعياد. قال: “نُصب سماط طوله عشرون قصبة حول فسقية (حوض ماء). كان السماط يحتوي على الخُشْكَنان (خبزة مقلية محشوة)، والبِسْتَنْدُود (فطائر محشوة)، والبَزْماوَرْد (حلوى عجين بالسكر). كان بعضها بحجم جبل شاهق! قطعها كانت تتراوح من ربع قنطار إلى رطل. كان الناس يأكلون بلا منع ولا حجر. توزع الأطعمة على الناس وتحمل إلى دورهم”. وأضاف أن العزيز “كان أول من نظم هذا السماط في عيد الفطر خاصة”.
استمر ابن تغري بردي في وصف السماط: “في عيد الفطر، يمد سماط الطعام مرتين. في عيد الأضحى مرة واحدة. يُعبّى السماط في الليل. طوله ثلاثمئة ذراع (حوالي 184 مترًا) وعرضه سبع أذرع. يحتوي السماط على أنواع كثيرة من المأكولات. يحضر الوزير أول صلاة الفجر والخليفة يجلس في الشبّاك. يُمَكَّن الناس من الطعام قبل صلاة العيد. بعد صلاة العيد يمد السماط المذكور ويؤكل. ثم يمد سماط ثانٍ من فضة يُسمى المدوّرة. يحتوي السماط الثاني على أواني فضة وذهب وصيني وأطعمة خاصة. السماط بطول القاعة، عرضه عشر أذرع. يحتوي على واحد وعشرين طبقًا في كل طبق واحد وعشرون خروفًا. بالإضافة إلى ثلاثمئة وخمسين دجاجة، ومثلها من الفراريج وفراخ الحمام. تتنوع الحلوى بأنواع فائقة. يُمد بين الأطباق صحون خزفية في جنبات السماط، كل صحن يحتوي على تسع دجاجات مع ألوان فائقة من الحلوى والطّباهجة (الكباب) المفتقة بالمسك. عدد الصحون خمسمئة صحن، مرتبة بأحسن ترتيب. ثم يُجلب قصرين (عربتين) من الحلوى صُنعا بـ’دار الفطرة’ (مخزن حكومي لصنع وتوزيع الحلويات)، زنة كل واحد سبعة عشر قنطارًا (حوالي 650 كيلوغرامًا). ثم يخرج الوزير إلى داره ويُقام سماط مشابه لسماط الخليفة. يتكرر هذا في عيد الأضحى في أول يوم منه”.
مودة اجتماعية
لم يكن فقط الملوك والوزراء والأمراء من يقيمون الولائم ويمدّون الموائد في الأعياد. العديد من أعيان الفقهاء والعلماء وغيرهم كانوا يفعلون ذلك أيضًا. ابن عساكر في “تاريخ دمشق” نقل عن الإمام عبد الله بن عون المزني (ت 151هـ/767م) قوله: “ما أتينا محمدًا (ابن سيرين) في يوم عيد قَطُّ إلّا أطعمنا خبيصاً أو فالوذجاً”. كانت هذه الحلويات من أشهر الأطعمة في تلك الفترة.
ابن بشكوال في “الصِّلة” ذكر أن الإمام هشام بن سليمان القيسي (ت 420هـ/1030م) كان يصنع طعامًا كثيرًا في عيد الفطر. أهل الحصن (حصن الفهْميِّين قرب طليطلة) والمرابطون كانوا يستفيدون من كرمه. ابن وهاس الزبيدي في “العقود اللؤلؤية” أضاف أن “الفقيه عبد الرحمن (الشهابي ت 649هـ/1251م) كان من أكبر الفقهاء. الفقهاء في جبلة كانوا يدخلون إلى سماطه يوم العيد بعد صلاة العيد”.
الموسرون كانوا يتفقدون جيرانهم في الأعياد ولو بصدقات سرية. ابن شاهين الملطى في “نيل الأمل” ذكر حادثة غريبة في عيد الأضحى 825هـ/1423م. رجل فقير له عائلة لم يجد ما يشبع به شهواتهم للأطعمة المشوية. في الليل سمع حركة مستمرة. في الصباح وجد كومة من اللحم في دارهم. كانت الفرس تنقل اللحم طوال الليل دون علمهم. سُروا بذلك وعيدوا منه.
إعداد الحلويات في الأعياد كان عادة قديمة جدًا. الفسيخ (السمك المملح) كان أيضًا من الأطعمة التقليدية في الأعياد. سبط ابن الجوزي في “مرآة الزمان” ذكر أنه تناول الفسيخ مرة في عيد الفطر. قال: “كنتُ أجتمع بالشيخ عبد الله الأرمني الزاهد في القدس. في عيد الفطر أكلتُ سمكًا مالحًا وصعدتُ إلى زاويته وقعدنا نتحدث”.
كانوا يستغلون الأعياد لإقامة المناسبات السعيدة مثل تولية العهد وتقليد الإمارة وختان الأبناء. المقريزي في “اتعاظ الحنفا” ذكر أن الخليفة الفاطمي المعز (ت 365هـ/975م) مات وكُتم موته حتى عيد الأضحى. في ذلك اليوم أُعلن عن وفاته وتولى ابنه العزيز الخلافة. الناس سلموا عليه كخليفة.
