تاريخ وثقافة

زغلول النجار: مسيرة حافلة بين الجيولوجيا والإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة

من الأرض إلى الوحي: رحلة عالم الجيولوجيا والداعية الإسلامي

كان زغلول راغب محمد النجار، الذي وُلد في السابع عشر من نوفمبر عام 1933 في قرية مشالِ بمحافظة الغربية المصرية، نموذجًا نادرًا للعلماء الذين جمعوا بين التخصص الدقيق والفكر الديني العميق. فقد نشأ في بيت يجمع بين العلم والدين، إذ كان جده لأبيه إمامًا للقرية، فيما درس والده وأعمامه وأخواله في الأزهر ودار العلوم، فكانت البيئة التي نشأ فيها مهيأة لتعزيز شغفه بالمعرفة وفهم القرآن الكريم منذ سن مبكرة. وقد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، وهو ما غرس بداخله حب العلم والعمل والارتباط بالنص الديني، ليشكل ذلك حجر الأساس لشخصيته العلمية والدعوية لاحقًا.

في عام 1941، انتقل مع أسرته إلى القاهرة والتحق بمدرسة عباس الابتدائية، وهي المدرسة التي عمل بها والده كمعلم، ثم التحق بمدرسة شبرا الثانوية عام 1946. ومنذ تلك السنوات، كانت جلسات السمر الرمضانية التي يجتمع فيها مثقفو قريته مناسبة لنمو وعيه الفكري، إذ كانوا يتناقشون حول القرآن الكريم وتفسير آياته، مركزين على الإعجاز البياني والتشريعي. هذه المناقشات، إضافة إلى دروس والده في التفسير داخل المنزل، شكلت بيئة تعليمية غنية مهدت الطريق أمامه لاحقًا للارتقاء في عالم الجيولوجيا والبحث العلمي، ثم الربط بين العلوم التجريبية والآيات القرآنية.


الدراسة والتكوين الأكاديمي

حصل النجار على شهادة الثانوية العامة عام 1951، ثم التحق بقسم الجيولوجيا في كلية العلوم بجامعة القاهرة وتخرج عام 1955 بمرتبة الشرف، وكان الأول على دفعته. عمل في مصر في مجال تخصصه حتى عام 1959، قبل أن ينتقل إلى المملكة العربية السعودية للعمل في مجال الجيولوجيا.

أظهر النجار تميزًا علميًا منذ بداياته، فدرس علم الجيولوجيا على نفقته الخاصة في جامعة ويلز بالمملكة المتحدة، وحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1963 في زمن قياسي لم يتجاوز عامين. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل رشحته الجامعة لمنحة أبحاث ما بعد الدكتوراه، وأعد خلال هذه الفترة أربعة عشر بحثًا متقدمًا في مجال تخصصه، نُشرت أبحاثه كاملة في عدد خاص من ستمائة صفحة، وتمت إعادة طباعتها عدة مرات حتى عام 2004، لتصبح مرجعًا عالميًا في علوم الأرض.


التوجه الفكري والدعوي

ترعرع النجار على فكر جماعة الإخوان المسلمين، ما أثر على وعيه الفكري والديني. وبعد التخرج، تعرض للسجن الحربي مرتين بسبب انتمائه للجماعة، وخاض تجارب صعبة في محاكمته العسكرية، لكنه ظل متمسكًا بقيمه العلمية والدينية. في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة ضمن برنامج “زيارة خاصة”، أوضح:

“إنني تربيت في مدرسة الإخوان المسلمين وأدين لها بالفضل وبكل ثقافة إسلامية عندي… وأؤمن بأنها كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة وأكثرها التصاقاً بمنهج الرسول ﷺ.”

وقد شكلت هذه الخلفية الدينية أساسًا قويًا دفعه لاحقًا إلى الاهتمام بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم، محاولًا الجمع بين العلم والدين بطريقة منهجية وموضوعية.


الوظائف والمسؤوليات الأكاديمية

أسس النجار قسم الجيولوجيا في جامعة الملك سعود بالرياض عام 1959، وواصل تطوير هذا القسم ليصبح مركزًا أكاديميًا متميزًا في تدريس الجيولوجيا. كما ساهم في تأسيس قسم الجيولوجيا في جامعة البترول والمعادن بالظهران، ثم في جامعة الكويت عام 1972، حيث تولى رئاسة القسم، ولاحقًا تولى رئاسة قسم الجيولوجيا في جامعة قطر عام 1978.

عمل النجار أستاذًا زائرًا في جامعات عربية وغربية عديدة، منها جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، وأشرف على أكثر من خمسة وأربعين رسالة دكتوراه في علوم الأرض، وهو زميل في الأكاديمية الإسلامية للعلوم وعضو مجلس إدارتها. كما تولى إدارة معهد ماركفيلد للدراسات العليا في بريطانيا، وعمل مستشارًا علميًا للعديد من المؤسسات البحثية الدولية.


التجربة العلمية والإعجاز القرآني

على الرغم من تخصصه الدقيق في الجيولوجيا، اتجه النجار منذ وقت مبكر نحو موضوع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مستفيدًا من خبرته العلمية والدينية. كتب في هذا المجال معظم مؤلفاته، وشارك في عشرات المؤتمرات الدولية، مبرهنًا على أن القرآن سبق العلوم التطبيقية الحديثة في جوانب كثيرة، دون أن يتعارض معها.

يرى النجار أن التفسير العلمي للقرآن يقوم على توظيف كل المعارف المتاحة لفهم الآية، سواء كانت حقائق علمية أو فروضًا ونظريات، بينما الإعجاز العلمي يمثل موقفًا من مواقف التحدي لإثبات أن القرآن يحتوي على حقائق الكون قبل أن يُدرِكها العلماء الحديثون. ويفسر النجار الآيات الكونية التي يزيد عددها على ألف آية بصياغة مجملة ومعجزة، لا يمكن فهمها لغويًا فقط، بل تحتاج إلى المعرفة العلمية المعاصرة.

ويشير النجار إلى أن أحد أهم التحديات التي يواجهها علماء المسلمين هي ازدواجية التعليم: إذ قد يكون العالم الشرعي متخصصًا لكنه بعيد عن العلوم الحديثة، بينما قد يكون العالم المدني متقنًا لتخصصه لكنه يفتقر للثقافة الدينية. ومن هنا جاءت مهمته في بناء جسر بين العلم والدين.


المؤلفات والإنتاج الفكري

كتب زغلول النجار أكثر من مائة وخمسين بحثًا ومقالًا علميًا، وتجاوزت مؤلفاته خمسة وأربعين كتابًا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. تناولت مؤلفاته مواضيع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وقضايا الفكر الإسلامي، والعلاقة بين الإسلام والغرب.

من أبرز مؤلفاته:

  • “قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وضوابط التعامل معه”

  • “موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم” (ستة أجزاء)

  • “موسوعة تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم”

  • “الإعجاز العلمي في السنة”

  • “قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي”

  • “نظرات في أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية”

  • “الإسلام والغرب”

  • “الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم”

  • “علوم الأرض في الحضارة الإسلامية”

  • “قصة الخلق”

  • “الظواهر الكونية في القرآن”

  • “معجزة المكان والزمان”


الجوائز والتقدير

نال النجار العديد من الجوائز، منها:

  • جائزة مصطفى بركة للعلوم عام 1955

  • جائزة رئيس جمهورية السودان التقديرية

  • وسام العلوم والآداب والفنون الذهبي

  • جائزة الدكتور مصطفى بركة في علوم الأرض

  • جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم عام 2006، واختير شخصية العام الإسلامية لعام 1427 هـ


الوفاة والإرث العلمي والدعوي

توفي زغلول النجار في التاسع من نوفمبر عام 2025 في العاصمة الأردنية عمان، عن عمر يناهز اثنين وتسعين عامًا، مخلفًا إرثًا ضخمًا من البحث العلمي والدعوي، وما زالت كتبه ومؤلفاته تُدرس وتُناقش في مختلف أنحاء العالم، لتثبت أن الإنسان يمكن أن يجمع بين العلم والدين في مسيرة واحدة، وأن القرآن الكريم لم يسبق عصره فحسب، بل أهدى البشرية رؤية متكاملة للكون والحياة.

مسيرة النجار العلمية والدعوية تجسد رسالة واضحة: أن العلم لا يتعارض مع النص الديني، بل يمكن أن يكون أداة لفهم أعمق لخلق الله وخلقه. ومن خلال كلمة السيو “إعجاز علمي زغلول النجار”، يمكن للباحثين والقراء التعرف على إرثه وإسهاماته في ربط المعرفة العلمية بالتراث الإسلامي.

اقرأ كذلك: السلطان علي دينار: آخر سلاطين دارفور الذين حاربوا الإنجليز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات