اندفاع أوروبي نحو سوريا: ما الذي تغيّر؟
التوجه الأوروبي الجديد نحو سوريا: استراتيجيات لمواجهة النفوذ الروسي والإيراني وتعزيز الوجود الدبلوماسي مع التحديات الإنسانية والسياسية
اندفاع أوروبي نحو سوريا: ما الذي تغيّر؟ .. كشفت وثيقة أوروبية عن رسالة قدمها وزراء خارجية سبع دول لتشكيل كتلة داخل الاتحاد الأوروبي. تدعو هذه الكتلة إلى مراجعة السياسة الحالية تجاه دمشق. وقد طالبت بالتخلي عن “اللاءات الثلاث” المتعلقة بالعقوبات والتطبيع والإعمار، وكذلك بمبدأ أنه “لا يمكن تحقيق السلام في سوريا في ظل النظام الحالي”.
في أبريل 2017، أقرّ مجلس الاتحاد الأوروبي استراتيجية تجاه سوريا، والتي شملت “ثلاث لاءات”: “لا للتطبيع مع دمشق، لا لرفع العقوبات، لا لإعمار سوريا ما لم يتحقق تقدم ملموس في العملية السياسية وفق القرار الدولي رقم 2254”. وقد تم تعديل هذه الاستراتيجية عدة مرات منذ ذلك الحين.
مظاهر جديدة بدأت تظهر في المشهد الأوروبي، منها الصراعات الثقافية المتصاعدة، حيث تأخذ هذه الصراعات منحى تصاعديًا في ظل موجة يسارية أوروبية تدعو إلى تبني قيم جديدة. يتجلى ذلك في العرض الافتتاحي لأولمبياد باريس 2024، حيث تظهر قضايا مثلية وجدل أخلاقي وديني، والتي لا تتناغم مع القادمين من دول الشرق الأوسط، وخصوصًا من سوريا.
في الواقع السوري، لم يحدث أي تغيير جدي منذ أن بسط النظام السوري، بمساعدة إقليمية، سيطرته على حوالي 70% من أراضي البلاد. هذا الوضع أرسى نوعًا من التوازن الأمني والسياسي، ولكنه عزز أيضًا حضور القوى الروسية والإيرانية والتركية والأميركية، وأدى إلى إضعاف دور الأوروبيين في المنطقة. هذا الأمر أثر سلبًا على مصالح الشركات الأوروبية، مما حفزها على تطوير استراتيجية جديدة تتماشى مع الوضع الراهن في سوريا.
الاهتمام الأوروبي المتزايد بسوريا لا يتعلق فقط بمحاولة بعض دول الاتحاد خلق توازنات استراتيجية جديدة، بل يبدو أنه يشير إلى تحول جذري في السياسة تجاه دمشق. هذا التغير يحمل أبعادًا متعددة، من بينها تعزيز الوجود الأوروبي في المنطقة عبر سوريا، لمنافسة النفوذ الروسي وتقليص تأثير الإيرانيين، وضبط الانفتاح التركي على سوريا، خاصة بعد أن أصبحت أنقرة تبتعد عن الإجماع في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تدرك الدول السبع أن التغيير الديموغرافي في سوريا أصبح قضية محورية. فالنازحون من سوريا بسبب الحرب قد يواجهون صعوبة في العودة إلى ديارهم دون وجود خطة واضحة من النظام السوري. وهذا يتطلب حتمًا التفاوض المباشر مع النظام.
بدأت الحكومات الأوروبية تعي الخطر المتزايد من الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها، في حال لم تقم بالانفتاح على النظام السوري لإعادة النازحين إلى بلادهم. مظاهر جديدة تطغى على المشهد الأوروبي، منها الصراعات الثقافية المتزايدة، والتي تتجلى في الإصرار على تبني قيم جديدة لا تتماشى مع القادمين من دول الشرق الأوسط، وخاصة السوريين.
قانون “قيصر” الذي أقره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وأعتمدته الإدارة الأميركية منذ عام 2020، أدى إلى عزلة سوريا وتسبب بأزمة اقتصادية وإنسانية خانقة داخل البلد الذي عانى من الحرب والانقسامات.
قرار الانفتاح على دمشق بدأ يتجلى مع إعلان إيطاليا في 26 يوليو الماضي عن تعيين سفير لها في سوريا، لتكون بذلك أول دولة من مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى تستأنف عمل بعثتها الدبلوماسية في دمشق منذ بدء الحرب السورية عام 2011. وأكد وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني أن تعيين المبعوث الإيطالي الخاص لسوريا، ستيفانو رافاجنان، سفيرًا في دمشق، سيحدث قريبًا. وأوضح تاياني أن هذا التعيين يأتي بعد أن كلف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، دائرة العمل الخارجي الأوروبي بدراسة كيفية التعامل مع الوضع في سوريا.
اعتمد التقارب الأوروبي مع دمشق على مبدأ “التدخل في الساحة السورية”، بعد عدم تحقيق العملية السياسية التي اعتمدتها الأمم المتحدة أي تقدم في الانفتاح على سوريا. في الوقت نفسه، لعب قبول سوريا في جامعة الدول العربية، وتسارع تطبيع العلاقات مع السعودية، دورًا في خلق ديناميكية إقليمية جديدة تقارب دمشق.
عامل آخر حفز الدول الأوروبية على التعامل الإيجابي مع سوريا هو شعورها بأن تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في البلاد ناتج عن الحصار الأميركي المفروض، مما سرّع من وتيرة الهجرة السورية إلى أراضيها.
ليست خطوة إيطاليا مفاجئة، والأهم أنها قد تكون بداية لتدفق خطوات مشابهة من دول أوروبية أخرى. الجميع أصبح على يقين بأن الأزمة السورية تخطت الحدود السورية وأصبحت أزمة عالمية تتجسد في الهجرات غير الشرعية.
قانون “قيصر”، الذي أقره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واعتمدته الإدارة الأميركية منذ عام 2020، تسبب في عزلة سوريا وأزمة اقتصادية وإنسانية خانقة في البلاد.
الوجود الأوروبي الجديد قد يكون محدودًا في نطاقه، حيث يقتصر على الجانب الدبلوماسي أو تسهيل عودة السوريين، وهو حلم بعيد المنال بسبب السياسات الممنهجة لتغيير التوازن الديمغرافي.
مع انتهاء مفعول تمديد قانون قيصر في 17 يونيو الماضي، دون ضجة إعلامية كالسابق، بدا وكأن هناك قرارًا أميركيًا بإبعاد هذه المسألة عن الإعلام لأسباب تتعلق بالمصالح مع واشنطن. قد يكون السبب الرئيسي هو محاولة الإدارة الأميركية الحالية لإيجاد تسوية شاملة للصراع في المنطقة، بما في ذلك سوريا، وحماية مصالحها.
تسابق إدارة بايدن الزمن لإبرام تسوية في المنطقة قبل الانتخابات الأميركية، تتضمن خطوطًا عريضة تلزم أي إدارة أميركية قادمة. هذا يأتي في ظل مخاوف من سياسات ترامب المستقبلية وما قد تسببه من أزمات جديدة.
الأوروبيون ليسوا فقط في وضع “الزوج المخدوع” من قبل أميركا، بل يسعون لمواجهة الوجود الروسي في المنطقة، وخاصة في سوريا. التقدم الروسي الميداني والعسكري في أوكرانيا دفع الدول الأوروبية لفتح جبهة جديدة مع موسكو في الشرق الأوسط، بهدف تشتيت قدرات روسيا.
ستكون العملية الأوروبية في سوريا معقدة، وقد تواجه صعوبات إذا جاءت نتائج الانفتاح عكس التوقعات، خاصة مع التدخلات الإيرانية والروسية الواضحة في الشأن السوري. قد يكون الوجود الأوروبي محدودًا، ولكنه يركز على الجانب الدبلوماسي أو تسهيل عودة السوريين، وهو هدف صعب التحقيق بسبب السياسات الممنهجة لتغيير التوازن الديمغرافي.
اقرأ أيضاً: شروط سوريا لتحسين العلاقات مع تركيا