تاريخ وثقافة

مهندس الدولة الأموية الخفي: رجاء بن حيوة ودوره في بناء واحدة من أوسع دول الإسلام

رجاء بن حيوة.. الفقيه الذي صنع القرارات الكبرى ووجّه مسار الحكم الأموي عبر أربعة عقود

شهد القرن الأول الهجري تحولات عميقة في بنية الحكم الإسلامي. وقد وُلدت هذه التحولات من رحم الفتن الكبرى التي مزّقت وحدة الأمة. ثم عادت الدولة لتنهض من جديد تحت راية البيت الأموي. ومع توسع الدولة الأموية وارتفاع نفوذها السياسي والعسكري، ظهر رجال صنعوا القرار. وظهر آخرون وجّهوا بوصلة الحكم. ولكن رجلاً واحدًا جمع العلم والدين والسياسة والإدارة. إنه رجاء بن حيوة. وقد اعتُبر في نظر المؤرخين أهم شخصية غير ملكية ساهمت في تثبيت الدولة الأموية وبناء مؤسساتها. ورغم أنه لم يحمل لقب “الخليفة”، إلا أنه كان يدير الكثير من مفاصل الدولة بشكل مباشر. ولذلك يصفه المؤرخون بأنه “العقل المدبر” و“مهندس الدولة الأموية”.

ينطلق هذا المقال من سؤال محوري. كيف صعد رجاء بن حيوة إلى قلب الحكم؟ وكيف امتد نفوذه من عهد معاوية حتى خلافة عمر بن عبد العزيز؟ وما الدور الذي لعبه في تثبيت الدولة الأموية وتوسيع نفوذها وصياغة قراراتها الكبرى؟

وللإجابة على ذلك، سنعيد قراءة سيرة هذا الرجل بتسلسل تاريخي. كما سنكشف الملفات التي تولّاها. ونحلل تأثيره السياسي والإداري. ونوضح كيف أصبح أحد أهم رجال “الدولة العميقة” في ذلك العصر.


الفصل الأول: جذور التحول السياسي بعد مقتل عثمان

مثّل مقتل الخليفة عثمان بن عفّان سنة 35هـ مرحلة غيّرت مسار الحكم الإسلامي. وقد أثار مقتله اضطرابًا واسعًا. ثم تسلّم علي بن أبي طالب الخلافة وسط مجتمع منقسم. وبدأت نذر الفتنة تكبر. وبعد سنوات قليلة انتهت المرحلة الراشدة باغتيال علي في محرابه سنة 40هـ. وهكذا دخل المسلمون في صراع استنزف قدراتهم. ثم تولّى الحسن بن علي الخلافة. ولكنه واجه بيئة سياسية معقدة. فقد وجد أن أهل الكوفة غير متماسكين. وأن الشاميين أقوى وأكثر انتظاما بقيادة معاوية. ولذلك اتجه الحسن نحو الصلح. وقد تنازل عن الخلافة لمعاوية سنة 41هـ. وسُمّي ذلك العام بعام الجماعة. وكان الصلح منعطفًا تاريخيًا لأنه وحّد الأمة مجددًا. ولأنه أنهى النزاع على السلطة. ثم بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الدولة الأموية.

ومع بدأ هذه الدولة، انطلق مشروع سياسي قائم على توسيع النفوذ. ولذلك تعاقب خلفاء البيت الأموي طوال 91 سنة. فأسسوا نظامًا إداريًا واسعًا. كما بنوا مؤسسات قوية. وقد حكموا في فرعين رئيسيين. الفرع السفياني ثم الفرع المرواني. وكان معاوية أول الخلفاء. بينما كان مروان بن محمد آخرهم قبل قيام الدولة العباسية.

ولكن نجاح هذه التجربة لم يكن نتيجة جهد الخلفاء وحدهم. بل كان ثمرة منظومة واسعة شارك فيها قادة وجنود ووزراء وفقهاء. وكان أبرزهم رجاء بن حيوة الذي أصبح أحد أهم مهندسي بنية الدولة الأموية.


الفصل الثاني: النشأة العلمية لرجل سيغيّر الحكم الأموي

وُلد رجاء بن حيوة في بيسان ثم انتقل إلى فلسطين. وقد عاش في بيت المقدس وتعلم على أيدي كبار العلماء. وتذكر الكتب القديمة أنه التقى معاذ بن جبل في صغره. وهذا يعني أنه نشأ في بيئة إيمانية تحترم العلم. كما ينحدر من أسرة معروفة بالفقه والدين. وقد حفظ القرآن في طفولته. ثم درس الفقه والحديث على يد عبادة بن الصامت وأم الدرداء. ولذلك اكتسب سمعة واسعة. وأصبح من أبرز علماء الشام.

ومع مرور الوقت، رأى الناس فيه عالمًا يجمع بين الفقه الدقيق والبصيرة العميقة. وقد وصفه العلماء بأنه أحد أعلام العلم في المشرق الإسلامي. وقال بعضهم إن رجاء والقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين كانوا ثلاثة لا يشبههم غيرهم في وقتهم.

وقد تمتع رجاء برؤية مختلفة لمعنى الزهد. فهو لم يرَ الزهد اعتزالًا للدنيا. بل رآه مشاركة في إصلاح الأمة. ولذلك شارك في الغزوات والمهام الإدارية. كما تولّى العمل في ديوان الرسائل. وهو منصب مهم يعادل اليوم وزارة الخارجية.

ومن هنا بدأت علاقته المباشرة مع الدولة الأموية.


الفصل الثالث: علاقة رجاء بمعاوية.. تأسيس الثقة الأولى

تعود علاقة رجاء بالأمويين إلى عهد معاوية. فقد كان معاوية يقدّر العلماء. وكان يستمع لنصحهم. وتشير المصادر إلى أن رجاء روى حديثًا عن معاوية. وهذا يعني وجود علاقة وثيقة منذ وقت مبكر.

ومع مرور السنوات، اكتسب رجاء ثقة البلاط الأموي. ووجد الخلفاء فيه العالِم الموثوق الذي يجمع الدين والسياسة. ولذلك أصبح جزءًا من “مطبخ القرار”. وكان صوته مسموعًا لدى معاوية ثم لمن بعده.

وقد كانت هذه الثقة أساس صعوده داخل مؤسسات الدولة الأموية.


الفصل الرابع: مع عبد الملك.. بداية النفوذ الحقيقي

مع انتقال الخلافة إلى البيت المرواني، برز رجاء بصورة أوضح. فقد وجد فيه عبد الملك بن مروان مستشارًا حكيمًا. وكان عبد الملك نفسه عالمًا قبل تولي الخلافة. ولذلك كان يقدّر العلماء. وقد رأى في رجاء رجلاً نزيهًا واسع العلم. وقد بدأ رجاء دوره السياسي الحقيقي في تلك المرحلة. فقد كان عبد الملك يحتاج إلى رجال يصلون بين العلم والسياسة. وكانت الخلافة تمر بأزمات كبرى. خاصة الصراع مع عبد الله بن الزبير.

وفي تلك الفترة، عمل رجاء على توحيد الصف. واستخدم مكانته العلمية لتهدئة النزاعات. كما أدّى مهام دبلوماسية مهمة. ومن أبرزها مهمته مع زفر بن الحارث. فقد أرسله عبد الملك لإقناع زفر بالصلح. ونجح رجاء في ذلك. وهذا النجاح رفع مكانته بشدة.

وقد رأى الناس أنه ليس مجرد فقيه. بل رجل دولة يفهم السياسة ويعرف متى يتدخل ومتى يصمت.


الفصل الخامس: هندسة “قبة الصخرة”.. لحظة مجد حضاري

يعد إشراف رجاء على بناء قبة الصخرة من أعظم أعماله. فقد كلّفه عبد الملك بالمشروع. وكان المشروع ضخمًا جدًا. واستمر سبع سنوات. وقد خصص الخليفة أطنانًا من الذهب له. وقد أدار رجاء المشروع بدقة. وعندما انتهى البناء، بقي فائض مالي كبير. وقد أرسله رجاء للخليفة. فأمر عبد الملك منحه له. ولكنه رفض. وهذا الموقف زاد تقدير عبد الملك له. ولذلك صُهر الذهب ووُضع على القبة. فأصبحت من أجمل مباني العالم.

هذا العمل وحده يكفي ليضع اسم رجاء في سجلات التاريخ. ولكنه لم يكن إنجازه الوحيد. بل كان مجرد صفحة في مسيرته داخل مؤسسات الدولة الأموية.


الفصل السادس: دوره مع الوليد وسليمان.. نفوذ بلا حدود

في عهد الوليد، واصل رجاء دوره كمستشار. فقد كان الوليد يعتمد على خبرته. كما كان رجاء مستشارًا موثوقًا. ولكن صعوده الحقيقي كان في عهد سليمان بن عبد الملك. فقد تربى سليمان على يديه. ولذلك كان رجاء هو الشخصية الأقرب إليه. وكان يوجّهه. وكان رأيه يُنفذ فورًا.

وقد وصفه المؤرخون بأنه “وزير سليمان”. وأنه كان أقوى رجل بعد الخليفة. ولذلك أصبح رجاء مركز القرار داخل الدولة.


الفصل السابع: لحظة كتابة التاريخ.. اختيار عمر بن عبد العزيز

وصل نفوذ رجاء إلى ذروته عندما مات سليمان. فقد كان سليمان يبحث عن خليفة. فجاء رجاء وأشار عليه باختيار عمر بن عبد العزيز. لأنه كان أتقى الناس. فكتب سليمان وصيته. ثم ختمها. ثم سلمها إلى رجاء وحده. وعندما مات سليمان، خرج رجاء أمام الناس. ثم أعلن اسم الخليفة الجديد. وهكذا أصبح عمر خليفة للمسلمين.

وقد كان عمر يعتمد على رجاء. وكان يجله كثيرًا. وقد عاش معه أياما من الزهد والصدق. وكان رجاء رئيسًا لديوان الرسائل. وكان أحد أهم مستشاريه.

وقد قال المؤرخون إن مشاركة رجاء في اختيار عمر كانت قرارًا غيّر وجه التاريخ.


الفصل الثامن: الغروب الأخير.. اعتزال السياسة

بعد وفاة عمر، تغيّرت الظروف داخل الدولة الأموية. وقد جاء يزيد بن عبد الملك. ولكنه لم يكن قريبًا من رجاء. بل كان ينظر إليه بريبة. ولذلك ابتعد رجاء عن السياسة. وانصرف للعلم في بيت المقدس. وظلّ يعلّم الناس. وبقي كذلك حتى توفي سنة 112هـ.

ولكن أثره ظل قائمًا. وقد قال المؤرخون عنه إنه كان “وزير صدق”. كما كان “العقل الذي اعتمدت عليه الخلافة المروانية طويلاً”.

وبغيابه بدأت الدولة تضعف. وبعد عشرين عامًا فقط، سقطت الدولة الأموية.


الخاتمة

يمكن القول إن رجاء بن حيوة كان أكثر من عالم. فقد كان سياسيًا حكيمًا. كما كان رجل إدارة. وكان مستشارًا لعدد من الخلفاء. وقد شارك في بناء مؤسسات الدولة. ووجّه سياستها. وكان صوتًا معتدلاً وسط تقلبات السياسة. ولذلك يمكن اعتباره “مهندس الدولة الأموية” بلا مبالغة. فقد شارك في بناء قبتها. وفي قرارات قادتها. وفي توجيه مسارها طوال نصف قرن.

وقد حافظ رجاء على توازن نادر بين العلم والسياسة. وبين الزهد والعمل. ولذلك بقي اسمه حاضرًا في كتب التاريخ.

اقرأ كذلك: العلويون.. القصة الغامضة لحكم سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات