تعثر صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل: الأسباب والانعكاسات
بين السياسة والطاقة: كيف قلبت إسرائيل اتفاقية الغاز التاريخية
قبل نحو ثلاثة أشهر، رحبت تل أبيب بتوقيع اتفاق لتصدير كميات من الغاز الطبيعي إلى مصر، وهو ما وصفه مسؤولون إسرائيليون بأنه أكبر صفقة للطاقة في تاريخ إسرائيل.
لكن الترحيب الإسرائيلي سرعان ما تحوّل إلى تعنت في التنفيذ، ليضع الطرفين في مواجهة مباشرة، فيما ظهر طرف ثالث مؤثر وهو الولايات المتحدة، التي مارست ضغوطًا على تل أبيب لتمرير الاتفاق المعطل.
وتكشف هذه القضية عن تعقيدات السوق الإقليمية والضغوط السياسية التي تحيط بملفات الطاقة في الشرق الأوسط، إذ تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الاستراتيجيات السياسية والأمنية.
الدور الأمريكي في الصفقة
أبرز مؤشر على تدخل واشنطن، إلغاء وزير الطاقة الأميركي كريس رايت زيارة كانت مقررة إلى إسرائيل، حسب ما نقلته صحف عبرية عن مسؤولين حكوميين.
تدير شركة شيفرون الأميركية حقل ليفياثان الإسرائيلي، وهو المصدر الرئيس للغاز الذي كان من المقرر تصديره لمصر.
وتعد الشركة المتضرر الأساسي من موقف تل أبيب، إذ يؤدي تعطيل التصدير إلى خسائر يومية ضخمة تؤثر على عملياتها وأرباحها العالمية.
وفي أغسطس/آب الماضي، أعلنت شركة نيو ميد، أحد الشركاء في حقل ليفياثان، عن اتفاق لتوريد 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى مصر بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار.
وكان الاتفاق يحظى بدعم سياسي واقتصادي كبير، لكنه واجه سلسلة من العراقيل غير المسبوقة بعد توقيعه.
من الترحيب إلى الرفض الإسرائيلي
عقّب وزير الطاقة الإسرائيلي وقتها بالقول إن توقيع الاتفاق يمثل “خبراً هاماً على الصعيدين الأمني والسياسي والاقتصادي، ويعزز مكانة إسرائيل كقوة إقليمية في الطاقة”.
وأضاف أن الاتفاق يوفر مليارات الدولارات لخزينة الدولة ويخلق فرص عمل جديدة، كما يعزز الاقتصاد المحلي.
غير أن شهرًا واحدًا فقط بعد التوقيع، أصدر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تعليماته بعدم استكمال تنفيذ الصفقة إلا بموافقته المباشرة.
وتبرر الحكومة الإسرائيلية موقفها بوجود قضايا تتعلق بالتسعير المحلي والمصالح الوطنية، فيما تضغط إدارة الرئيس الأميركي على تل أبيب للمصادقة على الصفقة رغم العراقيل.
وطرحت صحيفة يديعوت أحرونوت فرضية سياسية للأزمة، مشيرة إلى استخدام تل أبيب الطاقة كورقة ضغط على القاهرة، وربط الالتزام باتفاقية السلام الموقعة بين الجانبين عام 1979 بتدفق الغاز الإسرائيلي.
وفي سياق آخر، أبدت إسرائيل قلقها من التدخل المصري العسكري في سيناء خلال العدوان على غزة، معتبرة أن هذا يشكل خرقًا لاتفاقية السلام القديمة، ما زاد التوتر حول الصفقة.
تفاصيل الصفقة الجديدة
الصفقة الجديدة تمثل تعديلًا لاتفاق سابق بين القاهرة وتل أبيب عام 2019، الذي كان ينص على تصدير 60 مليار متر مكعب فقط حتى عام 2030.
أما الاتفاق الجديد، فينص على ضخ 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى مصر حتى عام 2040، وهو ما يزيد من حجم التعاون الطاقوي بين الطرفين بشكل ملحوظ.
يقدر احتياطي حقل ليفياثان الإسرائيلي بنحو 600 مليار متر مكعب، ويعد الأكبر في إسرائيل، ويشترك في تشغيله شركة شيفرون الأميركية بنسبة 40%.
ويتضمن الاتفاق مرحلتين: تبدأ الأولى عام 2026 بإمدادات جزئية تصل إلى 20 مليار متر مكعب، تليها المرحلة الثانية بعد توسعة خطوط الربط بين الحقل ومحطات الإسالة في مصر، وتقدر بحوالي 110 مليارات متر مكعب.
تخطط القاهرة لاستخدام الغاز لتغطية جزء من الطلب المحلي، وإعادة تصديره على شكل غاز مسال، ما يعكس استراتيجيتها في تنويع مصادر الطاقة وزيادة الإيرادات.
موقف القاهرة الرسمي
باستثناء تصريح رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصري ضياء رشوان، لم تصدر أي تصريحات رسمية عن الحكومة المصرية حول الموقف الإسرائيلي.
وصف رشوان الموقف الإسرائيلي بالاستفزازي، مؤكدًا قدرة القاهرة على التعامل مع أي تداعيات اقتصادية أو سياسية قد تنتج عن تجميد الاتفاقية.
وأضاف أن مصر لا تعتمد على مصدر واحد للطاقة، وأن لديها خططًا بديلة لمواجهة أي تحديات، مشددًا على أن الطرف الإسرائيلي سيكون الخاسر في النهاية.
ويبلغ إجمالي التدفقات في الشبكة القومية للغازات نحو 6.8 مليارات قدم مكعبة يوميًا، في حين يبلغ إنتاج البلاد من الغاز 4.21 مليارات قدم يوميًا.
وسجلت مصر في 2024 عجزًا بين الإنتاج والاستهلاك، إذ بلغ الاستهلاك 60 مليار متر مكعب مقابل إنتاج 47.5 مليار متر مكعب فقط.
التبريرات الإسرائيلية وموقف الخبراء
يرى خبراء الطاقة أن إسرائيل تقدم مبررات واهية لعرقلة الاتفاق.
يقول الدكتور حسام عرفات، أستاذ البترول والتعدين في جامعة القاهرة، إن تل أبيب تدعي تحقيق مصر مكاسب ضخمة عبر إعادة تصدير الغاز بعد إسالةه، متجاهلة التكاليف التي تتحملها القاهرة.
وأضاف أن إسرائيل لا تمتلك محطات إسالة، بينما تمتلك مصر محطتين في إدكو ودمياط، تقومان بتحويل الغاز من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة لتسهيل نقله وتخزينه.
وأشار عرفات إلى أن تكلفة استيراد الغاز للمليون وحدة تبلغ 7.5 إلى 8 دولارات، بينما تعيد مصر بيعه بقيمة 13.5 إلى 14 دولارًا، ما يجعل هامش الربح محدودًا بالنظر للنفقات.
وأكد أن السبب الحقيقي للعرقلة يعود إلى مجريات سياسية، خصوصًا موقف مصر الرافض لتهجير أهالي غزة وإسهامها في اتفاق وقف النار، ما دفع إسرائيل لمحاولة تحويل النزاع إلى ملف تجاري.
تداعيات التعثر على الطرفين
أكد خبراء الطاقة أن إسرائيل هي الطرف الأكثر تضررًا، إذ تعتمد على مصر لتصدير الغاز أو نقله عبر الأردن، ولا تمتلك بدائل أخرى.
بينما تستطيع القاهرة بسهولة إبرام صفقات خارجية واستيراد الغاز من أكثر من مصدر، ما يضمن استقرار الإمدادات المحلية.
وحول دور الولايات المتحدة، قال الخبراء إن واشنطن تحرص على حماية مصالح شركة شيفرون الأميركية، إذ يؤدي تعطيل الصفقة إلى خسائر مباشرة للشركة، ما يفسر ضغوط الإدارة الأمريكية على تل أبيب لتمرير الاتفاق.
ويتوقع الخبراء أن الصفقة ستتم، رغم العراقيل السياسية، لأن إسرائيل لا تمتلك بدائل حقيقية لتصدير الغاز، وبالتالي فإن المصلحة الاقتصادية تفرض تنفيذها.
تعكس أزمة صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل التداخل العميق بين السياسة والطاقة في الشرق الأوسط، إذ يمكن لاعتبارات سياسية أن تعطل اتفاقات اقتصادية ضخمة.
وتوضح أيضًا أن مصر تمتلك القدرة على مواجهة أي تحديات خارجية بفضل تنويع مصادر الطاقة وبنيتها التحتية القوية.
في المقابل، تُظهر الأزمة هشاشة مواقف إسرائيل عندما تتعارض المصالح الاقتصادية مع الضغوط السياسية، رغم أهمية الغاز كمورد استراتيجي.
وبالنظر إلى الدور الأمريكي، يتضح أن مصالح الشركات الكبرى تؤثر على قرارات الحكومات الإقليمية، وأن الطاقة تحولت إلى أداة ضغط سياسية واقتصادية متشابكة.
اقرأ كذلك: لماذا أوقفت إسرائيل الحرب على إيران قبل تحقيق أهدافها؟




