هل يتمكن حزب الله من التصدي للغزو البري الإسرائيلي في لبنان؟
"التحديات العسكرية والسياسية التي تواجه حزب الله في ظل الغزو البري الإسرائيلي: قراءة في الاستراتيجيات المحتملة وردود الفعل الإقليمية وتأثير اغتيال حسن نصر الله على مستقبل المقاومة في لبنان"

هل يتمكن حزب الله من التصدي للغزو البري الإسرائيلي في لبنان؟ … قبل فجر يوم الثلاثاء، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية برية وصفها بأنها “محدودة” ضد حزب الله في جنوب لبنان. هذه العملية لم تأتِ كخطوة مفاجئة فقط، بل تم الإعلان عنها مسبقًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية بصلف غير مسبوق. هذا الأسلوب يخالف القواعد المعتادة في الحروب، التي تتطلب السرية لتحقيق المباغتة العسكرية. المباغتة تعني القدرة على إرباك العدو وشلّ استعداده للتعامل مع نتائج الهجوم.
إسرائيل تحدثت عن العملية وكأنها “نزهة” وليس حربًا، محددةً الزمان والمكان بدقة، في محاولة لإظهار ثقة كبيرة بالتفوق العسكري. ومع ذلك، كانت الضجة الإعلامية المحيطة بالعملية من قبل تل أبيب وواشنطن مستفزة. وكأن نتنياهو قد حصل على “شهادة ضمان” بالنصر دون خسائر. هذه العنجهية ليست جديدة على إسرائيل. فقد أظهرتها في العديد من المواجهات السابقة التي انكسر فيها العرب لعدة أسباب، لكن المعطيات تغيرت مع الزمن.
المشهد الحالي يبدو وكأنه فرصة لنتنياهو لإعادة ترميم صورته المشوهة في الداخل الإسرائيلي. لا سيما بعد الضربات المتتالية التي تعرضت لها سمعته بسبب الفشل العسكري في غزة. إضافةً إلى ذلك. هي محاولة لاستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي، الذي تلقى هزائم واضحة في الآونة الأخيرة.
تكرار الأخطاء السابقة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يتعلم من تجارب سابقة مع مناطق التوتر الساخنة في الضفة الغربية وقطاع غزة، يُظهر مرةً أخرى افتقاده للحكمة في التعاطي مع حزب الله. جنوب لبنان ليس مكانًا لمغامرة عسكرية خفيفة، إذ تشير التجارب إلى أن التورط في لبنان قد يكلف إسرائيل ثمنًا باهظًا.
جينا أبركرومبي-وينستانلي، زميلة أولى في مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط، ذكرت في تحليل لها أن الجيش الإسرائيلي، رغم قوته، لن يكون قادرًا على الحفاظ على أمن البلاد بشكل دائم. الاستراتيجية الإسرائيلية المتبعة الآن هي نفسها التي فشلت في الماضي. وهو ما ظهر في مواجهات أعوام 1982، 1987، 2000، 2004، 2006، 2008، 2014، و2021. في كل تلك الأعوام. كانت إسرائيل تحاول فرض سيطرتها العسكرية، لكن المقاومة استمرت وبرز جيل جديد من الشباب الفلسطيني واللبناني، مصمم على مقاومة الاحتلال.
وتضيف أبركرومبي-وينستانلي أنه على الرغم من هذه المحاولات العسكرية. فإنّ السبيل الوحيد لتحقيق استقرار حقيقي في المنطقة هو اللجوء إلى الدبلوماسية والتسوية الإقليمية. فالحل العسكري وحده لن يجلب الأمان لإسرائيل، بل قد يعزز من إرادة المقاومة. هذا المنظور يبدو غائبًا عن عقلية نتنياهو، الذي يسعى لإضافة “انتصار” جديد إلى رصيده الشخصي والسياسي.
عملية برية أم مغامرة غير محسوبة؟
في ضوء التصريحات الإسرائيلية حول العملية البرية “المحدودة”، يبدو أن نتنياهو يراهن على أن جنوب لبنان أصبح أضعف وأكثر فوضوية من ذي قبل. يتوقع رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يتمكن من تنفيذ عملية برية “حذرة”. يمكن من خلالها أن يحقق وقف إطلاق نار يصب في مصلحته. وفقًا لخطة نتنياهو المحتملة، سيتمكن الجيش الإسرائيلي من الانسحاب البري بعد تحقيق أهدافه، بينما يظل حزب الله كقوة سياسية رئيسية في لبنان، ما يؤدي إلى “سلام هش” يشبه ما حدث بعد حرب 2006.
لكن السؤال الحقيقي هو: هل يستطيع نتنياهو تحقيق هذا الهدف دون خسائر كبيرة؟ الغزو البري الذي بدأ يبدو “سهلًا” لبعض المحللين الإسرائيليين، يعتمد على افتراضات مبالغ فيها حول ضعف حزب الله. إذ يعتبر بعضهم أن الحزب يعيش حالة “انهيار” بعد استهداف شبكاته العسكرية والقيادية في سبتمبر. ومع ذلك، تظل هذه الافتراضات بعيدة عن الواقع.
رغم نجاح إسرائيل في اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين في حزب الله، إلا أن الحزب ليس منظمة تعتمد على شخص واحد أو مجموعة صغيرة. حزب الله يملك خبرة عسكرية طويلة في التصدي للاحتلال الإسرائيلي، ويمتلك بنية تحتية عسكرية متطورة وشبكة أنفاق واسعة النطاق في الجنوب اللبناني، تتيح له تنفيذ عمليات مقاومة فعّالة حتى في حال فقدان قياداته.
تكاليف الغزو البري
المقاربات الإسرائيلية التي تدفع نحو الغزو البري لا تخفي في الوقت نفسه التحديات الكبيرة التي ستواجهها إسرائيل. حزب الله قادر على إلحاق خسائر فادحة بالقوات البرية الإسرائيلية حال دخولها الجنوب اللبناني، خاصة إذا تعاملت مع العملية بمنطق “النزهة” وليس الحرب. كما تشير التقارير إلى أن الحزب يمتلك ما بين 40 ألف و50 ألف مقاتل، مدربين تدريبًا عاليًا على خوض حرب عصابات في المناطق الجبلية والوعرة.
لا تقتصر قوة حزب الله على عدد المقاتلين فقط، بل تتعدى ذلك إلى امتلاك الحزب شبكة دعم اجتماعي كبيرة في لبنان. الحزب يقدم خدمات اجتماعية للفقراء في جنوب لبنان، ويتمتع بشعبية واسعة في المجتمع اللبناني، وهو ما يعطيه شرعية وقوة سياسية كبيرة داخل البلاد. هذه القوة تجعل من الصعب على أي قوة خارجية أن تسقط الحزب بسهولة.
وبالإضافة إلى ذلك، يسعى حزب الله إلى ترسيخ صورته كقوة مقاومة شرعية ضد أي عدوان إسرائيلي، وهذا يجعل المواجهة الحالية جزءًا من معركة أكبر لاستعادة هيبته في عيون الجمهور اللبناني والعربي. رغم الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الحزب من إسرائيل، فإنه يمتلك القدرة على إعادة بناء هيكليته وتنظيمه بسرعة، كما حدث في مواجهات سابقة.
حكمة حزب الله أم استنزاف الوقت؟
العديد من المحللين يرون أن حزب الله يتبع سياسة “الصبر البارد” في هذه المرحلة. الحزب لم يطلق بعد آلاف الصواريخ التي يمتلكها، رغم قدرته على ذلك. هذه السياسة قد تكون مدفوعة برغبة الحزب في تجنب الدخول في مواجهة شاملة مع إسرائيل قبل أن يكون مستعدًا بشكل كامل. هذا التكتيك يمثل تحديًا حقيقيًا لإسرائيل، التي تراهن على استغلال الفوضى التي تعتقد أنها تعم الحزب.
في المقابل، ثمة مؤشرات تدل على أن إسرائيل قد تواجه تعقيدات جديدة في الأيام المقبلة. تشير بعض التقارير إلى أن حزب الله لا يزال يحتفظ بقدراته الصاروخية الهائلة، التي لم يستخدمها بعد بشكل واسع في هذه الجولة من المواجهات. إضافةً إلى ذلك، يمتلك الحزب دعمًا قويًا من بعض الدول الإقليمية، مثل إيران وسوريا، ما قد يزيد من صعوبة مهمة إسرائيل في القضاء على الحزب.
تداعيات اغتيال حسن نصر الله
اغتيال حسن نصر الله في نهاية سبتمبر/أيلول شكّل نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي مع حزب الله. على الرغم من أهمية نصر الله كرمز سياسي وعسكري للحزب، إلا أن هذا الاغتيال لم يكن نهاية حزب الله. بل على العكس، قد يؤدي إلى تعزيز إرادة المقاومة بين أتباعه.
التاريخ أثبت أن اغتيال القادة العسكريين والسياسيين لحزب الله لم يؤدِ إلى إضعافه. بل على العكس، كانت هذه الاغتيالات دافعًا للحزب لإعادة بناء هيكليته وزيادة قوته. الحزب تمكن في مرات عديدة من تجاوز خسائره الكبيرة بسرعة بفضل الدعم الشعبي والبنية التحتية القوية التي يمتلكها.
ومع اغتيال نصر الله، هناك مخاوف من أن الحزب قد يتحول إلى نسخة أكثر تشددًا من نفسه. فالصراع مع إسرائيل هو الأساس الذي تستند عليه شرعية الحزب، وما دام هذا الصراع مستمرًا، فإن حزب الله سيبقى قوة فاعلة في الساحة اللبنانية والإقليمية.
المخاطر الإسرائيلية
الضبابية التي تحيط باليوم التالي لاغتيال نصر الله تزيد من تعقيد الوضع. تل أبيب لم توضح بعد استراتيجيتها بعد هذا الاغتيال، مما يجعل المغامرة العسكرية الحالية محفوفة بالمخاطر. الولايات المتحدة، التي تشهد انتخابات رئاسية في نوفمبر، قد تجد نفسها متورطة في أزمة جديدة في الشرق الأوسط إذا خرج الوضع عن السيطرة.
الرئيس الأميركي جو بايدن دعا إلى ضرورة حل دبلوماسي للصراع، مؤكدًا أن الحل العسكري لا يمكن أن يكون مستدامًا. نصائح بايدن للحكومة الإسرائيلية وُصفت في وسائل الإعلام الأميركية بأنها “ممتازة”، لكن يبدو أن إسرائيل لا تستمع إلى هذه النصائح في الوقت الحالي.
ورغم نجاح نتنياهو في تحسين صورته داخليًا مع كل هجوم على حزب الله، إلا أن التحديات التي يواجهها أكبر بكثير مما يبدو. عشرات الآلاف من الإسرائيليين في شمال البلاد قد لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم قريبًا. حزب الله لا يزال قويًا، وترسانته الصاروخية لم تتأثر بشكل كبير حتى الآن.
رغم التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله، يبدو أن الصراع سيستمر لفترة طويلة. الحزب يمتلك قدرات عسكرية وسياسية تجعله قوة لا يمكن القضاء عليها
اقرأ كذلك: وول ستريت: لماذا أخفقت استخبارات إسرائيل مع حماس ونجحت مع حزب الله؟