تاريخ وثقافة

غيرترود بيل: الجاسوسة التي خذلت العرب لصالح الإنجليز

"تراجع الهيمنة العثمانية في القرن الـ18 والـ19: التأثيرات السياسية والعسكرية لبريطانيا وروسيا في الشرق الأوسط والصراع على النفوذ في العراق والشام"

الهيمنة العثمانية وتراجع النفوذ في القرن الـ18 والـ19. منذ القرن الـ16، فرضت الدولة العثمانية هيمنتها العسكرية والسياسية على مساحات شاسعة تمتد من حدود المغرب غربًا إلى حدود إيران شرقًا، ومن وسط أوروبا شمالًا إلى بحر قزوين وشمال البحر الأسود جنوبًا. خلال تلك الفترة، سيطر العثمانيون على الأراضي العربية وقاموا بفرض حصار على فيينا مرتين، محققين بذلك نفوذًا كبيرًا على المستوى السياسي والعسكري. ومع ذلك، فإن القرنين الـ18 والـ19 شهدوا تراجعًا تدريجيًا في هذا النفوذ العثماني على المناطق الحدودية البحرية.

الهيمنة الروسية وزيادة النفوذ الأوروبي

مع مرور الوقت، بدأت الهيمنة الروسية على مناطق شبه جزيرة القرم والقوقاز تزداد، كما بدأت الدول الأوروبية الأخرى تتدخل في شؤون المنطقة بشكل أكبر. في البلقان، بدأ العثمانيون يواجهون تحديات جديدة تتمثل في التطلعات القومية المتزايدة، بالإضافة إلى عدوان منسق من النمسا وحلفائها. في شمال أفريقيا، اضطر العثمانيون للتعامل مع سياسة التوسع التي فرضتها الدول الاستعمارية الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا. فقد فرض الفرنسيون هيمنتهم على الجزائر عام 1830، بينما قاموا بالتحرك نحو تونس في عام 1881، وفي وقت لاحق، غزت إيطاليا ليبيا عام 1911.

مصر والاحتلال البريطاني

في مصر، وعلى الرغم من كونها جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، فقد تمكن الوالي محمد علي باشا من فرض شروطه على الباب العالي، الذي وافق على منح مصر ولاية مستقلة. وبالتالي، أصبحت مصر دولة مستقلة تحت حكم محمد علي وأبنائه. لكن هذه الاستقلالية لم تدم طويلًا، حيث أدى إفلاس مصر على يد الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي، إلى احتلال البلاد من قبل البريطانيين في عام 1882. وهذا الاحتلال البريطاني فرض واقعًا جديدًا في مصر وأثر بشكل كبير على سير الأحداث في المنطقة.

طموحات الأوروبيين في تفتيت “الرجل المريض”

على الرغم من التشرذم السياسي والاقتصادي الذي كان يواجه الدولة العثمانية، لم يتوقف طمع الدول الأوروبية في تفتيت ما كان يُسمى بـ “الرجل المريض”، وهو اللقب الذي أطلقته القوى الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية في مرحلة ضعفها. لم تتوقف أعين القوى الاستعمارية عن التطلع إلى الخليج العربي وبلاد الشام والعراق وحتى الأناضول ذاته. كان البريطانيون يسعون بشكل خاص لتأمين مصالحهم الحيوية في شبه القارة الهندية، التي كانوا قد احتلوها منذ عقود، واعتبروها “درة التاج البريطاني” وأحد أعمدة اقتصاد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

غيرترود بيل وتجربة الشرق

لفهم أفضل لما كان يحدث في “الشرق الأوسط” — وهو مصطلح ابتكره رجال السياسة والمخابرات البريطانية في أواخر القرن الـ19 — كان من الطبيعي أن تعتمد بريطانيا على جواسيس خبيرين، أو على خبراء يعملون في مجال الاستخبارات، ليتمكنوا من فرض هيمنتهم السياسية والعسكرية على الأراضي التي كانوا يتطلعون إليها. من بين هؤلاء الخبراء كانت غيرترود بيل، المؤرخة وعالمة الآثار البريطانية التي أثرت بشكل كبير في السياسة البريطانية في الشرق الأوسط.

دراسة اللغة والثقافة في الشرق

ولدت غيرترود بيل في أسرة أرستقراطية بريطانية، ودرست التاريخ في جامعة أكسفورد. كانت مهتمة بشكل خاص بتاريخ الشرق وآثاره، مثلها مثل ضابط المخابرات البريطاني الشهير لورانس العرب، حيث تخصصا معًا في دراسة تاريخ وثقافة المنطقة. وبناء على هذا الاهتمام، بدأت غيرترود بيل رحلة استكشاف الشرق، فزارت إيران وتعلمت اللغة الفارسية، حتى ترجمت 30 قصيدة من ديوان حافظ الشيرازي، أحد أعظم شعراء إيران.

رحلاتها إلى المنطقة العربية

كانت غيرترود بيل دائمًا تبحث عن مغامرة جديدة. في عام 1899، زارت القدس لأول مرة، ثم انتقلت في العام التالي إلى الأردن حيث عاشت مع البدو وتعلمت العديد من عاداتهم وتقاليدهم. عقدت صداقات مع شيوخ جبل الدروز في لبنان، واتجهت إلى دمشق، عبرت بادية الشام، ثم وصلت إلى لبنان قبل أن تعود إلى بريطانيا. في عام 1902، قررت العودة إلى الشرق لدراسة اللغة العربية، وفي عام 1905، زارت الشام مرة أخرى.

اكتشاف العراق والشام

عقب هذه الرحلات، بدأت غيرترود بيل في إجراء دراسات مستفيضة عن العراق والشام. في عام 1913، قامت برحلة إلى حائل، ثم عادت عبر طريق بغداد وتدمر. كانت تسجل كل تفاصيل حياتها في المنطقة في خرائط مفصلة، مبينة أماكن القبائل وموارد المياه وأماكن أخرى ذات أهمية استراتيجية. أمضت 15 عامًا من حياتها في دراسة الجغرافيا والشعوب في المنطقة، مما جعلها واحدة من أبرز الخبراء في تاريخ الشرق الأوسط.

غيرترود بيل والتأثير على السياسة البريطانية

مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت غيرترود بيل في إنجلترا. وبينما كانت الحرب تشتعل، كتبت تقريرًا مهمًا للإدارة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط، كان له تأثير كبير على استراتيجيات بريطانيا في التعامل مع المنطقة.

التوقعات والردود السياسية

تقرير غيرترود بيل كان لا يُعرض فقط شخصيات وحركات سياسية في الأقطار العربية التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، بل كان أيضًا تحليلاً معمقًا يتوقع ردود الفعل المحتملة في حالة دخول الدولة العثمانية الحرب ضد بريطانيا. تطرقت غيرترود في تقريرها إلى مواقف العديد من الحكام المحليين في منطقة الخليج العربي وبلاد الشام.

تواصلها مع زعماء العرب

في عام 1915، تم استدعاء غيرترود بيل من قبل المكتب البريطاني في القاهرة للاستفادة من معرفتها العميقة بالمنطقة. كان عملها في البداية يقتصر على جمع معلومات استخباراتية عن القبائل والشخصيات المؤثرة في الجزيرة العربية، وهو مجال كانت تتفوق فيه على الجميع.

مراسلات الحسين-ماكماهون

في تلك الفترة، كان البريطانيون يسعون لزيادة نفوذهم في المنطقة من خلال استمالة الشريف حسين في مكة. وقد تم تبادل رسائل مهمة بين الشريف حسين والممثل البريطاني في مصر، السير هنري ماكماهون، عُرفت بمراسلات “الحسين-ماكماهون”. طالب الشريف حسين بإقامة مملكة عربية تمتد من سوريا إلى الجزيرة العربية. وقد قدمت غيرترود بيل تقريرًا مفصلاً عن هذه المفاوضات، مشيرة إلى أهمية فلسطين والعراق بالنسبة للمصالح البريطانية.

التآمر مع الفرنسيين والتخطيط للهيمنة

رغم المفاوضات مع الشريف حسين، كان الفرنسيون أيضًا يخططون للسيطرة على سوريا. في تقريرها، أوصت غيرترود بيل بممارسة “الخداع” ضد الفرنسيين، بينما في المقابل أكدت أن العرب غير قادرين على حكم أنفسهم بشكل فعال.

دورها في دعم السياسة البريطانية

بفضل تجربتها الواسعة وفهمها العميق للعقلية العربية، أصبحت غيرترود بيل جزءًا أساسيًا من فريق التخطيط البريطاني في المنطقة. عملت على تفكيك العلاقة بين العرب والدولة العثمانية، وبدأت في تنسيق التحركات التي من شأنها تسهيل الهيمنة البريطانية على المنطقة.

مهمتها في العراق بعد الحرب

عقب الحرب، تم إرسال غيرترود بيل إلى العراق. هناك، حاولت استمالة أمير حائل ابن الرشيد الذي كان لا يزال مؤيدًا للعثمانيين. عندما فشلت في إقناعه، كتبت رسالة غاضبة إلى أسرتها، تعبيرًا عن استيائها من موقفه. ومع ذلك، استمرت في دراستها للأوضاع في العراق، مستعينة بضباط المخابرات البريطانيين في المنطقة.

النفوذ البريطاني في العراق بعد الثورة

مع اندلاع الثورة العراقية في 1919. واجهت بريطانيا تحديات جديدة. كانت سياسة بريطانيا تختلف بين الضباط البريطانيين. حيث كان بعضهم يوصي باستخدام القوة المفرطة ضد العراقيين بينما كانت غيرترود بيل تفضل فكرة تعيين ملك هاشمي للعراق.

دور غيرترود بيل بعد 1920

في عام 1920، أصبحت غيرترود بيل السكرتيرة الرئيسية للسير بيرسي كوكس. المسؤول البريطاني في العراق، وأحد الشخصيات البارزة في السياسة البريطانية في المنطقة. استمرت في بناء علاقات قوية مع الشخصيات العراقية وتأثيرها في الشؤون العراقية.

وفاتها وإرثها في السياسة البريطانية

في السنوات الأخيرة من حياتها. تعرضت غيرترود بيل لتهميش تدريجي نتيجة للضغط النفسي والمرض. توفيت في يوليو 1926 عن عمر ناهز 57 عامًا. ورغم تراجع دورها. إلا أن إرثها في السياسة البريطانية في العراق لا يزال قائمًا. حيث لعبت دورًا حاسمًا في تسليم البلدان العربية إلى بريطانيا عبر وسائل دبلوماسية وسياسية متق

اقرأ كذلك :بشار الأسد: نهاية الدكتاتور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات