مراقبة الهلال والاحتفال بالطبول في مكة: بجانب إسلامي لاستقبال شهر رمضان بذبح 25 بقرة يومياً للفقراء
تقاليد استقبال شهر رمضان: رؤى تاريخية وعادات متجددة في العالم الإسلامي
عندما يُعلن هلال رمضان، تصدح الطبول والدبابيب في أمير مكة. يتجدَّد الحرم بالحصر، وتُضاء شموع المشاعل ليتلألأ بنوره. يتفرَّق الأئمة ليُقام الصلاة في فروع الشرائع. يلتقي القُرَّاء لتناوب القراءة وإشعال الشموع. في كل زاوية من الحرم يُؤمَّن قارئ للصلاة. ترتفع الأصوات المقرئة وتُدمع العيون.
هذا ما شهده ابن بَطُّوطَة خلال زيارته لمكة المكرمة في رمضان عام 726هـ/1326م. يأتي ذلك ضمن وصفه لعادات وتقاليد احتفال المسلمين بشهر رمضان. يُعكِف المقال على مزج المأثور الديني والثقافي والاجتماعي الذي شكّل جزءًا من حياة المسلمين عبر العصور.
يُظهر المقال كيف كانت العادات والتقاليد الرمضانية تُسلِّط الضوء على الجانب الاجتماعي والثقافي للشهر الكريم. فهي تعكس احتفاء المجتمعات الإسلامية بقدومه وتعزز الروح الاجتماعية والروحانية فيها.
تقوم الدراسة على رصد وتحليل العادات والسلوكيات الرمضانية التي عاشها المسلمون في أقطار العالم. وكيف ترجموا أحاسيسهم الدينية في تجاربهم الحياتية. تبرز العادات الاجتماعية المرتبطة بشهر رمضان. وكيف أصبحت جزءًا من الحياة اليومية والمجتمعية.
تشير الدراسة إلى أن العادات الرمضانية لم تكن مقتصرة على المساجد والأماكن المقدسة، بل امتدت لتشمل المجال العام. حيث شهدت المدن الإسلامية انتشارا واسعا للأنشطة الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالشهر الفضيل.
تجارب العبادة والإنجازات خلال شهر رمضان
عند تتبُّع عادات الإسلام الرمضانية على المستوى الفردي. نجد تجارب متنوعة تميّزت بسعي الأفراد لتحقيق المعاني الإيمانية. هناك من اعتزل الدنيا ليفرغ نفسه للعبادة. ومن توقف عن الشعر خلال الشهر الفضيل. زادت نشاطات بعضهم في نشر العلم وخدمة الطلاب، بينما جمع البعض الآخر بين الجهاد والصيام والقيام.
وبالإضافة إلى الأبعاد الفردية والاجتماعية. لم تتأثر حركة العمران وجودتها بقدوم شهر رمضان على المستوى الرسمي. كانت هذه المناسبة تشكل فرصة لتدشين المباني الجديدة أو ترميم القديمة. وتوفير خدمات الإنارة والنظافة في المساجد والشوارع.
استعداد المسلمين لشهر رمضان كان دائمًا ملحوظًا. حيث يسعون لإشاعة الأجواء الرمضانية في المجتمع الإسلامي. هذا الشهر يظل فرصة لتجديد التجارب الروحية والاجتماعية. وتقوية الصلات بين الناس وبين الله. ومن الجيد أن تلك التجارب تُسجَّل لتكون مصدر إلهام وتحفيز للآخرين. وهذا ما تُبرزه هذه المقالة التاريخية.
مراسم التحري لرؤية هلال رمضان: تاريخ وتطور
يرتبط الشهر العربي بمقدم الهلال وظهور علاماته. وصومُ رمضان بتوجيهات النبي ﷺ. كان المسلمون يتحرّون رؤية هلال رمضان بدقة. واختاروا القضاة لمراقبتها. تطور الأمر مع العصر العباسي ليشرف القضاة على مراسم رؤية الهلال وتوثيق شهاداتها.
قاضي القضاة، ابن خلّكان، يشير إلى أول قاضٍ حضر لرؤية الهلال في رمضان. وهو عبد الله بن لَهِيعة الحضرمي. استمرت هذه العادة حتى منتصف القرن الثامن الهجري.
الرحالة ابن بطوطة شاهد مراسم تحري الهلال في مصر، ووصف ذلك بالتفصيل. يُسمى يوم تحري الهلال “يوم الركبة”. حيث يجتمع الناس في مكان مرتفع خارج المدينة لتحري الهلال. تنتهي المراسم بعد صلاة المغرب. حيث يعود الناس إلى منازلهم بالشموع والفوانيس.
هكذا كانت مراسم التحري لرؤية هلال رمضان تجسّدت في العادات الاجتماعية والدينية للمسلمين عبر العصور.
القضاة ومراسم تحري هلال رمضان: دروس من التاريخ
على الرغم من أن قُضاة بغداد كانوا يعتمدون على شهود العيان لتحري الهلال، فإنهم لم يخرجوا بأنفسهم للمراقبة. كما كان يفعل غيرهم. في حادثة مشهورة، ارتكب شهودا خطأ في تحري الهلال. مما أدى إلى أن أحد أصحاب القاضي أفطر قبل وقته، مما تسبب في إيقاع عقوبات على الخطأ القائم.
قد تترافق مقدم رمضان مع ظروف جوية تعيق رؤية الهلال. مما يؤدي إلى توقعات مختلفة وارتباك في الناس. في حادثة غريبة. قام أهل مدينة غرناطة بالأندلس بصيام شهر رمضان لمدة ستة وعشرين يومًا. بسبب تراكم الغيوم قبل بداية الشهر. وعندما ظهر الهلال في ليلة السابع والعشرين، أفطروا بعد أن رأوا الهلال من خلال فتح الغيوم.
هذه القصص توضح كيف يمكن أن تتأثر مراسم تحري الهلال بالظروف الجوية والتقلبات. وتبرز أهمية توخي الدقة والحذر في تحديد بداية شهر رمضان.
مواقف طريفة في تحري رؤية هلال رمضان
بعض المواقف الطريفة والغريبة تحدث أثناء تحري رؤية هلال رمضان. وفي إحدى تلك المواقف. خرج الصحابي الجليل أنس بن مالك مع جماعة لتحري الهلال وهو يبلغ من العمر مئة عام. عندما زعم أنس أنه رأى الهلال. لم يستطع الآخرون رؤيته. وفي لحظة غريبة، ظنّ إياس بن معاوية المزني أن شعرة في حاجب أنس كانت الهلال. فمسحها إياس وسواها، لكن لم يستطع أنس رؤية الهلال مرة أخرى!
وفي قصة أخرى، رأى رجل بصير هلال رمضان في البصرة، وحينما جاء الوقت لرؤية هلال الفطر. طلب جمّاز النوادر محمد بن عمرو من الرجل أن يخرجهم من المشكلة التي وقعوا فيها بسبب رؤيته الهلال.
زخرفة واحتفال بمقدم شهر رمضان
في تحضيرهم لاستقبال شهر رمضان الكريم، كان الناس يقومون بتزيين منازلهم ومدنهم بشكل مميز. فقد ذكر الرحالة المقدسي البشاري أن سكان عدن في اليمن كانوا يقومون بتزيين أسطح بيوتهم قبل دخول شهر رمضان بيومين. ويطلقون الطبول عليها. وعند دخول شهر رمضان، كانوا يجتمعون في جماعات يدورون حول الساحات في السحر. يتلون القصائد إلى آخر الليل.
ومن هذا الاحتفاء بمقدم الشهر الفضيل، تطورت العادات مع العصور، حيث أصبحت تُطلق طلقات المدافع عند وقت الإفطار. وقد امتد ذلك العرف إلى العصر العثماني، حيث أصبح يُعرف بـ “مدفع رمضان”. وكما يبدو. كان يُطلق أيضًا في أوقات السحور، فكما ورد في كتاب “حوادث دمشق اليومية”، كانت سماء الشام مضاءة بأنوار المآذن. وتُشعل “مدافع الإثبات” في منتصف الليل، مما أدى إلى ازدحام في حركة السحور وفتح المحلات لبيع الطعام خلال الليل.
تزيين المساجد في شهر رمضان
تقترن عادة تزيين وإنارة المساجد بدخول شهر رمضان. حيث يُروى أن عمر الفاروق كان أول من أنار المساجد بالقناديل في الإسلام. وفي ذلك السياق. قال الأزرقي إنه كانت العادة منذ زمن معاوية بن أبي سفيان أن يُكسى الكعبة الشريفة بثياب خاصة في آخر شهر رمضان.
وكان الخلفاء والولاة يحرصون على تطوير هذه العادة. فأمر المأمون كاتبه في مستهل رمضان بكتابة رسالة إلى ولاته وعُماله في الأقاليم لتزيين المساجد وإضاءتها طوال الشهر. وفي هذا السياق، ذكر ابن طيفور أن المأمون أمر بزيادة المصابيح في المساجد، مؤكدًا أن ذلك يُشعر الصائمين بالراحة ويوفر النور للمتهجدين. ويبعد عن المساجد ظلمة الظنون السلبية.
ويُظهر كتاب “زهر الآداب” للحصري القيرواني أن المأمون استحسن هذا القرار. وأمر بتنفيذه لأنه يُضفي السكينة على السائلين والمتضرعين في المساجد.
تزيين المساجد في رمضان
تعتبر عادة تزيين وإنارة المساجد في شهر رمضان من الممارسات الشائعة التي تتبعها العديد من الحكام والسلاطين. وكان وزير الأندلس المعروف المنصور بن أبي عامر يولي اهتماماً خاصاً بجامع قرطبة الكبير في هذا الشهر المبارك. وقد ورد في كتب التاريخ أنه كان يرسل له مواد الإنارة والتزيين في كميات هائلة خلال شهر رمضان.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الفاطميون في مصر يولون اهتماماً كبيراً بإضاءة الجوامع الكبيرة في القاهرة. مثل الأزهر والمسجد الحاكمي وجامع راشدة، خلال شهر رمضان. وكان الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله يصر على ذلك في وقفيته على الأزهر، حيث حدد عدد القناديل والمواد المطلوبة لتنظيم الإنارة.
وتأتي هذه العادة ضمن تقاليد الفاطميين السنوية، حيث كانوا يقومون بتنظيف وإعداد المساجد قبيل دخول شهر رمضان. وهو ما يُعرف بـ “كشف المساجد”. وكان هذا اليوم يُقام قبل رمضان بيومين لتفقد الحالة العامة للمساجد وللتأكد من توفر جميع اللوازم الضرورية.
بهذه الطريقة، كانت العناية بزينة وإضاءة المساجد في شهر رمضان تعكس روح الاحتفال والتقدير لقدوم هذا الشهر الكريم.
احتفالات رمضان في المساجد
تعكس عادة تجديد صيانة المساجد وإمدادها بالمستلزمات في شهر رمضان الاحتفال الشعبي بقدوم هذا الشهر الكريم. وقديمًا. كان القضاة في مصر يقومون بجولة تفقدية للمشاهد والمساجد في القاهرة ومصر. لتنظيفها وترتيبها، وكان الناس يترقبون ذلك اليوم بفارغ الصبر للمشاركة في الاحتفالات وحضور الولائم.
وتُعتبر هذه العادة جزءًا لا يتجزأ من الاحتفالات بشهر رمضان. حيث يتم تكثيف الجهود لتجديد المساجد وإعدادها لاستقبال هذا الشهر المبارك. وفي المسجد الحرام. يُجرى تجديد الحصر وتوفير الإنارة بكثافة ليتلألأ المكان بالنور ويبدو مشرقًا ومفعمًا بالبهجة.
وتواصلت هذه التقاليد عبر العصور، حيث وردت في روايات الرحالة الشهير ابن جُبير وابن بطوطة. اللذين وثقا الاحتفالات البهيجة في المسجد الحرام وتألقه بالإنارة والأنشطة الدينية. وكانت الأصوات المتلاحمة للقراء تملأ المكان بالروحانية والهدوء، مما يجعل هذا الشهر مليئًا بالخير والسلام.
تلاوة القرآن والتفرغ في رمضان
يظهر تنافس الخلفاء والولاة في تجهيز المساجد وتزيينها لاستقبال شهر رمضان المبارك. ولكن الأهم هو التفرّغ للعبادات والأعمال الصالحة، خاصة قراءة القرآن الكريم، وهذا التقليد يعود إلى عصور النبي ﷺ والصحابة.
فقد ورد عن التابعي الأسود بن يزيد النخعي أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين من شهر رمضان. ويستمر في أعمال الخير والبر النافعة خلال النهار. وفي مكة المكرمة، كانوا يختمون القرآن كل ليلة تراويح خلال العشر الأواخر من رمضان. وفي ليلة السابع والعشرين كان الاحتفال أكبر، حيث ينصب للقارئ منبر مزين بالحرير. ويقدم لهم الطعام والحلاوات الشهية.
وبهذه الطريقة، يظهر الاحتفاء الكبير بشهر رمضان والتفرغ للعبادة والقراءة. مما يعزز الروحانية والتقوى في هذا الشهر المبارك.
أحوال بعض السلف والعلماء في شهر رمضان
كثير من السلف والعلماء الكبار كانوا يخصصون أنفسهم لأعمال خاصة خلال شهر رمضان. حيث كان بعضهم يترك كل أمورهم ليكرسوا وقتهم للعبادة والتقرب إلى الله. فقد ذكر ابن عساكر في “تاريخ دمشق” أن الحنيني كان يترك سماع الحديث في رمضان، وعندما سأله مالك بن أنس عن السبب. أجابه بأنه يحب أن يكون له وقت خاص به في هذا الشهر المبارك.
ووفقًا لكتاب “ربيع الأبرار” للزمخشري. كان سفيان الثوري يترك كل العبادات الأخرى ويهتم بقراءة القرآن في شهر رمضان. كما ذكر الحافظ ابن كثير في “البداية والنهاية” أن أبا عمرو بن العلاء التميمي كان لا ينشد أي شعر في رمضان حتى ينتهي منه. وكان الإمام سويد بن عمرو الكوفي لا يُحدِّث في هذا الشهر المبارك، معبرًا عن رغبته في التزام الصمت والتفرغ للعبادة.
بهذه الطريقة، كان السلف والعلماء يمارسون أعمالًا مختلفة ومميزة خلال شهر رمضان. مع تركيزهم على العبادة والقراءة والتفكر في الآيات الكريمة.
تقديس العبادة والعلم في شهر رمضان
في درب الاقتدار والتفاني، سار قاضي الأندلس أبو بكر ابن زَرْبٍ الأندلسي. الذي كان يخصص شهر رمضان للعبادة والعمل الخيري، متمسكًا بتلك العادة حتى آخر نفسه.
ومن المثال الأبهى لهذا التفاني العلمي في رمضان. قطع الإمام ابن حجر العسقلاني الدروس العلمية لكتابة المصاحف، وكذلك محمد ابن العَديم الحنفي الحلبي الذي كان يكتب مصحفًا أو مصحفين أثناء اعتكافه في هذا الشهر المبارك.
ويعكس حرصهم على القراء والمؤذنين جهدهم في زيادة رواتبهم في نهاية الشهر. حيث كانت الأوامر تصدر بزيادة رواتبهم بشكل كبير في الليالي الأخيرة من رمضان. وخاصة في ليلة ختم الشهر المبارك.
في هذه السياق، كانت العادات والتقاليد تنم عن تقدير المجتمع لشهر رمضان الفضيل وتفانيه في العبادة والعمل الصالح.
الإفتخار بالمرابطة والجهاد في شهر رمضان
تألقت عزيمة كبار علماء تونس في تراب الجهاد خلال شهر رمضان. حيث كان الإمام المالكي سحنون التنوخي ورفيقه موسى بن معاوية الصُّمادحي يقضيان هذا الشهر المبارك مرابطين في المُنستير، حيث كان موسى بن معاوية يبرز بصلاته الطويلة وثباته عليها، وكانوا يبدأون مرابطتهم في أول ليلة من ليالي شهر رمضان ويواصلونها حتى آخر ليلة منه.
وفي صفوف المرابطين يتألق الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، الذي برع في معارك الجهاد ضد البيزنطيين. وكان يشتهر بمكوثه المطوَّل في ثغور الشام الشمالية، حيث وُرِدَ أنه توفي في مدينة طَرَسوس خلال شهر رمضان.
كما كان المحدِّث العراقي الحسين بن بحر الأهوازي يشترك في معارك الجهاد. وقد توفي في النفير بمَلَطْيَة في شهر رمضان أيضًا.
تلك القصص تبرز روح الفداء والإفتخار بالمرابطة والجهاد في قلوب العلماء خلال شهر رمضان. حيث كانوا يضحون بكل شيء من أجل دينهم وأرضهم.
أهمية العمرة في شهر رمضان
تُظهر الروايات التاريخية أن علماء الأندلس كانوا يُعطون أهمية كبيرة لشهر رمضان. حيث وُرِدَ أن عبد الله بن هَرْثَمَة بن ذَكْوان، أحد كبار العلماء والقضاة في الأندلس الأموية، وافته المنية في قرية بكركي في صدر شهر رمضان.
ومن العادات الجميلة التي اعتمدها كبار علماء وقرّاء مكة المكرمة كان أداء العمرة في شهر رمضان. وقد روى محمد بن إسحق الفاكهي عن عبد الله ابن خُثَيم وغيرهم من العلماء والقرّاء أنهم كانوا يخرجون في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان لأداء العمرة، مستلهمين ذلك من سنة عائشة رضي الله عنها.
وتعكس هذه العادات تمسك العلماء بالأعمال الصالحة والتقرب إلى الله في شهر الصوم والعبادة. ما يبرز القيم الروحية التي يحملها شهر رمضان في قلوبهم.
تقديم الإحسان والصدقة في رمضان
تعتبر عادة إطعام المحتاجين والإنفاق في رمضان تقليدًا إسلاميًا قديمًا. يعود إلى عصر الخلفاء الراشدين وممارسة الصحابة وتفانيهم في تقديم الخيرات في هذا الشهر الفضيل. وقد وصف النبي ﷺ بأنه كان “أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ” (صحيح مسلم).
تمتد هذه العادة حتى إلى العصر الجاهلي. حيث كان عبد المطلب بن هاشم يُعتقد أنه أول من بدأ بتقديم الإحسان في شهر رمضان بتغذية المساكين.
ومن المثالية التي قدمها الصحابة، أن عمر بن الخطاب كان يخصص درهمًا لكل محتاج في كل يوم من رمضان، وكان يوزع الطعام للصائمين وأسر النبي ﷺ، وهذا التقليد استمر في عهد عثمان بن عفان الذي أضاف الطعام للصائمين في المساجد.
ويُظهر التاريخ أيضًا أن المسجد النبوي كان يوفر شرابًا للصائمين لفطرهم في رمضان، وهذا يعكس الروح الإنسانية العظيمة التي كانت تتحلى بها المجتمعات في هذا الشهر المبارك.
سير الأمويين في تقديم الإحسان والتصدق في رمضان
سار الأمويون على درب الخلفاء الراشدين في عادة إطعام الصائمين، حيث اشترى معاوية بن أبي سفيان دارًا في مكة المكرمة وسماها “دار المراجل”؛ لأنها كانت تُستخدم لطهي طعام الحجاج وطعام شهر رمضان.
وقد دأب بعض الأمراء على زيادة الإنفاق والتصدق خلال رمضان، فكان أمير تونس العادل أحمد بن محمد بن الأغلب يخرج كل ليلة في رمضان ويوزع الدراهم على الضعفاء والمساكين.
وفي دمشق، كان أميرها للعباسيين مالك بن طَوْق يعلن عند باب “الخضراء” كل يوم بعد صلاة المغرب دعوة للإفطار، وكانت الأبواب مفتوحة للجميع للدخول دون إذن، مما جعله من الأسخياء المشهورين في تاريخ المنطقة.
سخاء وإحسان في رمضان: التقليد الفاطمي
بعض قضاة وعلماء الأندلس ساروا على نهج الكرم في شهر رمضان، كقاضي مالقة محمد بن الحسن النُّباهي، الذي كان يستضيف عشرة من الفقهاء كل ليلة في داره بالقرب من المسجد، ليفطروا ويتدارسوا كتاب الله.
واستمرت هذه العادة الجميلة، حتى أمر الخليفة الناصر لدين الله العباسي ببناء “دور الضيافة” في بغداد، ليتمكن الفقراء من الإفطار يومياً في رمضان، حيث كانوا يُعطون كل يوم وجبات تحتوي على اللحم والخبز، وكانت هذه الدور تنتشر في كل أحياء بغداد، وكان العطاء والإفطار يتم بسخاء لا يُضاهى.
سخاء الفاطميين في رمضان: تقليد الفطرة
سارت أسرة الفاطميين على نهج الكرم في شهر رمضان، حيث كانت عادتهم توزيع الطعام على الناس في القاهرة من مطابخ خاصة بذلك. بدأ هذا التقليد في عهد المعز لدين الله الفاطمي، الذي أنشأ “دار الفطرة” حيث يعمل فيها الخبازون على صُنع الحلويات والمأكولات التي يتم توزيعها على الفقراء من أول رجب حتى نصف شهر رمضان.
