رفاعة الطهطاوي: المفكر الإسلامي الذي استحوذ عليه العلمانيون
"رفاعة الطهطاوي بين التنوير الإسلامي والتحديات الغربية: تحليل مواقف الطهطاوي من حقوق المرأة والحجاب وتوضيح محاولات تحريف أفكاره في السياق المعاصر"
رفاعة الطهطاوي: المفكر الإسلامي الذي استحوذ عليه العلمانيون… رفاعة الطهطاوي وموقفه من الحجاب وحقوق المرأة: تحليل فكري تاريخي في الثقافة المصرية، هناك العديد من المواضيع التي تعدّ حساسة لدرجة أنه بمجرد الإشارة إليها أو مناقشتها، يتبادر إلى الذهن اتهام الشخص الذي يطرحها بالثورة على العادات والتقاليد، وأحيانًا قد يتهم بالثورة على الدين والمسلمات. من بين هذه المواضيع، يعد ملف “حقوق المرأة” من أخطر المواضيع المثيرة للجدل. يعود ذلك إلى أن المدافعين عن حقوق المرأة في كثير من الأحيان يستلهمون النموذج الغربي ويسعون لتطبيقه بشكل مباشر دون النظر إلى خصوصية الثقافة المصرية أو التقاليد الدينية. ويستند هؤلاء إلى أن الغرب قد وصل إلى مرحلة من التقدم التي تُمثل نموذجًا يُحتذى به في مختلف المجالات، ومن بينها حقوق المرأة.
لكن، الأمر لا يتوقف هنا، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث يحاولون توظيف الفكر الغربي لصالحهم عن طريق ربطه ببعض الآراء الفقهية أو آراء بعض المفكرين الإسلاميين. هذا الربط يهدف إلى إيجاد تربة خصبة تُنمي الأفكار التغريبية في المجتمع المصري والعربي، بينما يسعى أولئك الذين يدافعون عن هذه الأفكار إلى نفي تهمة العمالة للغرب عن أنفسهم. وهنا تكمن المشكلة، إذ يؤدي هذا التوظيف إلى تحريف الحقائق وتزييف النصوص الدينية من أجل تبرير توجهاتهم الفكرية والسياسية. هذه المحاولات تساهم في نشر الأفكار العلمانية التي يتم إلباسها زيًا إسلاميًا حتى تسهل عملية قبولها وانتشارها.
الاستلهام من النموذج الغربي
من أبرز الشخصيات التي استخدمها العلمانيون لتبرير مواقفهم وطرح أفكارهم حول حقوق المرأة هو المفكر المصري رفاعة الطهطاوي. فهم يروجون لفكرته عن “تحرير المرأة” ويستندون إلى بعض ملاحظاته عن المرأة في فرنسا أثناء بعثته العلمية هناك. أحد هؤلاء المفكرين الذين ربطوا بين فكر الطهطاوي والغرب هو الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة السابق. فقد حاول الدكتور عصفور من خلال عدة مقاطع في كتبه وفي تصريحات له إظهار الطهطاوي كمنفتح على الغرب، بل إنه استند إلى أفكار له قد تُفسّر على أنها دعوة إلى الإطاحة بالحجاب في الإسلام. هذا الربط بين فكر الطهطاوي والنموذج الغربي قد تم استخدامه كدليل على صحة وجهة نظر الدكتور عصفور. لكن الحقيقة أن هذا الربط بعيد عن الحقيقة ويؤدي إلى تحريف رؤية .
رفاعة الطهطاوي: رؤية إسلامية للتقدم
عندما نتناول فكر رفاعة الطهطاوي، يجب أن نفهم أنه كان ينتمي إلى بيئة إسلامية، وكان يسعى من خلال أعماله إلى تحقيق التوازن بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين التمسك بالقيم الإسلامية. إن كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” يعدّ مرجعًا مهمًا لفهم رؤيته. ففي هذا الكتاب، لم يكن الطهطاوي يسعى إلى دعوة المسلمين إلى تقليد الغرب بشكل أعمى، بل كان يسعى لتعلم الدروس المستفادة من تقدم الغرب في مجال العلوم العقلية والتكنولوجية، على أن تكون هذه العلوم محكومة بالإطار الشرعي الإسلامي.
ورغم أن الطهطاوي سجل ملاحظاته حول حياة الفرنسيين، فقد كانت غايته الأساسية أن يشجع المسلمين على التعلم والابتكار، ليتمكنوا من مواكبة العصر. ومن هنا نجد أن الطهطاوي لم يكن يهاجم الدين أو يعارض قيمه، بل كان يحاول أن يعزز من قدرات المسلمين العلمية والتكنولوجية في إطار من احترام الدين. بل في مقدمته للكتاب، قال إن الدافع وراء كتابته كان “التعلم من الغرب دون المساس بثوابت الدين”.
موقف الطهطاوي من الحجاب: إدانة التحريف والتشويه
فيما يتعلق بموقف الطهطاوي من الحجاب، فقد زعم الدكتور جابر عصفور في عدة مناسبات أن الطهطاوي كان يعتقد أن الحجاب ليس فرضًا في الإسلام. استند عصفور إلى بعض الملاحظات التي كتبها الطهطاوي في “تخليص الإبريز”، إلا أن هذه المحاولة لم تكن سوى تحريف للحقائق. الطهطاوي لم ينكر فرضية الحجاب، بل كان قد أوضح في العديد من كتبه أنه لا يتفق مع الفرنسيين في أي شيء يخالف الشريعة الإسلامية.
في كتاب “تخليص الإبريز”. عندما تحدث الطهطاوي عن حالة النساء في فرنسا، كان يقدم تقريرًا عن الوضع الاجتماعي، دون أن يلتزم بتفسير ديني لهذه الممارسات. ومع ذلك. أكد في بداية الكتاب أنه لا يوافق الفرنسيين على أي من هذه الممارسات إذا كانت تتناقض مع تعاليم الشريعة الإسلامية. فكل ما قام به هو تسجيل مشاهداته دون أن يشرع في الحكم عليها من خلال مرجعية إسلامية. ولم يكن الهدف من كتابته هذا الكتاب دعم أي من هذه الممارسات الغربية. بل كان يرمي إلى دعوة المسلمين للاستفادة من العلوم العقلية التي تميز بها الغرب دون التفريط في القيم الإسلامية.
الفكر الإسلامي وتحسين العقل
واحدة من أهم القضايا التي أثيرت حول فكر الطهطاوي هي مسألة “التحسين والتقبيح العقليين”. حيث ادعى البعض. مثل الدكتور جابر عصفور، أن الطهطاوي كان يؤمن بأن العقل وحده يمكنه تحديد ما هو حسن أو قبيح. وأنه لم يكن ملتزمًا بالشريعة الإسلامية في هذه القضية. لكن هذا الادعاء أيضًا بعيد عن الواقع. الطهطاوي كان يرفض هذا الرأي تمامًا. حيث كان يؤمن أن العقل البشري لا يمكنه أن يحدد الأحكام الأخلاقية دون الرجوع إلى النصوص الشرعية. لقد أوضح الطهطاوي في مؤلفاته أن التحسين والتقبيح العقليين يجب أن يكونا في إطار الشريعة الإسلامية. فهو يرفض فكرة أن العقل وحده يمكنه أن يُقيم الأمور الأخلاقية.
وبينما كان يرى الطهطاوي ضرورة الاستفادة من العلوم العقلية والتكنولوجية. فإنه لم يكن يروج لفكرة أن الإنسان يمكنه أن يتحرر من الإطار الديني في تفسيره للأخلاق والمفاهيم. بل كان يعتقد أن العقل يجب أن يتناغم مع الوحي الديني.
المرأة في فكر الطهطاوي
من ضمن القضايا التي أثارت الجدل في فكر الطهطاوي هي مواقفه من حقوق المرأة. في العديد من كتاباته. أشار الطهطاوي إلى دور المرأة في المجتمع. وأكد على أهمية تعليم المرأة في إطار الشريعة الإسلامية. فقد كان يرى أن المرأة يجب أن تحصل على تعليم جيد. ولكن في إطار يضمن عدم تجاوز حدود الشريعة. وهذا يتضح في العديد من الكتابات التي تناولت مسألة التعليم والعمل للنساء.
أما فيما يتعلق بمسألة الحجاب. فإن الطهطاوي لم ينكر فرضية الحجاب، بل أكد في أكثر من مناسبة أنه جزء من الشريعة الإسلامية التي يجب الالتزام بها. وفي هذا السياق. كان يرفض العادات الغربية التي تتناقض مع مفاهيم الحشمة والاحتشام. فقد كان يرى أن المرأة يجب أن تلتزم بالحجاب. لأنه يمثل إحدى أهم القيم التي تحافظ على كرامتها وشرفها في المجتمع.
رفاعة الطهطاوي بين الغرب والإسلام
لقد حاول الدكتور جابر عصفور أن يقدم الطهطاوي كمفكر علماني يدعو إلى تقليد الغرب وتبني أفكاره. لكن الحقيقة أن الطهطاوي كان دائمًا مؤمنًا بأهمية الاستفادة من الغرب في ما يتعلق بالعلوم والمعرفة. مع الحفاظ على الهوية الإسلامية. ففكر الطهطاوي لم يكن دعوة للتخلي عن الشريعة.بل كان دعوة لتطوير المجتمع الإسلامي من خلال التعلم والنمو في المجالات العلمية والتقنية دون المساس بالثوابت الدينية.
لقد أشار الطهطاوي إلى أن المسلمين كانوا في العصور الذهبية للإسلام متقدمين على الغرب في العديد من العلوم. لكنه كان يعتقد أن الأمة الإسلامية في عصره بحاجة إلى التقدم في العلوم العقلية والتكنولوجية. وهذا لا يتعارض مع الالتزام بالدين. وكان يرى أن من الممكن تحقيق التقدم من خلال الجمع بين العلم والشريعة.
خلاصة القول
رفاعة الطهطاوي كان مفكرًا إسلاميًا جمع بين الدعوة إلى التقدم العلمي والحفاظ على قيم الشريعة. وكان يسعى جاهدًا لإحياء الأمة الإسلامية وجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر، ولكن دون التفريط في مبادئ الدين. ورغم أن بعض المفكرين حاولوا تحريف أفكاره لتناسب أجنداتهم. إلا أن الحقيقة التي يجب أن نذكرها هي أن الطهطاوي كان يدعو إلى التوازن بين التقدم العلمي والتمسك بالقيم الإسلامية.
من هنا. نستطيع القول إن ما روجه الدكتور جابر عصفور من أفكار حول موقف الطهطاوي من الحجاب وحقوق المرأة هو مجرد افتراء. ففكر الطهطاوي كان دائمًا متجذرًا في الشريعة الإسلامية ولم يكن يروج لتطبيقات تغريبية.
اقرأ كذلك :“سلطان العالم”: عندما لجأت فرنسا إلى سليمان القانوني