البنداري الأصفهاني في “مختصر سنا البرق الشامي” ذكر أن نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1174م) عين ابنه الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر. احتفلوا بهذا الأمر وأغلقت محال دمشق لأيام وبُنيت القصور. ذكر الذهبي في “تاريخ الإسلام” ختان خضر ابن الظاهر بيبرس يوم عيد الفطر 772هـ/1370م. كانت هناك عدة صبيان من أولاد الأمراء خُتنوا معه.
أساليب لطيفة
أصل هدايا العيد يعود إلى “الخِلَعَ”، أي الثياب التي كان السلطان يهديها تكريماً للأمراء والأعيان. التاريخ الإسلامي يتضمن أمثلة لهدايا نقدية تُعطى في العيد لمن تُرجى بركته. تُقدم هذه الهدايا للفقير كصدقة وللعلماء والأدباء كإحسان. ابن كثير في “البداية والنهاية” ذكر أن الخليفة المستنصر (ت 640هـ/1242م) بعث يوم العيد صدقاتٍ كثيرة وإنعامًا جزيلا للفقهاء والصوفية وأئمة المساجد على يد محيي الدين ابن الجوزي (ت 656هـ/1258م).
الفاطميون اشتهروا بهذا التقليد المسمى اليوم “العيديّة”. المقريزي في “اتعاظ الحنفا” قال إن الخليفة الفاطمي قرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه (ت نحو 530هـ/1136م) راتباً وكسوة شتوية وعيدية. حتى الملوك كانوا يتلقون “عيديات” كهدايا في الأعياد. ابن دحية في “المُطرب” أخبرنا أن الناس أهدوا السلطان المعتمد ابن عباد (ت 488هـ/1095م) هدايا مثلما يُهدى للملوك في الأعياد.
أظرف العيديات كانت تُمنح للضيوف بطريقة لطيفة جداً. الكعك كان يُحشى بالدنانير الذهبية بدلاً من السكر، أو تُلبس الحلوى على فستقٍ من ذهب. المقريزي في “اتعاظ الحنفا” ذكر قصة القاضي ابن مُيَسَّر (ت 531هـ/1137م) الذي قدم للضيوف فستقاً ملبساً بالحلوى من الذهب.
تقديم الكعك والملبّس والمكسّرات والفواكه المجففة في العيد كان شائعاً. كل شخص يقدم وفق طاقته ومروءته. ابن عساكر في “تاريخ دمشق” روى أن خالد بن يزيد المرّي (ت 166هـ/782م) رأى الإمام مكحول (ت 112هـ/731م) يفرّق الزبيب على أصحابه يوم العيد.
الملوك والأمراء كانوا يخرجون للصيد في العيد. ابن تغري بردي ذكر أن الأمير الطولوني “خُمارَوَيْه” (ت 282هـ/896م) كان يتقلد سيفًا ويخرج للصيد في الأهرام ومدينة العقاب. كان شغوفاً بالصيد ومعه رجال يلبسون أغطية صوف سميكة يدخلون إلى الأسد ويضعونه في قفص خشبي مُحكم الصنع.
ثم علق المصنف قائلاً: “إن أعيادنا الآن كالمآتم بالنسبة لتلك الأعياد السالفة”.
لهو ولعب في العيد
يعود أصل الألعاب في العيد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. عائشة سبقت في ذكر لعب السودان بالحراب. كانت من أشهر الألعاب لعبة “رمْيُ القبق”، التي كان السلطان نور الدين زنكي مهتمًا بها. القبق هو القَرْع بالتركية، وهو عبارة عن خشبة تُنصب في الأرض وتستخدم لتدريب الرماة.
للأطفال أيضًا لعبهم في العيد، كانوا يلعبون بالجوز كما ذكر ابن كثير عن السريّ السقطي. توسع الخلفاء في الغناء وأحيوا ليالي العيد بالطرب، وكان هارون الرشيد من أبرز المحبين للموسيقى والغناء في العيد. كان العيد أيضًا مناسبة أدبية ينال فيها الشعراء المكافآت بإلقاء القصائد أمام الملوك.
جوائز ثمينة وأفراح العيد
في حفلات الشعراء بعيد الفطر أو الأضحى، يُعد التهنئة بالقصائد من الأحداث المهمة. فقد ذكر الناصري في ‘الاستقصا‘ عن شاعر الدولة أبو فارس الملزوزي وقصيدته التي أثنى بها على السلطان وأُنشِدت بحضوره.
وكان للنساء الشواعر دورًا في هذه المناسبات الأدبية، فحضرن المنافسات الشعرية وأبهرن الحاضرين بقصائدهن. تاريخيًّا، كانت عادة الإفراج عن السجناء في الأعياد منتشرة، وليس الغارمون وحدهم بل كانت تشمل السجناء السياسيين والمتمردين.
ومن بين الإفراجات العيدية، كانت هناك قصصٌ تُسجل في تاريخنا، مثل هروب السجناء والاستفادة من أجواء العيد لاستعادة حريتهم. وكانت إفراجات العيد تشمل حتى الجثامين المحتجزة، حيث تم إنزال جثة الثائر أحمد بن نصر الخزاعي وتسليمها إلى أوليائه في عيد الفطر.
اقرأ كذلك: كعك العيد : ثلاث وصفات مميزة ومجربة تشبه المحلات