ويشير المقريزي أيضًا إلى سخاء القائد العسكري الفاطمي لؤلؤ الحاجب الأرمني، الذي كان يوزع يوميًا اثني عشر ألف رغيف خبز مع الطعام، وعندما يدخل شهر رمضان يزداد الإحسان، حيث يقوم بتوزيع طعام على الفقراء بشكل يومي حتى وقت صلاة العشاء، وكان ينظم ذلك بشكل ممتاز لضمان توزيع الطعام بشكل عادل ومنظم، وكان الفقراء ينتظرون بانتظار الأمل للحصول على العطاء، وعندما ينتهي الفقراء، يتم توزيع بقايا الطعام على الأغنياء، مما يبرز روح العدالة والسخاء في المجتمع.
سخاء أهل دمشق ومصر في رمضان: تقاسم الطعام
أظهر ابن بطوطة انبهاره بعادات أهل دمشق خلال شهر رمضان، حيث يشير إلى عادة مشتركة بين أهل المدينة في تقديم الطعام والتشارك في الإفطار. يذكر أن الأمراء والقضاة وكبار الشخصيات يدعون الفقراء وأصدقاءهم لتناول الطعام معهم، فيما يجتمع الضعفاء وسكان البادية في دور أحدهم أو في المساجد لإفطار مشترك يجمع الجميع.
وفي مصر، يروي المقريزي عن سلطان المماليك الظاهر برقوق، الذي كان يقوم بذبح خمس وعشرين بقرة يومياً في شهر رمضان، ويوزع لحمها المطبوخ وآلاف الأرغفة من الخبز على الناس في الجوامع والمدارس وأماكن التجمعات الدينية والصوفية، حيث يتلقى كل فرد رطلاً من اللحم وثلاثة أرغفة من الخبز، وقد يتم زيادة هذه الكمية لمن يحتاجون إليها.
رعاية العدل والإحسان في رمضان: مبادرات الحكام
تبرز جهود الخلفاء والملوك والسلاطين في تعزيز العدل ورفع المظالم خلال شهر رمضان، حيث سعوا لتخفيف الصعوبات عن الناس وتحقيق العدل في مختلف المجالات.
يروي ابن طيفور في “كتاب بغداد” قصة عن الخليفة المأمون العباسي، حيث استجاب لشكوى حول تلاعب التجار في الأوزان أثناء شهر رمضان، فأمر بتحديد مكيال رسمي يتسع لثمانية مكاكيك، ونصب في وسطه عمودًا سُمي بالملجم، وأمر التجار بضبط أوزانهم والتزام المكيال الرسمي، وهو الأمر الذي أدى إلى رضا الناس.
ويحكي المقريزي في “المواعظ” قصة عن أمير مصر أحمد بن طولون، الذي لما رأى الصناع يعملون في جامعه أثناء العشاء في رمضان، أمر بإطلاق سراحهم في وقت العصر ليشتري الضعفاء إفطارًا لعائلاتهم. وعند انتهاء شهر رمضان، رفض استئناف العمل في الجامع، مؤكدًا أنه سمع دعاء الضعفاء وتبرك به، ولم يعد العمل في الجامع إلى ما قبل رمضان.
تأسيس جامعات ومدارس في رمضان: نماذج من التاريخ
يعتبر مسجد القرويين في فاس، المغرب، أقدم جامعة أنشئت في العالم الإسلامي. بُني هذا المسجد بمال المرأة الصالحة فاطمة بنت محمد الفهري، وقد اختارت بداية تأسيسه في شهر رمضان لزيادة الأجر في عين الله.
يروي المؤرخ ابن أبي زرع قصة فاطمة، التي ورثت ثروة جسيمة من زوجها وإخوتها وقررت استثمارها في مشاريع خيرية. اشترت فاطمة الأرض وبدأت ببناء المسجد في رمضان سنة 245هـ.
تابع السلطان صلاح الدين الأيوبي هذا المثال، حيث كان نشيطًا ومجتهدًا طوال العام وخاصة في رمضان. في 588هـ. زار القدس في رمضان وأمر بتعزيز أسوارها وتوسيع المدارس.
أما الأمير المملوكي سيف الدين صُرْغَتمُش الناصري، فقد بنى مدرسته في القاهرة في رمضان. حيث بدأ البناء في 756هـ وانتهى في 757هـ، وأُشيدت هذه المدرسة بتصميمها الرائع وجمالها.
مناظرات ودروس في رمضان: تقليد يمتد عبر العصور
في رمضان، تعطي المجالس الحديثية منبرًا للمناظرات والدروس الدينية والتأملات. يشير أبو العرب التميمي إلى أن أمراء بني الأغلب في تونس كانوا يستضيفون الأخباريين والمؤرخين. ويمضون يومهم في سماع قصص الأولين.
وفي رمضان، كانت السلطة تحرص على إقامة مجالس الحديث النبوي. يروي المقريزي أن خليفة الفاطميين كان يجلس ليلًا للاستماع إلى القراءة والذكر والدعاء، بينما يحيط به المقرئون والوعاظ.
في العصر المملوكي، استمرت هذه العادة. حيث كان السلاطين وأمراء المماليك يُقيمون مجالس القراءة والحديث في رمضان. يُذكر أن السلطان الأشرف شعبان نظم قراءة لصحيح البخاري في كل يوم من أيام هذا الشهر المبارك.
هذه المناظرات والدروس تعكس الاهتمام العميق بالتعلم والتأمل في شهر الصوم والعبادة.
مناظرات علمية ومجالس دينية في شهر رمضان
في ليالي رمضان، كانت لدى ملوك السامانيين وسلاطين المماليك التقليدية لعقد مجالس المُناظرة. حيث يتبادلون الحوار والنقاش حول القضايا الدينية والعلمية. ويشير الثعالبي إلى حضور الفقهاء والمتكلمين في هذه المناسبات.
من بين السلاطين الذين اعتادوا على هذه الممارسة كان السلطان محمد بن تغلق شاه في الهند. حيث كان يقيم مجالس للحوار الفكري والعلمي مع العلماء، حيث يتبادلون الأفكار والنقاشات بحضور السلطان.
وكانت هناك أيضًا مجالس للمحدثات والشيخات العالمات في رمضان. حيث كانت مفتوحة للطلبة والمهتمين بالعلم. ومن أمثلة ذلك شيخة الدينية الدمشقية أسماء بنت محمد. التي استمع إليها العلماء والطلبة في مجالسها خلال هذا الشهر الكريم.
وعظ وأدب في أجواء رمضان
في أيام رمضان، كانت حلقات العلم والوعظ مليئة بالنشاط والتأمل. يُذكر أن عبد الله بن عباس كان يحظى بشعبية كبيرة في بغداد، حيث كان يقدم خطبًا بعد صلاة العشاء. كان يلقي كلمات موجزة تلهم الناس للتقوى والتفكر.
وكانت الجوامع مكانًا لنقاشات الشعر والأدب في رمضان. يُذكر أن في إحدى الليالي، دعا الأديب أبو الحجاج يوسف بن علي. المعروف بلقب “النعجة”، لكتابة قصيدة شعرية في مجلس جمع الناس. وبينما كان يتعجب من الطلب، قام بتأليف قصيدة مذهلة تشير إلى ضرورة انتظار ظهور نجم الصباح قبل الإفطار.
وكمثال آخر، يُذكر جمال الدين بن ظافر الأزدي وصفًا لمجلس أدبي في رمضان. حيث قام الحاضرون بطلب قصيدة من أبو الحجاج، وبالرغم من تعجبه من الطلب. أبدع قصيدة تُظهر براعته وفكره العميق في التعبير عن مفهوم النجوم وضرورة الصبر والانتظار في هذا الشهر الكريم.
استقبال شهر رمضان: بين الوعظ والأدب
في دولة الأراتقة التركمان، كان أمراءها يُفضّلون سماع الأدب وقراءة الشعر بعد الإفطار. يحكي ابن شاكر الكتبي عن تجربته مع الشيخ الواعظ ناشِب بن هلال الحراني في ماردين. دُعي لتناول الإفطار عند صاحب القلعة. وعندما انتهى الإفطار، طلب من الخادم كتابًا ليقرأ منه. فوجده ديوان أمرئ القيس. فقرأ بداية قصيدة ألا عِمْ صباحًا، وبعد ذلك أكمل القصيدة بنفس الروح والأسلوب. وأثنى صاحب القلعة على موهبته. مما جعله يُكرمه ويُدعوه ليقرأ له.
هذه المشاهد تعكس عادات وتقاليد المسلمين في استقبال شهر رمضان عبر العصور. تظهر لنا كيف كانت هذه الأمة تحتفي بالشهر الفضيل بروح من العبادة والإنفاق والتعليم والبناء. متنافسة في أعمال الخير بين أفرادها بمختلف أوضاعهم وأعمارهم وأجناسهم.