مدونات

بعد عام على انتصار الثورة السورية… أين وصلت رحلة العودة إلى سوريا؟

كيف تغيّر المشهد الإنساني بعد سقوط النظام؟

بعد مرور عام كامل على انتصار الثورة في سوريا وسقوط نظام بشار الأسد، بدأت البلاد تشهد مرحلة مختلفة تماماً عن السنوات التي سبقت التغيير السياسي الكبير. وتظهر المؤشرات الإنسانية والسياسية أن سوريا تسير نحو مرحلة جديدة، مرحلة تتسم بحركة واسعة من العودة إلى سوريا من دول الجوار ومن دول أخرى بعيدة. ويبدو أن موجة العودة هذه لم تأتِ صدفة، بل جاءت نتيجة تداخل عوامل سياسية وإنسانية، إضافة إلى شعور متزايد لدى السوريين بأن أبواب الوطن بدأت تُفتح من جديد، وأن مرحلة ضياع الهوية تحت النزوح بدأت تقترب من النهاية رغم التحديات الهائلة. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون ومئتين وثمانية آلاف سوري عادوا خلال عام واحد فقط، وهو رقم يعكس رغبة عميقة في استعادة الحياة رغم الخراب الكبير. وهذا الرقم يمثل أكثر من مجرد عودة أفراد، لأنه يمثل أيضاً عودة ذاكرة، وعودة عائلة، وعودة علاقة الإنسان بأرضه، وعودة محاولة ترميم كل ما انكسر خلال سنوات الحرب الطويلة.

توزيع العائدين حسب الدول المستضيفة

ووفقاً للأمم المتحدة، فإن تركيا تصدرت الدول التي عاد منها السوريون خلال الفترة الأخيرة، لأن تركيا كانت الوجهة الأكبر منذ بداية الصراع، ولذلك بقيت مركزاً لحركة العودة. وقد ساعدت الجغرافيا على ذلك لأن الحدود البرية جعلت العودة أكثر سهولة مقارنة بالعودة من دول بعيدة. ومع مرور الوقت بدأت الظروف السياسية والاجتماعية في تركيا تتغير، وهذا شجع الكثيرين على التفكير في الرجوع. وتأتي بعدها لبنان في المرتبة الثانية، وهي دولة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة أثرت على اللاجئين بشكل مباشر ودفع الكثير منهم للتفكير في العودة رغم استمرار الصعوبات داخل سوريا. ثم يأتي الأردن الذي استقبل مئات الآلاف من السوريين، ورغم أن ظروفه الاقتصادية والسياسية أكثر استقراراً، إلا أن رغبة الناس في الاستقرار الدائم داخل وطنهم دفعتهم للعودة تدريجياً. ويأتي العراق أيضاً في قائمة الدول التي عاد منها عدد كبير من السوريين، خصوصاً المناطق الشمالية التي كانت تستقبل مجموعات كبيرة من النازحين خلال فترة الحرب. أما مصر فقد شهدت أقل نسبة من العودة، لأن المسافة البعيدة، إضافة إلى استقرار العديد من الأسر فيها، جعلت قرار العودة أكثر تعقيداً. ورغم ذلك، عاد ما يقارب 1900 سوري من دول الاتحاد الأوروبي، وهذا رقم محدود لكنه يحمل دلالات مهمة، لأن السوريين في أوروبا يتمتعون غالباً بفرص حياة مستقرة، ولذلك يكون قرار العودة أكثر صعوبة، لكنه يحدث عندما يرتبط الإنسان بجذور لا يستطيع نسيانها مهما ابتعد.

التركيبة السكانية للعائدين وأهمية أرقام الأمم المتحدة

وتوضح بيانات الأمم المتحدة أن النساء شكلن النسبة الأكبر بين العائدين، إذ عاد أكثر من 627 ألف امرأة مقابل نحو 581 ألف رجل، وهذا يعكس طبيعة النزوح التي فصلت الكثير من الأسر خلال الحرب، كما يعكس دور النساء في إعادة بناء الحياة اليومية داخل المجتمعات الجديدة. إضافة إلى ذلك تظهر البيانات أن الأطفال دون 18 عاماً شكلوا 57% من إجمالي العائدين، وهذا رقم كبير يدل على أن العودة ليست مجرد قرار فردي، بل قرار عائلي، لأن الأسر فضلت العودة إلى سوريا لإعادة الأطفال إلى بيئة اجتماعية تمثل امتداداً لجذورهم. وتشكل فئة الشباب 41% من العائدين، وهؤلاء يمثلون الطاقة الأساسية للمجتمع، أما كبار السن الذين تجاوزوا الستين عاماً فكانت نسبتهم 2% فقط، وهذا منطقي لأن العودة تحتاج جهداً وقدرة على تحمل المتغيرات، وهو ما قد لا يناسب هذه الفئة. وتعكس هذه الأرقام جوانب عميقة من الواقع الإنساني، لأن التركيبة السكانية للعائدين تشير إلى أن العودة إلى سوريا هي عودة مجتمع كامل وليس مجرد عودة أفراد، وأن مرحلة إعادة بناء البلد ستكون طويلة ولكنها تمتلك الأساس البشري اللازم.

