تاريخ وثقافة

من التقييد إلى الانفتاح.. كيف استرجع الأتراك أجواء رمضان؟

رحلة الأتراك من التضييق على الصيام في ظل العلمانية إلى استعادة أجواء رمضان كجزء أصيل من الهوية الوطنية

من التضييق إلى العلن.. كيف استعاد الأتراك أجواء رمضان؟ إسطنبول – في تركيا، لم يكن الصيام مجرد شعيرة دينية فحسب، بل أصبح في فترات معينة ساحة صراع بين الهوية الإسلامية والسياسات العلمانية الصارمة التي سعت إلى إخفاء المظاهر الدينية. فقد أُغلقت المساجد، وأصبح الصيام في بعض المؤسسات العامة يُعتبر رمزًا للرجعية، مما دفع العديد من الأتراك إلى ممارسة الصيام سرًا، وكأنها جريمة يجب إخفاؤها.

على الرغم من هذه الضغوط، ظل شهر رمضان متجذرًا في حياة الأتراك، وانتقلت تقاليده من جيل إلى آخر. وبالرغم من التحديات، استمر المجتمع التركي في مقاومة القيود المفروضة عليه. اليوم، بعد أن تجاوزت تركيا تلك القيود، أصبح رمضان جزءًا أصيلًا من المشهد العام. كيف عاش الأتراك رمضان خلال سنوات التضييق؟ وكيف قاوموا هذه القيود؟ وما الذي تغير حتى عاد الصيام إلى العلن؟ هذا ما سنتناوله في هذا المقال.

تاريخ الصراع بين الدين والدولة في تركيا الحديثة

في عام 1923، تم الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية، وهو حدث تاريخي غير شكل الدولة التركية إلى الأبد. لكن نقطة التحول الكبرى في العلاقة بين الدين والدولة جاءت بعد عام من تأسيس الجمهورية، عندما قرر مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الدولة العثمانية في مارس/آذار 1924. تبع ذلك إغلاق وزارة الشريعة والأوقاف وإلغاء المحاكم الشرعية، مما مهد الطريق لسياسة فصل الدين عن الدولة بشكل كامل.

كان هدف أتاتورك من هذه السياسات هو إنشاء دولة علمانية لا تعتمد على الدين في مؤسساتها الرسمية. وبذلك، أُعلن عن إلغاء الخلافة العثمانية، وأُقرَّ قانون توحيد التعليم في عام 1924، الذي أدى إلى إغلاق المدارس الدينية وأصبحت المؤسسات التعليمية تحت سيطرة الدولة بالكامل. كما ألغت الحكومة التركية في عام 1926 التقويم الهجري واستبدلته بالتقويم الميلادي، مما جعل المناسبات الإسلامية، بما فيها رمضان، تختفي من الأجندة الرسمية للدولة. وبذلك، أصبحت هذه المناسبات تُعامل كطقوس خاصة لا مكان لها في المجال العام.

القيود على الممارسات الدينية في الجمهورية التركية

وفقًا لدراسة الباحث في التاريخ الإسلامي بنيامين كوجا أوغلو، لم تحظر الجمهورية التركية الصيام رسميًا. ولكنها فرضت قيودًا غير مباشرة جعلت ممارسة الصيام في المجال العام أمرًا غير مرغوب فيه. ففي عام 1927، أرسلت بعض الوزارات التركية توجيهات إلى موظفيها تنص على أن “إظهار الصيام في بيئة العمل لا يتناسب مع روح الجمهورية الحديثة”. كما بدأ بعض المديرين في تشجيع الموظفين على تناول الطعام علنًا. بل كانوا يحددون مواعيد الاجتماعات خلال فترة الغداء لإحراج الصائمين ودفعهم إلى كسر صيامهم.

أما في المدارس، فقد كان الضغط أكبر، خاصة في المدن التي شهدت تطورًا أسرع في السياسات العلمانية. في بعض الولايات مثل سيواس وأرزينجان، ذكر السكان المحليون أن بعض المعلمين كانوا يطلبون من الطلاب شرب الماء أمامهم لإثبات أنهم غير صائمين. تحت مبرر أن “التعليم يحتاج إلى طاقة جسدية وعقلية”. وكان هذا الضغط يستهدف تحديدًا الأجيال الشابة، مما يسلط الضوء على محاولات الدولة للحد من تأثير الدين على نشأة الأجيال المقبلة.

أما في الجيش، فكانت السياسات أكثر صرامة. وفقًا لسجلات الأرشيف العسكري لعام 1931. كان الضباط يراقبون الجنود أثناء الوجبات. وأي جندي يُلاحظ أنه لم يأكل كان يُستدعى للتحقيق، وفي بعض الحالات كانت تهم “عدم الاندماج في روح الجيش الجمهوري” توجه للجنود الذين يمتنعون عن الطعام، مما دفعهم إلى تناول الطعام علنًا خشية العقوبة. ومع ذلك، تحدى بعض الجنود هذه الضغوط، حيث كانوا يصومون سرًا أثناء فترات الراحة، متحدّين القوانين المفروضة عليهم بشكل غير معلن.

تغيرات في تقاليد رمضان والعادات الشعبية

مع مرور الوقت، بدأت بعض تقاليد رمضان تشهد تغيرات ملحوظة. فبحسب صحيفة جمهوريت. بدأ رجال الأمن الليلي في النظر إلى عادة قرع الطبول للسحور كعادة قديمة لا تتماشى مع روح الجمهورية الحديثة. ويجب إنهاؤها. كما كان هناك اتجاه لإغلاق بعض المساجد وتحويلها إلى مرافق ثقافية أو تعليمية.

إضافة إلى ذلك، كانت السلطات في تلك الفترة تنظر إلى بعض العادات الرمضانية كعادات متخلفة يجب التخلص منها. وكان من بين هذه العادات “قرع الطبول في السحور” الذي كان يعد جزءًا من الاحتفالات الرمضانية في العديد من المدن التركية. وبدلاً من الاحتفاء بالطقوس الدينية، تمّ الترويج لأسلوب حياة حديث يتماشى مع هوية الدولة العلمانية الجديدة.

التعديل الدستوري في عام 1928 وتأثيره على الإسلام

كان تعديل الدستور التركي في عام 1928 نقطة فارقة في تاريخ العلاقة بين الدين والدولة. إلغاء عبارة “دين الدولة هو الإسلام” من الدستور كان بمثابة إعلان رسمي بأن الدولة التركية أصبحت دولة علمانية بالكامل، تفصل بين الدين ومؤسسات الدولة. مع هذا التعديل. بدأ يتم الترويج لفكرة “الحداثة” التي تتعارض مع الممارسات الدينية التقليدية، بما في ذلك الامتناع عن الطعام في رمضان.

في هذا السياق، أصبحت المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير مراكز لتطبيق هذه السياسات العلمانية. حيث كانت المقاهي والمطاعم تظل مفتوحة خلال ساعات النهار في رمضان. وهو أمر لم يكن معتادًا في العهد العثماني. وكان يُنظر إلى هذه الممارسات على أنها جزء من تعزيز “الحداثة” على حساب التقاليد الدينية.

عودة الأذان باللغة العربية وإلغاء القيود في الخمسينيات

في الخمسينيات، بدأ التحول في سياسات الدولة تجاه الدين. مع فوز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس في عام 1950، بدأ العدوان على سياسات العلمانية في التراجع تدريجيًا. كانت إحدى أولى القرارات التي اتخذها مندريس هي إعادة الأذان باللغة العربية. مما شكل خطوة رمزية كبرى في استعادة المظاهر الدينية التي كانت قد تم إخفاؤها.

حسب الباحث في التاريخ الإسلامي فوزي يلتين، فإن هذا التحول كان له رمزية كبيرة. حيث أكد أن تركيا بدأت تستعيد جزءًا من هويتها الإسلامية. وقد تمثل هذا التحول أيضًا في فتح المساجد أمام المصلين وإعادة الاحتفال بشهر رمضان بشكل علني، مما ساعد على تعزيز روح التضامن المجتمعي.

العودة إلى العلن: رمضان في العصر الحديث

اليوم، أصبح شهر رمضان في تركيا جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. فعلى الرغم من التحديات التي مرت بها تركيا في الفترة السابقة، إلا أن رمضان عاد ليكون جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية. في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، يمكن مشاهدة مظاهر رمضان في كل زاوية. من المساجد الممتلئة بالمصلين إلى الموائد الرمضانية التي تنتشر في الشوارع.

لا يُعتبر الصيام الآن ممارسة سرية كما كان في الماضي. بل يتم الاحتفاء به علنًا. يتم رفع الأذان في المساجد بكل حرية. وتقام الأنشطة الثقافية والدينية التي تعكس تقاليد رمضان. إن هذه العودة إلى العلن تعتبر انتصارًا للمجتمع التركي على القيود التي فرضت عليه في العقود السابقة.

اليوم، لا تزال تحديات العلمانية موجودة في تركيا. لكن المجتمع التركي تمكن من استعادة جزء كبير من هويته الدينية. فعلى الرغم من أن الدولة قد تكون قد حاولت الفصل بين الدين والسياسة في السنوات الأولى من تأسيسها، إلا أن الشعب التركي ظل مرتبطًا بدينه وبثقافته الإسلامية. وهذا ما جعل رمضان يعود بكل قوة ليكون جزءًا من الحياة العامة.

تُثبت تجربة تركيا أن القمع الديني لا يؤدي إلى تراجع الدين في المجتمع. بل على العكس، فإن السياسات القمعية تدفع المجتمع إلى التمسك بهويته الدينية بشكل أكبر. رغم كل محاولات الدولة في إخفاء رمضان عن المشهد العام، ظل شهر رمضان حاضرًا في قلوب الأتراك. واليوم. يعود رمضان ليكون جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية لتركيا، مما يعكس قوة المجتمع في مقاومة المحاولات السياسية لفرض العلمانية على الدين.

لقد شهدت تركيا رحلة طويلة من التضييق إلى الانفتاح. ومن القمع إلى التفاهم والقبول. ليعود رمضان إلى العلن كجزء من الهوية الوطنية، بلا قيود سياسية أو اجتماعية.

اقرأ كذلك :اكتشف الرئيس الذي كان وراء قطع علاقات 20 دولة أفريقية مع إسرائيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات