سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل بين الدعم الثابت والتحولات الإقليمية: قراءة تحليلية معمقة
زيارة ميرتس للقدس ورسائل برلين السياسية في مرحلة حساسة
تظهر سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل كمسار ثابت يستند إلى جذور تاريخية وثقيلة في الذاكرة الألمانية، ومع ذلك تتبدل الظروف المحيطة بهذه السياسة بشكل سريع، بينما تتسع دائرة التحديات الإقليمية. وفي ظل هذا الواقع المضطرب، برزت زيارة المستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى القدس كحدث سياسي بارز، لأنها حملت رسائل واضحة، وشكلت منعطفًا مهمًا في تقييم علاقة ألمانيا بإسرائيل، خاصة أن سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل تظل عنصرًا جوهريًا في مسار برلين الدبلوماسي.
تأكيد الدعم الألماني الثابت لإسرائيل
عند وصوله إلى القدس، أعلن ميرتس أن دعم إسرائيل يمثل “النواة الأساسية والثابتة” لسياسة بلاده، موضحًا أن هذا النهج لن يتغير مهما تبدلت الظروف أو زادت الضغوط. واعتبر ميرتس وجوده في القدس “شرفًا عظيمًا”، وأكد أن هدف الزيارة هو تجديد الالتزام الألماني تجاه إسرائيل، لأن برلين ترى أن الوقوف إلى جانب تل أبيب ليس مجرد موقف سياسي، بل يعتبر ركيزة تاريخية واجتماعية وأخلاقية. ويعكس هذا التصريح إصرار القيادة الألمانية على حماية العلاقات مع إسرائيل، رغم الانتقادات الداخلية والخارجية التي برزت خلال السنوات الأخيرة بسبب الأحداث في غزة.
الخلاف المؤقت حول صادرات السلاح
وقبل هذه الزيارة، واجه ميرتس انتقادات من السلطات الإسرائيلية بعد قراره في أغسطس بفرض حظر جزئي على صادرات السلاح الألمانية لإسرائيل. جاء هذا القرار ردًا على ما وصفته برلين بـ“معضلات إنسانية خطيرة” ظهرت خلال العمليات العسكرية في غزة. ومع ذلك، رفعت ألمانيا الحظر في نهاية نوفمبر بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع. وصرّح ميرتس بأن الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في غزة شكلت تحديًا سياسيًا وأخلاقيًا أمام برلين، مما استدعى ردًا مباشرًا. ومع ذلك أكد المستشار عدم وجود خلاف جوهري بين البلدين، معتبرًا أن الجانبين ما يزالان متوافقين في الرؤية العامة، رغم ما يبدو من تباينات.
حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها
كرر ميرتس خلال تصريحاته أن إسرائيل تمتلك الحق الكامل في الدفاع عن نفسها، واعتبر هذا الحق أساسًا لضمان وجودها واستمرارها. ويأتي هذا الموقف ضمن إطار ثابت تتبناه ألمانيا منذ عقود، حيث تضع أمن إسرائيل ضمن “مصالحها العليا”. ويُعد هذا المبدأ من أكثر الظواهر وضوحًا في سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل، لأنه يرتبط مباشرة بالذاكرة الألمانية الثقيلة، إضافة إلى اعتبار تل أبيب حليفًا مهمًا في منطقة الشرق الأوسط.
الزيارة في ظل عزلة نتنياهو الدولية
أهمية زيارة ميرتس لا تتعلق فقط بملف العلاقات الثنائية، بل تتجاوز ذلك لأنها جاءت في فترة تعاني فيها حكومة نتنياهو من عزلة دولية متزايدة، نتيجة الاتهامات الدولية المتعلقة بالمجازر في غزة خلال العامين الماضيين. وبذلك، اعتبرت تل أبيب زيارة ميرتس بارقة سياسية مهمة، لأنها تُظهر أن برلين ما تزال داعمًا مركزيًا لها رغم النقد العالمي المتصاعد. ومن هنا، تتزايد حساسية الملفات المطروحة في هذه الزيارة، خاصة ما يتعلق بالمفاوضات حول المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار
من المتوقع أن يناقش ميرتس ونتنياهو التقدم في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ منذ شهرين. وتشمل هذه المرحلة ملفات إنسانية وسياسية وأمنية معقدة، مثل إعادة الإعمار، وضمان وصول المساعدات، وتحديد آليات ضبط الأمن، إضافة إلى الاتفاق على ترتيبات انتقالية داخل غزة. ويُعد هذا الملف من أكثر الملفات حساسية، لأنه يرتبط بمستقبل القطاع سياسيًا وأمنيًا، ولأنه يتداخل مع الصراع الإقليمي بأكمله.
