بائع السميت.. حكاية تركية تصمد أمام الزمن
بائع السميت في إسطنبول.. رمز العراقة وثقافة الشارع التركي التي تجمع بين الماضي والحاضر في لقمة يومية لا غنى عنها
بائع السميت في إسطنبول.. حكاية عراقة تتحدى الزمن إسطنبول، المدينة التي تعكس سحر التاريخ ورونق الحاضر، تقف كجسر حي بين الشرق والغرب. إنها ليست مجرد عاصمة تاريخية للإمبراطوريات، بل مدينة نابضة بالحياة تمزج بين الثقافة التقليدية والحداثة العصرية. في شوارعها، نرى مشهدًا يعود بنا إلى الماضي، متمثلًا في بائع السميت، المعروف باسم “فارس الشارع”. بائع السميت، الذي يعتبر جزءًا من المشهد اليومي، يحكي لنا قصة طويلة تمتد لعصور، حيث يحمل عبق التراث ونكهة الأصالة في كل يوم.
السميت، أكثر من مجرد خبز بالنسبة للأتراك، يعتبر رمزًا من رموز الحياة اليومية التركية، يعكس بساطة العيش ودفء العلاقات بين الناس. ولعل ما يميزه أنه يروي حكايات عن حياة بسيطة مليئة بالتحديات والمتعة، ويجمع بين أجيال مختلفة تتناقل عشقه عبر السنين. فكيف تحولت قطعة الخبز هذه إلى رمز شعبي، وكيف أصبح بائع السميت جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي في إسطنبول؟
صباحات إسطنبول ومع نداء “السميت! سميت!”
في السابق، كان بائع السميت يبدأ يومه قبل شروق الشمس. يستيقظ مع الفجر، ويُحضّر العجين بحب وإتقان، ثم يقوم بتزيين عربته بألوان زاهية، ويرتدي الطاقية التقليدية كرمز لاعتزازه بمهنته. بمرور الوقت، ومع بزوغ الصباح، تنتشر رائحة السميت الطازج في الهواء، فتغدو دعوة لا تُقاوم للمارة.
صوت بائع السميت وهو ينادي “سميت! سميت!” يحمل في طياته موسيقى يومية تميز شوارع إسطنبول الصاخبة، فيصبح البائع جزءًا لا يتجزأ من هذا المشهد. إن رؤيته وهو يتجول بعربته، حاملاً صواني السميت المصفوفة بعناية، تعد أحد أبرز معالم الحياة في هذه المدينة التي لا تهدأ.
حاليًا، ونظرًا للطلب المتزايد والصعوبة المتزايدة في الإنتاج، لا يقوم معظم بائعي السميت في إسطنبول بتحضيره بأنفسهم. بل يحصلون على السميت من المخابز التي تنتجه بكميات كبيرة خلال ساعات الصباح الباكر، ثم يجوبون به الشوارع لنقل عبق الماضي وأصالته إلى الحاضر، مما يعزز روح الثقافة التركية في كل زاوية من المدينة.
السميت عبر التاريخ.. عبق العثمانيين في كل لقمة
السميت ليس حديث الظهور، بل يعود تاريخه إلى فترة الإمبراطورية العثمانية، حيث كان جزءًا من المأكولات الشعبية التي تزين الأسواق القديمة. يتميز السميت بشكله الدائري المغطى بالسمسم المحمص، ويتم تحضيره من دقيق القمح والدبس ليحصل على لونه الذهبي المميز. يمكن القول إنه يحمل روح تلك الفترة، فهو يعكس بساطة الحياة والتآلف الاجتماعي الذي كان يسود بين الناس.
وقد وثق الرحالة العثماني الشهير أوليا جلبي (1611-1682م) ذكر السميت وباعته الجائلين في كتابه “سياحت نامه” أو “كتاب الرحلات”، الذي كتب خلال تجوله في إسطنبول في القرن السابع عشر. ذكر جلبي أن هناك ما يقرب من 70 مخبزًا في إسطنبول كانت تتخصص في إنتاج السميت، وأن بائعيه كانوا جزءًا من الحياة اليومية، يتنقلون بين الأحياء حاملين صواني السميت على رؤوسهم، ويغطونها بمفارش ذات ألوان مبهجة للحفاظ على نظافته وحمايته من الأتربة.
من هنا، برز السميت كوجبة سريعة تلبي حاجات العامة في وقت كانت الظروف الاقتصادية تقتضي وجود مأكولات سهلة ومتاحة للجميع. واليوم، ورغم مرور الزمن وتطور الأذواق، ما زال السميت يحتفظ بمكانته لدى الأتراك كرمزٍ للأصالة والتقاليد، ويعتبر جزءًا من الذاكرة الجماعية التي تمتد جذورها لقرون.
طرق إعداد السميت بين الماضي والحاضر
في الماضي، كان إعداد السميت يتطلب مهارة خاصة، حيث كان العجين يُحضّر يدويًا بعناية، ثم يُغطى بالسمسم المحمص قبل وضعه في الفرن للحصول على النكهة المميزة واللون الذهبي. مع مرور الوقت، تطورت هذه العملية، فظهرت نكهات جديدة للسميت، مثل إضافة الجبن والزيتون، أو حتى الشوكولاتة، التي قدمت لمسة عصرية على النكهة التقليدية.
رغم انتشار المحال المتخصصة في بيع أنواع السميت المتنوعة، لا يزال بائع السميت المتجول يحمل في عربته روح الماضي، ويقدم السميت بحب للزبائن الباحثين عن طعم الأصالة. لا يكتفي هؤلاء الباعة بتقديم السميت فقط، بل يقدمون تجربة تراثية يتوق الناس لتذوقها، وتجعلهم يشعرون وكأنهم يعيشون لحظة من الزمن العثماني الجميل.
السميت والأتراك.. عشقٌ لا ينتهي
يعتبر السميت أحد أكثر المأكولات شعبية في تركيا، إذ يستهلك الأتراك ما يزيد عن 2.5 مليون قطعة يوميًا في إسطنبول وحدها. بالنسبة للأتراك، السميت ليس مجرد طعام، بل هو جزء من الهوية الثقافية والتقاليد التي تتوارث عبر الأجيال. ينتشر آلاف الباعة الجائلين في شوارع إسطنبول، حيث يملؤون أحياءها وأزقتها، ليصبحوا جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية.
يحتفظ السميت بمكانة خاصة لدى الأتراك، ويعد تناول السميت مع كوب من الشاي الساخن طقسًا يوميًا لا يمكن الاستغناء عنه. يتجمع المارة حول عربات السميت، يتناولون قطعة ويستمتعون بلمسة من عبق الماضي. هذه العادة، التي تتكرر يوميًا، ترسم صورة حية لتراث إسطنبول وتجسد جمال التقاليد التركية في مشهد ساحر يمزج الماضي بالحاضر.
تحديات تواجه باعة السميت في إسطنبول
على الرغم من أن بيع السميت يبدو مهنة بسيطة، إلا أنها تواجه العديد من التحديات التي تؤثر على بائعيه. وفقًا لإحصاءات حديثة، يوجد نحو مليون بائع متجول في إسطنبول، من بينهم حوالي 8 آلاف بائع سميت. ويشار إلى أن هذا العدد يشمل المسجلين قانونيًا لدى البلدية، في حين يُعتقد أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير.
يعد التضخم من التحديات الرئيسية التي تؤثر على بائعي السميت، حيث ارتفعت أسعار السميت بشكل ملحوظ. كان سعر القطعة الواحدة سابقًا يُباع بليرة تركية واحدة، أما اليوم فيتراوح سعرها بين 10 إلى 15 ليرة، ويختلف حسب المنطقة وطريقة البيع. تعزى هذه الزيادة إلى ارتفاع تكاليف المواد الأساسية، مثل الطحين والسمسم، مما أثر على بائعي السميت المستقلين بشكل خاص، الذين يعملون ضمن ظروف اقتصادية صعبة.
التحديات التي يواجهها بائع السميت لا تقتصر فقط على التكاليف، بل تشمل أيضًا صعوبات الطقس. بائعو السميت يعملون في أجواء مكشوفة لساعات طويلة. خاصة في فصل الشتاء، حيث تصل درجات الحرارة إلى مستويات منخفضة للغاية. يحدثنا أحد بائعي السميت، واسمه “ميهمت”. قائلاً إن الطقس القاسي يعد من أصعب التحديات التي يواجهها. ومع ذلك. يستمر في العمل بشغف لأنه يجد في هذه المهنة جزءًا من روحه وحياته اليومية.
الدولة ودعم بائعي السميت
رغم التحديات الاقتصادية والظروف الصعبة التي يواجهها بائعو السميت. فقد ساهمت الدولة بتقديم بعض التسهيلات لدعمهم. حيث سمحت لهم باستخدام المساحات العامة في الأسواق والميادين الحيوية كأحد المشاهد التراثية التي تجذب السياح. يتنقل الباعة بعرباتهم المزينة في الشوارع، مما يمنح السائحين فرصة لتجربة ثقافية أصيلة ويعزز من جذبهم للمدينة.
في المقابل، يرى بعض الباعة أن هذه التسهيلات ليست كافية، وأنه يجب تحسين الوضع الاقتصادي للباعة المتجولين من خلال وضع سياسات تساعدهم في مواجهة ارتفاع الأسعار وتأمين ظروف عمل أفضل. إلا أن بعضهم يرى أن دعم الدولة لهم، وإن كان بسيطًا. يعد خطوة إيجابية للحفاظ على هذا التقليد التاريخي.
تجربة تناول السميت.. نكهة الأصالة التي لا تُنسى
قد يعتقد البعض أن تناول السميت من بائع الشارع أمر بسيط، لكنه في الواقع يحمل طابعًا خاصًا وتجربة فريدة تلامس أعماق الروح. تناول السميت من البائع المتجول يعد تجربة ثقافية تحمل نكهة الأصالة والتاريخ. وتجعل من يتذوقها يشعر وكأنه يشارك في لحظة من تراث تركيا العريق.
ولعل عشق الأتراك لهذا الخبز الشهير بلغ درجة جعلتهم يخلدون بائع السميت بنصب تمثال له في حي إمينونو. بالقرب من
اقرأ كذلك :استمتع بزيارة المتاحف الليلية في قلعة بودروم التركية