في قلب القارة العجوز، تتأهب ألمانيا لدخول مرحلة غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فمع تولّي المستشار الجديد فريدريش ميرتس قيادة أقوى اقتصاد في أوروبا، تتعالى التوقعات بشأن تحوّل الجيش الألماني من قوة دفاعية محدودة، إلى عملاق عسكري تقليدي يقود القارة.
ميرتس لم يُخفِ طموحه. في أول خطاب له أمام البرلمان، أعلن صراحة أن ألمانيا يجب أن تبني أقوى جيش تقليدي في أوروبا. هذا الطموح يعيد إلى الأذهان نظرية المنظّر العسكري الشهير كارل فون كلاوزِفِتس، الذي قال: “إذا أردت السلام، فاستعدّ للحرب”.
لكن، هل تستطيع ألمانيا تنفيذ هذه المهمة الثقيلة؟
ما حجم العقبات التي تعترض طريقها؟
وهل أوروبا مستعدة لمواجهة شبح حرب محتملة عام 2029؟
ميرتس وكلاوزِفِتس: بين النظرية والتطبيق
رغم أن مقارنة فريدريش ميرتس بالعسكري الألماني التاريخي كلاوزِفِتس قد تبدو بعيدة، إلا أن التشابه في الفكرة واضح. فالمقولة الأشهر لفون كلاوزِفِتس: “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، تحضر بقوة في خطاب ميرتس البرلماني.
قال المستشار الجديد:
“من يريد السلام، عليه أن يكون مستعدًا للحرب. نريد أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا، كي لا نُجبر على القتال”.
ليس هذا فحسب، بل دعا أيضًا إلى جعل ألمانيا “المحور الرئيسي في حلف الناتو”.
تصريح كهذا لا يعني مجرد انخراط سياسي.
بل يتطلب تحديث شامل لكل البنية التحتية الألمانية:
-
جسور
-
سكك حديدية
-
مطارات
-
موانئ
كل هذا لضمان سرعة تحريك القوات نحو الشرق في حال اندلاع مواجهة.
ومن هنا، تنطلق خطة ميرتس نحو “بناء أقوى جيش تقليدي في أوروبا”.
الأسئلة الكبرى: هل ألمانيا مستعدة؟
خلف خطاب ميرتس الطموح، تقف تحديات كبيرة.
الجيش الألماني اليوم ليس كما كان قبل عقود.
لقد تعرض لتهميش ممنهج منذ التسعينيات، وتراجعت قدراته على عدة مستويات.
ويطرح ذلك الأسئلة الحاسمة:
-
هل لدى ألمانيا عدد كافٍ من الجنود؟
-
ماذا عن الأسلحة والتقنيات؟
-
هل الموازنات كافية؟
-
وما موقف الرأي العام الألماني من التوسع العسكري؟
الإجابات على هذه الأسئلة معقدة.
لكن المؤكد أن العقبات كثيرة، ومتشعبة.
الجنود، السلاح، المال: ثلاثية التحديات
بحسب صحيفة “دي تسايت” الألمانية، يعاني الجيش من 99 عقبة، تتفرع عن ثلاث مشكلات رئيسية:
-
نقص الكوادر العسكرية
-
تقادم أنظمة السلاح
-
عدم كفاية التمويل طويل الأمد
الجنرال المتقاعد رالف تيله، رئيس اتحاد EuroDefense، أوضح في مقابلة مع الجزيرة نت أن ألمانيا “نظريًا” تستطيع بناء جيش قوي، لكن ذلك يتطلب فريقًا حكوميًا مختلفًا، يمتلك خبرة وسرعة في اتخاذ القرار.
وهو يضيف:
“بعض الأنظمة الحديثة موجودة، نعم.
لكننا نحتاج إلى بنية عسكرية مترابطة.
تشمل الفضاء، الذكاء الاصطناعي، والكوابل البحرية.
بدون ذلك، لن نكون في طليعة أوروبا عسكريًا”.
100 مليار.. ثم 500 مليار: ولكن من أين؟
في عام 2022، وبعد بدء الحرب في أوكرانيا، أعلن المستشار السابق أولاف شولتس عن “تحول زمني”.
وعد بتخصيص 100 مليار يورو للجيش الألماني.
لاحقًا، وبعد صعود ميرتس، تضاعف الرقم ليصل إلى 500 مليار يورو.
لكن العقيد تيله يرى أن هذه الأرقام لا تزال “وعودًا جوفاء”.
فحتى الآن، لم يتم صرف سوى جزء بسيط من الأموال.
ويؤكد أن ميزة ألمانيا مقارنة ببريطانيا وفرنسا هي ديونها المنخفضة نسبيًا (60% من الناتج المحلي)، مما يسمح بهوامش صرف أوسع.
رغم ذلك، فإن غياب خطة إنفاق واضحة ومستمرة يجعل شركات الأسلحة مترددة.
وذلك يؤخر التسليم، ويرفع الأسعار، ويؤثر سلبًا على بناء الجيش.
الجيش الألماني مقارنة بجيوش أوروبا: أين تقف ألمانيا؟
عندما يتعلق الأمر بالقوة العسكرية في أوروبا، تظهر ألمانيا كلاعب رئيسي.
لكن الأرقام تكشف فجوة بين حجم الطموحات والإمكانات الفعلية.
فمن حيث عدد الجنود، تحتل ألمانيا المركز الرابع أوروبياً.
حسب معهد IISS:
-
تركيا: 355 ألف جندي
-
فرنسا: 202 ألف جندي
-
بولندا: 200 ألف جندي
-
ألمانيا: 182 ألف جندي
بالمقابل، بلغ عدد جنود ألمانيا خلال الحرب الباردة نصف مليون، مع 800 ألف في الاحتياط.
تخطط الحكومة لرفع العدد إلى 203 آلاف بحلول 2031.
ويرغب وزير الدفاع “بوريس بيستوريوس” بجيش احتياطي يصل إلى 460 ألف جندي.
لكن جذب المجندين لا يزال تحديًا.
فثقافة الخدمة العسكرية ضعفت.
كما أن الرواتب، والامتيازات، وظروف الخدمة لا تغري الشباب الألماني.
دبابات “ليوبارد”: فخر الصناعة الألمانية ولكن بأرقام متواضعة
تُعد دبابة ليوبارد 2 من أكثر دبابات العالم تطورًا.
هي سريعة، دقيقة، ومدرعة.
ورغم ذلك، تمتلك ألمانيا عددًا محدودًا منها.
حسب الإحصائيات:
-
209 دبابة “ليوبارد 2A5/A6”
-
104 دبابة “ليوبارد 2A7V”
-
اتفاق على شراء 105 دبابة “ليوبارد 2A8” سيتم تسليمها بين 2027 و2030
وللمقارنة:
-
بولندا تمتلك عددًا مقاربًا
-
تركيا واليونان تتفوقان عدديًا
-
بريطانيا وفرنسا أقل عدداً ولكن بحضور نوعي
تخطط ألمانيا لتخصيص الدفعة الجديدة من الدبابات للوحدات المنتشرة في ليتوانيا.
هذا يعكس استعدادات دفاعية شرق أوروبا لمواجهة محتملة.
اقرأ كذلك: وول ستريت جورنال: ترامب يزعزع النظام العالمي الذي أنشأته أميركا
الطيران الحربي: تحديث مرتقب لمقاتلات “تورنادو”
يمتلك سلاح الجو الألماني:
-
138 مقاتلة من طراز “يوروفايتر”
-
93 مقاتلة قديمة من طراز “تورنادو”
-
خطة لاستبدالها بـ35 طائرة “F-35” الأمريكية
إضافة إلى:
-
226 طائرة نقل وتدريب وتزود بالوقود
هذه الأرقام تجعل ألمانيا في المركز الرابع أوروبيًا، بعد تركيا، فرنسا، واليونان.
غياب حاملات الطائرات يضعف قوة الانتشار الألمانية مقارنة ببريطانيا وفرنسا.
أسطول البحر الألماني: غواصات وفرقاطات محدودة العدد
يمتلك سلاح البحرية الألماني:
-
6 غواصات من طراز “212 A”
-
6 فرقاطات حديثة ومتطورة
من المخطط التعاون مع النرويج لبناء غواصات جديدة من طراز “U 212 CD” بين 2032 و2037.
ورغم التحديثات، تتأخر ألمانيا خلف فرنسا، إيطاليا، وتركيا من حيث العدد.
لكنها تتفوق تكنولوجيًا في قدرات الغواصات.
صواريخ “تاوروس”: سلاحٌ ذكي يخشاه الخصوم
يُعتبر صاروخ تاوروس أحد أكثر الأسلحة دقة في أوروبا.
هو ألماني سويدي مشترك.
مداه 500 كلم، ويُطلق من الجو.
يتميّز بأنه يحلّق على ارتفاع منخفض، يصعب رصده.
يخترق التحصينات، ويقدّم معلومات أثناء الاختراق.
كل صاروخ يبلغ سعره مليون يورو.
ألمانيا تملك منه 600، لكن 150 فقط جاهزة حالياً.
رغم الطلب الأوكراني، امتنعت ألمانيا عن تسليمه حتى الآن.
القرار أثار انقساماً داخل الحكومة والرأي العام.
هل أوروبا على موعد مع حرب جديدة عام 2029؟
يحذر قادة الجيش الألماني من خطر روسي محدق.
ففي وثيقة داخلية، حدد الجيش عام 2029 كموعد محتمل لهجوم روسي على أراضي الناتو.
التحذير جاء على لسان:
-
كارستن بروير، المفتش العام للجيش
-
وزير الدفاع بيستوريوس
يقول بروير:
“علينا أخذ تهديدات بوتين بجدية.
روسيا تخطط لرفع عدد جنودها إلى 1.5 مليون.
وتصنع من 1000 إلى 1500 دبابة سنويًا”.
التحليل يربط بين هذه القدرات، ونوايا استراتيجية تتجاوز أوكرانيا.
أوروبا، في هذه القراءة، لم تعد في مأمن.
عقيدة بيستوريوس: الوقت هو العامل الحاسم
في وثيقة دفاعية نُشرت في أبريل 2023، المعروفة باسم عقيدة بيستوريوس، تؤكد الحكومة على أن “الوقت” هو الأولوية القصوى.
يقول الوزير:
“سنُسرّع خطواتنا فوراً.
الجيش بحاجة لمعدات جاهزة اليوم، لا بعد سنوات.
لا نملك رفاهية التأخير”.
هذه العقيدة تُلزم ألمانيا بتسريع:
-
الإنتاج العسكري
-
التدريب
-
التحديثات التكنولوجية
كم تحتاج ألمانيا لتعويض ما خسرته؟
وفق دراسة من معهد الاقتصاد العالمي في “كيل”، الفجوة العسكرية كبيرة.
البيانات تكشف التراجع الصادم منذ 2004:
السلاح | عام 2004 | عام 2021 |
---|---|---|
المقاتلات | 423 | 226 |
الدبابات | 2398 | 339 |
المدافع | 978 | 121 |
تعويض هذا النقص:
-
الطائرات: يحتاج 10 سنوات
-
الدبابات: يحتاج 40 سنة
تستطيع روسيا تصنيع ذات الأعداد خلال نصف عام.
كما ضاعفت إنتاجها منذ حرب أوكرانيا.
وأطلقت مشاريع لتطوير المسيّرات، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والدفاع الجوي.
مخاوف أوروبا: التصعيد الإعلامي قد يقود للهاوية
العقيد المتقاعد رالف تيله ينتقد الدور الإعلامي بقوة.
يقول إن بعض الصحفيين “يتعاملون مع الحرب كأنها لعبة”.
يتحدثون عن الدبابات كأنها أدوات سحرية تغيّر اللعبة.
لكنهم يجهلون إدارة الحروب فعليًا، مما يخلق خطراً كبيراً.
ويضيف:
“أوروبا بحاجة لفهم إستراتيجي، لا تضخيم شعبي”.
التصعيد غير الواعي يفتح أبواب التصادم، لا الردع.
هل لدى ألمانيا خطة واضحة للصناعة الدفاعية؟
حتى الآن، لا تملك الحكومة الألمانية رؤية صناعية طويلة الأجل.
شركات الأسلحة تشكك في استمرارية الطلب.
هذا يعني:
-
تأخر الإنتاج
-
ارتفاع الأسعار
-
تعذّر وضع خطط تصنيع مستدامة
الاستقرار في هذا القطاع يتطلب:
-
عقودًا طويلة الأمد
-
تمويل مضمون
-
وضوح سياسي في الرؤية الدفاعية
هل تفي ألمانيا بوعودها العسكرية؟
ألمانيا اليوم أمام لحظة مفصلية في تاريخها.
فالخطر الروسي حقيقي، والتحديات ضخمة، والأرقام لا تكذب.
إن أرادت ألمانيا بناء أقوى جيش تقليدي في أوروبا،
فهي بحاجة لأكثر من خطابات.
تحتاج إلى قرارات جريئة، تمويل مستدام، وتحول ثقافي عسكري.
عام 2029 قد يبدو بعيدًا، لكنه قريب عسكريًا.
كل تأخير يعني مزيدًا من الخطر على أوروبا.
ولن يُحترم الردع إلا إذا كان حقيقيًا، ومنظورًا.
ومثلما قال كلاوزِفِتس:
“السلام لا يُشترى بالأمنيات، بل بالقوة المنظمة”.