دعوة ألمانية لإصلاح السلطة الفلسطينية
قبل التوجه إلى القدس، تواصل ميرتس هاتفيًا مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ودعاه إلى تنفيذ “إصلاحات ضرورية وعاجلة” داخل السلطة الفلسطينية، معتبرًا أن هذه الإصلاحات أساسية لضمان دور فلسطيني فعال في مرحلة ما بعد الحرب في غزة. ويظهر هذا الموقف بوضوح رغبة برلين في وجود سلطة فلسطينية أكثر قوة وفاعلية، لأن ألمانيا ترى أنها الجهة الأكثر شرعية لقيادة مرحلة إعادة الاستقرار في القطاع. وتعكس هذه الدعوة أيضًا رغبة ألمانية في تقليل حالة التفكك السياسي الفلسطيني، لأنها أصبحت تؤثر على مسار المفاوضات.
إدانة عنف المستوطنين
خلال المكالمة ذاتها، أدان ميرتس الارتفاع “الهائل والخطير” في وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. ونقلت الحكومة الألمانية أن المستشار أبلغ عباس بأن برلين ترفض هذه الاعتداءات، وترى أنها تزيد التوترات، وتعيق أي تقدم سياسي. ويأتي هذا الموقف في سياق أوسع، لأن ألمانيا تحاول الحفاظ على توازن دبلوماسي يسمح لها بالاستمرار كوسيط مقبول لدى الطرفين.
تأكيد دعم حل الدولتين
أشاد ميرتس أيضًا بـ“الموقف المتعاون” للسلطة الفلسطينية تجاه خطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرًا. ورغم أن الخطة أثارت جدلًا واسعًا، فإن ألمانيا تمسكت بدعم حل الدولتين باعتباره الإطار الأكثر واقعية لحل الصراع. وأكد ميرتس أن برلين ما تزال ترى أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل هو الخيار الوحيد الذي يمنع تكرار الصراعات ويخلق حالة استقرار طويل الأمد.
زيارة الأردن ومواقف الملك عبد الله
قبل الوصول إلى القدس، توقف ميرتس في الأردن، حيث التقى الملك عبد الله الثاني وبحث معه الوضع السياسي الراهن. وتناول اللقاء عملية السلام الهشة، والمسؤوليات الملقاة على عاتق الأطراف الدولية، إضافة إلى التحديات الإنسانية المتزايدة. وأكد ملك الأردن ضرورة الالتزام بتنفيذ اتفاق إنهاء الحرب بكافة مراحله، وضرورة تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة لتخفيف معاناة السكان.
تأثير زيارة ميرتس على المشهد الإقليمي
زيارة ميرتس إلى القدس تحمل وزنًا سياسيًا كبيرًا على المستوى الإقليمي، لأنها تأتي في لحظة تشهد تحولات جذرية في العلاقات الدولية داخل الشرق الأوسط. ويُنظر إلى ألمانيا كفاعل مهم قادر على التأثير في قرارات الدول الأوروبية تجاه الصراع. لذلك، فإن تحركات ميرتس ستعيد تشكيل التوازنات، خاصة مع تصاعد الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن الدعم العسكري لإسرائيل.
التوازن الألماني بين الأخلاق والسياسة
تحاول ألمانيا دومًا رسم خط دقيق يجمع بين التزامها التاريخي تجاه إسرائيل وبين احترام القانون الدولي. ولذلك، تواجه الحكومات الألمانية معضلات متكررة، لأنها تسعى لدعم أمن إسرائيل، وفي الوقت نفسه تحافظ على صورتها كدولة ملتزمة بحقوق الإنسان. وجاء الحظر الجزئي على صادرات السلاح كدليل على هذا التوازن، لأنه أظهر أن برلين مستعدة لاتخاذ مواقف صعبة عند الضرورة، لكنها لا ترغب في تغيير سياستها الأساسية.
ألمانيا بين الانتقادات الداخلية والالتزامات الدولية
تزداد الضغوط على الحكومة الألمانية بسبب المواقف الشعبية داخل ألمانيا، حيث تتصاعد الأصوات التي ترفض الدعم غير المشروط لإسرائيل. ومع ذلك، تظل القيادة الألمانية متمسكة بالخط العام. ومن هنا، تُعد زيارة ميرتس محاولة لتخفيف الانتقادات، وإظهار أن برلين لا تتجاهل الانتهاكات الإنسانية، لكنها تربط دعمها لإسرائيل باعتبارات أوسع.
خاتمة: استمرار سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل
يتضح من كل هذه التطورات أن سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل تبقى واحدة من أكثر السياسات ثباتًا في أوروبا، رغم النقد المتزايد والتحديات المتصاعدة. وتأتي زيارة ميرتس لتعزز هذا المسار، ولتؤكد أن برلين ما تزال ترى في دعم إسرائيل التزامًا مركزيًا لا يمكن التراجع عنه، حتى مع استمرار الأزمات في غزة، وتصاعد الخلافات الدولية والإقليمية.
وتكشف هذه الزيارة أيضًا عن رغبة ألمانية في لعب دور أكبر في مسار السلام، وفي دعم مرحلة انتقالية داخل غزة تتضمن إصلاح السلطة الفلسطينية، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتخفيف التوترات في الضفة الغربية، بما يساعد على خلق مناخ سياسي أكثر استقرارًا.
اقرأ كذلك: قصة السائق الذي تحدّى الإمبراطورية الأميركية