كيف تؤثر عودة اللاجئين السوريين في تركيا على الاقتصاد؟
التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم على سوق العمل والاستثمارات التركية
كيف تؤثر عودة اللاجئين السوريين في تركيا على الاقتصاد؟ إسطنبول – مع ظهور بوادر مرحلة جديدة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وإعلان الحكومة السورية المؤقتة عن توليها مهامها، بدأت معالم الاستقرار تلوح في الأفق. هذا التحول أعاد الأمل إلى ملايين اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، الذين كانوا قد هجروا وطنهم قسراً بسبب الظروف السياسية والأمنية في بلادهم. وفي ظل هذا الوضع، باتت العودة إلى الوطن خياراً محتملاً للعديد منهم.
في خطوة لافتة، بدأت الحكومة التركية بتقديم تسهيلات للراغبين في العودة، شملت فتح المعابر الحدودية وتيسير إجراءات الانتقال. هذا التطور أعاد قضية اللاجئين إلى صدارة المشهد السياسي والاقتصادي في تركيا. ومع تزايد الحديث عن هذه العودة، يبرز سؤال جوهري: كيف ستؤثر عودة اللاجئين السوريين على الاقتصاد التركي؟ هذا السؤال يتطلب دراسة مفصلة للتأثيرات المحتملة على القطاعات الاقتصادية المختلفة في تركيا.
أرقام ودلالات
في هذا السياق، أوضح وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، في تصريحاته يوم الثلاثاء الماضي، أن تركيا رفعت القدرة الاستيعابية اليومية للمعابر الحدودية مع سوريا من 3 آلاف شخص إلى ما بين 15 ألفاً و20 ألف شخص يومياً، وذلك لتلبية الطلب المتزايد على العودة الطوعية للسوريين. وهو ما يعكس الجهود التركية في تسهيل العودة وضمان عملية انتقال آمنة للسوريين.
كما أكد الوزير أن العام الحالي شهد عودة نحو 11 ألف سوري شهرياً من تركيا إلى بلادهم. وأضاف أن إجمالي عدد السوريين الذين عادوا طوعاً منذ عام 2016 وحتى الآن بلغ نحو 737 ألف شخص. ويعكس هذا العدد التصاعدي للعودة حجم التأثير الذي قد تتركه هذه العودة على الاقتصاد التركي، خاصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة السورية.
وفقاً لإحصاءات إدارة الهجرة التركية الصادرة في ديسمبر 2024، بلغ عدد السوريين المقيمين في تركيا تحت بند “الحماية المؤقتة” نحو 2 مليون و936 ألفاً و369 شخصاً. يُعد هؤلاء جزءاً مهماً من سوق العمل التركي، حيث يعملون في مختلف القطاعات الاقتصادية، من الزراعة إلى الصناعة وصولاً إلى البناء.
العمالة السورية في تركيا
السوريون يشكلون نسبة كبيرة من العمالة في تركيا، ويتركزون في قطاعات الزراعة والصناعة والإنشاءات. حسب بيانات وزارة العمل التركية، يبلغ عدد العمال السوريين المسجلين رسمياً نحو 100 ألف عامل. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن عدد الذين يعملون بشكل غير نظامي قد يصل إلى 500 ألف عامل، أي أن هناك عدداً كبيراً من السوريين الذين يعملون من دون الحصول على حقوقهم الكاملة مثل التأمين الاجتماعي والمستحقات القانونية.
العمالة السورية لها تأثير كبير في القطاعات التي تعتمد على العمل اليدوي. على سبيل المثال، في قطاع الزراعة، كان السوريون يشكلون نسبة كبيرة من العاملين، حيث عملوا في محاصيل الزراعة الموسمية وفي أعمال تتطلب جهدًا بدنيًا عاليًا. وفي قطاع البناء، كان للسوريين دور بارز في تنفيذ المشاريع الكبرى والصغرى، مما ساهم في تلبية الطلب على هذه القطاعات.
الاستثمارات السورية في تركيا
منذ عام 2010، بلغ عدد الشركات السورية المسجلة في تركيا أكثر من 10 آلاف و332 شركة، برأس مال إجمالي يقارب 632 مليون دولار، وفقاً لبيانات اتحاد غرف وبورصات السلع التركية لعام 2023. تُظهر هذه الأرقام أهمية الاستثمارات السورية في دعم الاقتصاد التركي. تركزت الاستثمارات السورية بشكل رئيسي في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مثل المطاعم والمحلات التجارية والخدمات. وفي بعض المناطق مثل غازي عنتاب، قدرت بعض التقارير حجم الاستثمارات بين مليار وخمسة مليارات دولار، في حين تشير تقديرات أوسع إلى أن إجمالي الاستثمارات السورية في تركيا قد تجاوز 10 مليارات دولار.
ساهمت هذه الاستثمارات بشكل كبير في تحريك السوق المحلية وزيادة النمو الاقتصادي في بعض المناطق التركية. وفقاً لتقرير صادر عن غرفة تجارة إسطنبول، بلغت مساهمة الاستثمارات السورية في النمو الاقتصادي نحو 27.2 مليار ليرة تركية في نهاية عام 2017، وهو ما يمثل 1.96% من إجمالي الناتج المحلي التركي. من المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 4.05% بحلول عام 2028، وهو ما يعكس أهمية الاستثمارات السورية في دعم الاقتصاد التركي على المدى الطويل.
فرصة اقتصادية
في الفترة الأخيرة، شهدت أسهم شركات البناء التركية، خاصة في قطاعي الإسمنت والصلب، ارتفاعاً ملحوظاً. هذا الارتفاع كان مدفوعاً بتوقعات بأن هذه الشركات ستكون في وضع جيد للاستفادة من فرص إعادة إعمار سوريا في المستقبل. أكد فاتح يوجيليك، رئيس جمعية شركات الإسمنت التركية، أن القطاع جاهز للتكيف مع متطلبات هذه المرحلة، سواء من حيث تزويد المواد أو تنفيذ مشاريع البناء الكبرى التي ستكون ضرورية في مرحلة ما بعد النزاع.
وفي هذا السياق، شدد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على التزام تركيا بضمان “عودة السوريين الطوعية” وقيادة جهود إعادة الإعمار في سوريا. كما أشار إلى أن تركيا ستسعى للاستفادة من الخبرات والموارد التي لديها في قطاع البناء والمقاولات في مشاريع إعادة الإعمار التي ستتم بالشراكة مع المجتمع الدولي.
التأثيرات على سوق العمل التركي
في دراسة نشرها البنك الدولي في نهاية 2022، قدرت الأضرار التي لحقت بالمدن والصناعات السورية منذ اندلاع النزاع في 2011 بنحو 11.4 مليار دولار، ما يعكس حجم الفرص الاقتصادية الهائلة أمام الشركات التركية التي تتمتع بخبرة واسعة في قطاع البناء. وبالتالي، فإن مشاريع إعادة الإعمار السورية قد تفتح أبواباً جديدة للشركات التركية، وتساهم في تعزيز الاقتصاد التركي على المدى الطويل.
من جهة أخرى، يقول رئيس غرفة العقارات في إسطنبول، نظام الدين آشا، إن وجود عدد كبير من السوريين كان سبباً رئيسياً في ارتفاع الإيجارات بسبب زيادة الطلب على السكن. ومع بدء عودتهم إلى بلادهم، توقع أن تسهم هذه العودة في خفض تدريجي للإيجارات على المدى المتوسط. كما أشار مستشار العقارات سلجوق هيجدورماز إلى أن بيع السوريين لعقاراتهم قد يؤدي إلى انخفاض إضافي في أسعار العقارات والإيجارات في بعض المناطق.
تغييرات عميقة على المشهد الاقتصادي والاجتماعي
توقع الباحث الاقتصادي عثمان إيبيك أن التحولات السياسية الجارية في سوريا، وخاصة بدء الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار المدعومة دولياً، ستدفع نحو عودة تدريجية لشريحة كبيرة من السوريين المقيمين في تركيا. هذه العودة ستؤثر بشكل عميق على المشهد الاقتصادي والاجتماعي في تركيا.
وأوضح إيبيك أن اللاجئين السوريين لعبوا دوراً مهماً في الاقتصاد التركي خلال السنوات الماضية. حيث ساهمت استثماراتهم في تحريك السوق المحلية، خصوصاً في قطاعي العقارات والتجارة. في المقابل، انخرط كثيرون منهم في أعمال تعتمد على الجهد اليدوي مثل الزراعة والإنشاءات. مما ساعد في تلبية الطلب في قطاعات تتطلب عمالة رخيصة.
عودة السوريين وتأثيرها على سوق العمل
مع تحسن الأوضاع في سوريا، يتوقع الباحثون أن تبدأ مشاريع إعادة الإعمار على نطاق واسع. بتمويل من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذه المشاريع ستوفر فرص عمل برواتب مجزية مقارنة بما يحصل عليه السوريون حالياً في تركيا. ما قد يجعل خيار العودة أكثر جذبا للكثير من العمالة السورية.
وأكد إيبيك أن عودة السوريين ستترك أثراً واضحاً على سوق العمل التركي. حيث ستؤدي إلى نقص كبير في العمالة. هذا قد يضع تحديات أمام الشركات التركية التي ستضطر إلى رفع أجور العمالة المحلية أو استقدام عمالة أجنبية بتكاليف أعلى. ما سيزيد من الأعباء التشغيلية على الشركات ويؤثر في أسعار المنتجات والخدمات.
المستثمرون السوريون ومصير استثماراتهم
من جانب آخر، أشار إيبيك إلى أن بعض المستثمرين السوريين قد يعيدون توجيه استثماراتهم نحو السوق السوري. خاصة مع الفرص المرتبطة بإعادة الإعمار. بينما سيحتفظ آخرون بمشاريعهم في تركيا كما هي من دون توسع، مع توجههم نحو سوريا. هذا قد يؤدي إلى تحولات كبيرة في الاقتصاد التركي. خاصة في المناطق التي تعتمد على الاستثمارات السورية.
أضاف إيبيك أيضاً أن عودة السوريين ستسهم في تقليص النفقات الحكومية المخصصة للرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والمساعدات الإنسانية. مما سيخفف من الأعباء المالية على الموازنة العامة للدولة.
التأثيرات على القطاعات الاقتصادية
من جانبه، أوضح الباحث الاقتصادي بجامعة حجي بيرم، حقي إيرول جون. أن عودة العمال السوريين قد تؤدي إلى انخفاض في اليد العاملة الماهرة. مما يسبب ضعف الإنتاج وتراجع العرض. وبالتالي ارتفاع الأسعار. كما أشار إلى أن الشركات التي تعتمد على العمالة منخفضة التكاليف قد تواجه انخفاضاً في الأرباح وصعوبة في الحفاظ على تنافسية الأسعار.
ومع ذلك. يرى جون أن هذه العودة قد تساهم في خفض البطالة في تركيا إذا تمكنت الحكومة من جذب الشباب الأتراك للعمل في الوظائف التي كان يشغلها السوريون.
اقرأ كذلك :ضغوط أوروبية على أوكرانيا للتفاوض مع روسيا وفقاً لإعلام أميركي