المدن السورية الأكثر استقبالاً للعائدين

أما على مستوى المدن السورية، فقد تصدرت دمشق قائمة المناطق التي استقبلت أكبر عدد من العائدين، إذ عاد إليها أكثر من 219 ألفاً و833 شخصاً، وهذا يعكس رغبة كبيرة لدى السوريين في العودة إلى العاصمة لأنها مركز الحياة السياسية والاجتماعية. وبعد دمشق تأتي مدينة حلب التي استقبلت 185 ألفاً و326 عائداً، وهي مدينة تعرضت لدمار واسع خلال الحرب، لكن سكانها ما زالوا يعتقدون أنها تمتلك القدرة على النهوض لأنها واحدة من أكبر المدن السورية وأكثرها حيوية. وفي المرتبة الثالثة تأتي إدلب التي استقبلت 172 ألفاً و280 عائداً رغم الظروف المتقلبة فيها. وتوضح البيانات أيضاً أن باقي المحافظات مجتمعة شهدت عودة أكثر من نصف مليون شخص، وهذا يعني أن العودة شملت جميع المناطق تقريباً، لأن التوزع الواسع للعائدين يدل على رغبة السكان في الرجوع إلى قراهم ومدنهم الأصلية مهما كانت الظروف.

تحديات العودة وواقع الدمار الواسع

ورغم أن ملايين السوريين عادوا، إلا أن أعداداً قليلة تمكنت من العودة إلى منازلها الأصلية، لأن الحرب تركت آثاراً مدمرة على البنية السكنية. وتشير الأرقام إلى أن نحو 64 ألفاً و282 منزلاً دُمّر بشكل كامل، وأن 71 ألفاً و328 منزلاً تضرر بشكل جزئي، إضافة إلى 42 ألفاً و844 منزلاً تعرض لأضرار طفيفة، وهذا يوضح حجم الكارثة السكنية في سوريا. ويُقدّر حجم الأنقاض المتناثرة في المدن السورية بما يقارب 6.9 ملايين طن، وهو رقم ضخم يحتاج سنوات طويلة لإزالته. وقد أثرت هذه المشاكل على قدرة الناس على العودة إلى منازلهم، لأن الكثير منهم وجد نفسه مضطراً للعيش في بيوت جديدة، أو لدى أقارب، أو في مراكز مؤقتة. ومع ذلك، فإن الرغبة في العودة بقيت أقوى من الصعوبات رغم عدم اكتمال إعادة الإعمار.

اللاجئون والنازحون الذين ينتظرون العودة

وبينما عاد أكثر من مليون ومئتين ألف سوري، فإن هناك أكثر من 6 ملايين لاجئ ما زالوا ينتظرون فرصة العودة. إضافة إلى ذلك يعيش داخل سوريا أكثر من 6 ملايين نازح داخلياً ينتظرون العودة إلى منازلهم التي هُجروا منها. وهذا الرقم يعكس صعوبة الوضع الإنساني، ولكنه يعكس أيضاً حجم الحاجة إلى برامج إعادة استقرار شاملة. ومع استمرار التحولات السياسية داخل سوريا، يتوقع أن تتزايد أعداد العائدين خلال السنوات المقبلة، خصوصاً إذا تحسنت الظروف الأمنية وتوسعت مشاريع إعادة الإعمار. ورغم كل التعقيدات، إلا أن كثيراً من السوريين يرى أن العودة إلى سوريا هي الخطوة الأولى نحو استعادة الكرامة والهوية والذاكرة الجماعية التي تعرضت لتشويه كبير.

خلاصة المشهد الإنساني بعد عام من التغيير

ويعكس المشهد الإنساني في سوريا اليوم مزيجاً من الأمل والألم، لأن البلاد تقف بين إرث الدمار وإمكانية النهوض. ويحتاج هذا النهوض إلى جهود كبيرة في إعادة الإعمار، وإعادة الخدمات، وإعادة الثقة بين المجتمع والدولة. لكن الأرقام تشير إلى أن السوريين ما زالوا يحملون رغبة لا تنتهي في استعادة وطنهم، وأن العودة إلى سوريا ليست مجرد عودة مكانية، بل عودة هوية، وعودة ذاكرة، وعودة حلم كبير بأن البلاد يمكن أن تتعافى مهما كانت الجراح عميقة. ومع مرور الوقت ستتضح معالم المرحلة الجديدة، لكن المؤكد أن إرادة الناس تسبق كل شيء، وأن الوطن يعود بأبنائه قبل أن يعود بمبانيه.

اقرأ كذلك: سوريا التي أربكت إسرائيل: قراءة في الجغرافيا السياسية وعواقب الثورة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات