تاريخ وثقافة

غزة هاشم .. رحلة عبر الزمن في أحضان التاريخ والإرث

تتألق مدينة غَزة هاشم كجوهرة تاريخية تحمل في طياتها العديد من القصص والأحداث التي شكلت ملامحها الفريدة. من خلال رحلة عبر الزمن في أحضان هذه المدينة الرائعة، نكتشف سحرها وجمالها الذي يعكس تنوع تاريخها. تعتبر غَزة هاشم مرآة للإرث الثقافي والتاريخي، حيث تتداخل في شوارعها الضيقة والأزقة القديمة آثار الماضي مع الحياة الحديثة. إنها قصة ملهمة لمدينة تجسد الوحدة بين التراث والحاضر، مما يجعلها واحدة من الوجهات الساحرة التي تجذب الزوار إلى عمق تفاصيلها الفريدة.

عندما تحدث المؤرخ الفلسطيني المقدسيّ، عارف العارف، عن مدينة غزة في كتابه “تاريخ غزه” الذي نشر في عام 1943، جمع فيه أهم ما ورد عن هذه المدينة الساحلية العريقة من مصادر عربية وغير عربية. وفي وصفها، أشار إلى أنها “مدينة تاريخية قديمة، ليست بنت قرن أو عصر واحد، بل هي نتاج الأجيال الماضية بأكملها، وشريكة للعصور الماضية منذ بداية سجل التاريخ حتى الوقت الحاضر”.

في كتاب أقدم صدر في عام 1907 للحاخام الأمريكي مارتن ماير عن غزه، وصفها المستشرق الأمريكي ريتشارد غوتهيل في مقدمته بأنها “مدينة تثير اهتمام الباحثين في دراسة التاريخ”. وفي توضيحه لأهميتها الاستراتيجية، أشار غوتهيل إلى أنها “نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل البضائع من جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، وكانت مركزًا لتوزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا. وكانت أيضًا رابطًا حيويًا بين فلسطين ومصر”.

أسماء غزة عبر التاريخ

شهدت مدينة غزة تحولات في تسميتها على مر العصور، متأثرة بالحضارات والشعوب التي عاشت فيها. للعرب، فإنهم يستمرون في تسميتها بـ “غزه” أو “غزة هاشم” تكريمًا لجد النبي محمد، هاشم بن عبد مناف. الذي وافته المنية في هذه المدينة. هنا أيضًا وُلد الإمام الشافعي. أحد الأئمة الأربعة المجتهدين في الإسلام ومؤسس المذهب الشافعي الشهير. وقد وجّه الإمام الشافعي كلمات المدح لها بقوله:

“إني لمشتاق إلى أرض غزه، وإن خانني بعد التفرق كتماني، سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها. كحلت بها من شدة الشوق أجفاني.”

في المقابل، يشير العبرانيون إليها باسم “عزة” باستخدام العين أو الهمزة بدلاً من الغين. وفي كتابه “تاريخ غزة”. يُفيد المؤرخ الفلسطيني المقدسي عارف العارف أن الكنعانيين كانوا يطلقون عليها “هزاتي”. بينما كانت تُعرف لدى المصريين القدماء بأسماء مثل “غازاتو” أو “غاداتو”.

وفي السجلات اليونانية، اختلف اسم المدينة عبر العصور، حيث ذُكرت باسم “إيوني” و”مينووا” و”قسطنديا”. فيما أطلق عليها الصليبيون اسم “غادريس”. بينما يُسمونها الأتراك حالياً بـ “غزه”.

معنى غزه

يقول يوسابيوس القيصري، المعروف بـ “أبو التاريخ الكنسي”، الذي عاش في القرن الرابع بعد الميلاد. إن “غزة” تعني العِزة والمَنَعة والقوة. ويؤكد على ذلك، وفقًا لـ “العارف”، ويليام سميث في قاموس العهد القديم. يرجع هؤلاء إلى الحروب الكثيرة التي شهدتها المدينة ومحيطها. حيث صمدت غزة بوقوف قوي أمام الاعتداءات.

هناك تفسير آخر يشير إلى أن معنى “غزه” هو الخزينة أو الثروة، ويربط ذلك بأصل فارسي. وفي هذا السياق، يشير صفرونيوس. صاحب قاموس العهد الجديد الذي نشر في الإسكندرية عام 1910، إلى أن كلمة “غازا” هي فارسية وتعني الكنز الملكي. ويتزامن هذا المعنى مع تفسير آخر يربط “غزه” بمعنى الثروة أو الخزينة في اللغة اليونانية.

يدعم هذا الرأي رواية تاريخية تفيد بأن ملكًا من ملوك الفرس دفن ثروته في غزه وغاب عنها. ثم عاد ليجدها في مكانها كما كانت. وقد تكررت هذه القصة، وفقًا لسجلات التاريخ، في عهد الرومان.

في المعاجم العربية، يُستخدم التعبير “غزَّ فلان بفلان” ليعني اختصاص شخص ما من بين أقرانه. وهو المعنى الذي ذكره الحموي في معجمه عند الحديث عن مدينة غزه. ويوضح “العارف” أن هذا يشير إلى اختصاص بناة غزة بها على سواحل البحر المتوسط.

وأشار ياقوت الحموي إلى أن “غزة” كانت اسم زوجة “صور”، الذي بنى مدينة صور الفينيقية في لبنان حاليًا. ويوضح المؤرخ المقدسي عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة” إلى أن “غزه” تحمل هذا الاسم منذ قبل أن تخضع للاحتلال الفارسي واليوناني والروماني في فترات زمنية مختلفة. وقبل أن يكون هناك دفن للثروات في تربتها.

ثلاث مدن باسم غزه

ذكر عارف العارف أن هناك ثلاث مدن على وجه الأرض تحمل اسم “غزه”. في موسوعة “معجم البلدان” للأديب والرحالة ياقوت الحموي، نجد ثلاث بلدات معروفة بهذا الاسم في مناطق مختلفة.

الأولى تقع في جزيرة العرب، وهي التي أشار إليها الشاعر “الأخطل” في قصائده. الثانية تقع في إفريقيا، وكانت الاسم القديم لتونس. حيث يصف الحموي المسافة بينها وبين القيروان بمسافة ثلاثة أيام سفر، حيث تنزل القوافل المتجهة إلى الجزائر.

أما المدينة الثالثة والأكثر شهرة عبر التاريخ، فهي غزهفي فلسطين. يصف الحموي موقعها بأنها “مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وتقع غربي عسقلان في نطاق فلسطين”.

مَن بنى غزة؟

يشير عالم الآثار الإنجليزي السير فلندرس بتري إلى أن غزه القديمة قد أُنشئت قبل الميلاد بما يقارب ثلاثة آلاف عام على تل العجول المعروف. تاركين إياها بسبب انتشار الملاريا في ذلك الوقت، استقروا سكانها على بُعد ثلاثة أميال ليُنشئوا غزه الجديدة في الموقع الحالي. يُزعم أن هذا الحدث حدث في عهد الهكسوس الذين سيطروا على المنطقة قبل ألفي عام من ميلاد المسيح.

هناك من يُنفي هذه الرواية، مُعلنًا أن غزة تظل حتى اليوم في موقعها القديم. وأن “تل العجول” كانت ميناءًا تجاريًا لغزة. وهناك من يُقدم رأيًا مُختلفًا. مُشيرًا إلى أن غزة القديمة دمِّرت على يد الإسكندر الأكبر، بينما غزة الحديثة لا تبتعد كثيرًا عن موقعها الأصلي كما زعم السير بتري.

في كتابه، يُشير “العارف” إلى أن “المعينيين”، الذين يُعتبرون أقدم شعب عربي. أسسوا مدينة غزة كمركز لتجارتهم في الألفية الأولى قبل الميلاد. وتكمن أهمية “غزه” لدى العرب في وجودها كرابط بين مصر والهند. حيث كانت الطريق التجاري المُفضل للعرب مقارنة بالملاحة في البحر الأحمر، مما منح مدينة غزة شهرتها التاريخية.

كانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، حيث تتلاقى تجارة البلاد وتجارة الهند. وتتجه شمالًا نحو مكة ويثرب (المدينة المنورة حاليًا) والبتراء، ومن ثم تفرع إلى فرعين. أحدهما في غزة على البحر المتوسط، والثاني على طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.

استنتج مؤرخون من ذلك أن مملكة معين وسبأ هما أولى الممالك العربية التي أسست مدينة غزة. وأن “العويون” و “العناقيون”، الذين يُعتقد أنهم الفلسطينيون القدماء. كانوا أول من استوطنوا غزة وأسسوها كمركز تجاري. كما استوطنها “الديانيون”، أحفاد النبي إبراهيم، و”الآدوميون”. وهم قبائل بدوية في جنوب الأردن، و”العموريون” و”الكنعانيون” الذين يختلفون في أصلهم.

غزة هاشم .. رحلة عبر الزمن في أحضان التاريخ والإرث

غزة والكنعانيون

يُذكر في كتاب “تاريخ غزة” أن سفر التكوين يعتبر المدينة من بين أقدم مدن العالم. حيث سُكنت من قبل الكنعانيين، الذرية الناتجة عن حام بن نوح. وفي رواية أخرى. يُشير الكتاب إلى أن غزة كانت قائمة عندما احتلها الكنعانيون واستولوا عليها من العموريين.

وقد سجل المؤرخ ابن خلدون، بناءً على ابن جرير، أن الكنعانيين كانوا من العرب البائدة. ويرتبطون بأنسابهم بالعمالقة. ويرى بعض الباحثين أن الكنعانيين قد جاءوا من “خليج العجم” الذي يُعرف اليوم بالخليج العربي. بينما يُقال أن آخرين قدموا من البحر الأحمر. يُقدر أن هؤلاء الكنعانيين عاشوا في المنطقة قبل 5000 عام.

ويرى السير بتري أن قسمًا كبيرًا من سور المدينة، الذي عُثر على بقاياه، تم بناؤه في عهد الكنعانيين. وأن المنقبين لم يجدوا حجارة ضخمة بهذا الحجم بعد فترة حكمهم. وعلى جانب آخر من تل العجول. عُثر على آثار مدينة كنعانية يبدو أنها كانت تحت الاحتلال الهكسوس. وتم العثور أيضًا على مقابر يُعتقد أن بعضها يعود إلى العصر البرونزي قبل الميلاد بحوالي 4000 عام.

ويُشير “العارف” إلى أن الكنعانيين كانوا أوائل من عرفوا زراعة الزيتون في هذه الأرض. وقاموا بتطوير صناعات مثل النسيج والفخار والتعدين. كما أنهم اخترعوا الحروف الهجائية ووضعوا الشرائع والقوانين. وبنو إسرائيل اعتمدوا بشكل كبير على تقاليد وقوانين وفكر الكنعانيين، مما أثر بشكل كبير على حضارتهم.

شهدت غزة عبر تاريخها القديم تباعًا للسيطرة الفراعنية، والبابلية، والآشورية، واليونانية، والفارسية، والرومانية.

غزه والاحتلال الإنجليزي

عندما قررت القوات الإنجليزية احتلال غزة، وصلت الأخبار إلى الأتراك. الذين قاموا بتحصينها بشكل كامل من الساحل إلى تل المنطار، بالإضافة إلى التحصينات الطبيعية. قامت القوات الإنجليزية بمهاجمة غزة في مارس 1917م، ولكنها واجهت مقاومة شرسة من الجيش التركي وحلفائه العرب. مما اضطرها إلى الانسحاب وتركت وراءها أعدادًا كبيرة من القتلى والجرحى في معركة غزة الأولى.

ثم عاودت القوات الإنجليزية الهجوم مُشنة هجومًا ثانيًا في 17 إبريل 1917م، لكنها هُزمت في هذه المعركة أيضًا. وكانت خسائرها كبيرة. بعد ذلك، تم تسليم القيادة العامة لـ “اللورد اللنبي”. الذي قام بتغييرات جذرية وتحسين وضع الجيش الإنجليزي بشكل كبير. بينما تراجعت قوات الجيش التركي وانضم العديد من الضباط والجنود العرب إلى صفوف الجيش الإنجليزي أو جيش اللنبي. واعترف اللورد اللنبي بدور العرب في فتح العقبة وبئر السبع و غزه. مشيرًا إلى أن سقوط غزة بيد الإنجليز كان حاسمًا لمنع احتلال فلسطين.

أنشأ الإنجليز مقبرة في غزة لدفن رفات قتلاهم، وخلال تدشين هذه المقبرة عام 1923. أشاد اللورد اللنبي قائلاً: “كانت غزة بوابة الفاتحين منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا”. أما أهل غزة. فيتسمون بالغيرة على دينهم وعرضهم وشرفهم، حيث يعتبرون البشاشة من أحسن خصالهم. ورغم الظروف الصعبة. يظلون متدينين، وتعكس كثرة الجوامع والمساجد في غزة هذا التدين.

في الوقت الحالي، تعاني غزة من المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال، حيث يُقتل الأطفال والنساء، وتُدمر المساجد والكنائس والمستشفيات. يتم حصر الماء والطعام والدواء والكهرباء عن أهل غزه، الذين فقدوا السند حتى من القريب. تظل غزة محط الأنظار بسبب الظروف الصعبة والمعاناة التي يعيشها أهلها، والنداءات الدائمة للعدالة ورفع الحصار الظالم.

اقرأ أيضاً : كيف يمكننا الوفاء بواجبنا تجاه فلسطين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات