مدونات

المقامرة النووية بين روسيا وأمريكا: اللحظة التي كادت تغيّر مصير العالم وتعود اليوم بثوب جديد

من أزمة الصواريخ الكوبية إلى حرب أوكرانيا. كيف يعيد التاريخ لعبة الأعصاب ذاتها.

المقامرة النووية بين روسيا وأمريكا: اللحظة التي كادت تغيّر مصير العالم وتعود اليوم بثوب جديد … قبل أكثر من مئة وخمسين عامًا. كتب فيودور دوستويفسكي جملة صغيرة. لكنها حملت معنى عميقًا. ظهرت الجملة في رواية المقامر. وجاءت لوصف مزاج روسي خاص.

كان دوستويفسكي يتحدث عن اندفاعٍ غريب. وكان يقصد ميلًا للمواجهة المباشرة مع المصير. ولم يكن يحب الخطط الطويلة المعقّدة.

كان بطله ألكسي إيفانوفيتش صورة لهذا المزاج. فإذا تورّط اندفع إلى النهاية. وإذا لعب راهن على كل شيء. ولم يعرف التوقف في منتصف الطريق.

هذه الصورة تبدو أدبية في ظاهرها. لكن أثرها تجاوز الأدب. ثم تحوّلت إلى مفتاح لفهم سلوك دولة كاملة.

لذلك رأى كثير من المحللين صدى هذا المزاج في السياسة الروسية. وامتد هذا الصدى عبر قرون طويلة. ثم ظهر مع القياصرة. وبعدها مع الاتحاد السوفياتي. ثم تجلّى في الحرب الباردة.

وأخيرًا ظهر في أخطر مقامرة شهدها القرن العشرون. وهي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.

أولى خطوات المقامرة النووية

في صيف ذلك العام. كان الجنرال السوفياتي إيغور ستاتسينكو يحلّق فوق كوبا. وكان يتفقد مواقع نشر الصواريخ النووية.

وكان قد سمع كلامًا مطمئنًا من قائده. قال له إن نخيل كوبا يخفي المنصات. ولذلك لن تراها الطائرات الأمريكية.

لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. عندما نظر من الجو. رأى فراغات واسعة بين الأشجار. ورأى الأرض مكشوفة بوضوح.

وكانت المسافات بين الأشجار تقارب خمسة عشر مترًا. لذلك فهم أن التمويه مستحيل. وفهم أن الطائرات الأمريكية سترى كل شيء بسهولة.

لهذا السبب. أرسل تحذيرًا واضحًا إلى قيادته. وأكّد أن الخطة فاشلة. وأن الأميركيين سيكتشفون المواقع.

لكن هذا التحذير لم يصل إلى القمة. ولم يصل إلى نيكيتا خروتشوف. فقد كان الرجل متمسكًا بخطته. وكان أسيرًا لقناعته الشخصية.

ومع مرور الأسابيع. التقطت طائرة تجسس أمريكية صورًا واضحة. وحدث ذلك في أكتوبر.

وهنا دخل العالم في أخطر لحظة. اقترب شبح الحرب النووية. ووقفت واشنطن وموسكو على حافة الهاوية.

لكن خروتشوف تراجع في اللحظة الأخيرة. ثم توصل إلى اتفاق مع الرئيس كينيدي. وتم سحب الصواريخ. مقابل تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا.

وهكذا نجا العالم من كارثة محققة. لكن شبح المقامرة لم يختفِ.

عودة شبح المقامرة النووية

اليوم. تعود تلك اللحظات إلى الواجهة. ولكن بثوب مختلف. وبساحة جديدة هي أوكرانيا.

تخوض موسكو وواشنطن حربًا غير مباشرة هناك. وتتشابه الظروف بشكل لافت. لذلك يعتقد كثيرون أن التاريخ يعيد نفس الأنماط.

وكما يقول المؤرخون. التاريخ لا يكرر نفسه حرفيًا. لكنه يعيد إنتاج نفسه حين تتشابه الظروف.

كييف اليوم تشبه نخيل كوبا قديمًا. فهي رمز للعمى الإستراتيجي. وهي صورة للرهان الخاطئ.

الخطر اليوم لا يكمن في السلاح فقط. بل يكمن في منطق المقامرة ذاته. ويكمن في الغرور السياسي. وفي الثقة المفرطة.

ويكمن أيضًا في فكرة أن التراجع ضعف. وأن الانسحاب خيانة للصورة والمكانة.

لكن التاريخ يقدم درسًا واضحًا. فحين رأى خروتشوف خطر المجهول. عاد إلى الرشد. ولذلك أنقذ العالم.

وهذا يكشف حقيقة مهمة. الروس يندفعون. نعم. لكنهم يحسبون النتائج حين يصلون للحافة.

وهكذا تمتزج المغامرة بالحساب البارد. وتختلط الجرأة بالخوف من المجهول.

كيف يرى الغرب السلوك الروسي؟

يفسّر الغرب هذا السلوك غالبًا باعتباره تهورًا. ويصفه أحيانًا بعدم العقلانية.

ويربطه بطبيعة النظام السياسي في روسيا. ويقول إن السلطة تتركز بيد شخص واحد. وإن آليات المحاسبة ضعيفة.

لكن هذه الرؤية ناقصة. لأن المقامرة عند موسكو ليست فوضى بالكامل. بل هي جزء من عقيدة سياسية وعسكرية.

ومقامرة خروتشوف كانت نتيجة انفعالات شخصية. نعم. لكنها كانت أيضًا نتيجة حسابات استراتيجية.

فقد شعر الرجل بإهانة عميقة. وشعر بضغط سياسي كبير من واشنطن.

وخاصة بعد أزمة برلين. وبعد نشر أمريكا صواريخ في تركيا وإيطاليا.

فشعر بأن بلاده محاصرة. لذلك بحث عن ضربة تعيد التوازن. فاختار كوبا.

ثم تضافر الخوف مع الطموح. وتضافرت الرغبة في الرد مع الغضب الداخلي.

العامل الصيني الخفي

هناك عامل آخر لم يكن ظاهرًا آنذاك. وهو العامل الصيني.

فبعد الخلاف الأيديولوجي بين موسكو وبكين. بدأ كاسترو يميل إلى الصين.

وهاجم السوفيات علنًا بسبب ما اعتبره ضعفًا ثوريًا.

لذلك خشي خروتشوف من خسارة كوبا. وخشي أن تتحول من حليف إلى تابع لبكين.

لذلك سارع في نشر الصواريخ. وكان يريد أن يربط كوبا به بقوة.

وهكذا تحولت المقامرة إلى مشروع متعدد الأهداف. رد على أمريكا. وحماية لكاسترو. ورسالة لبكين.

لكن المشكلة كانت في طريقة اتخاذ القرار. فقد تم في دائرة ضيقة جدًا.

تم استبعاد النقد. وتم إسكات المتشككين.

حتى إن خبيرًا حذّر من فشل التمويه. لكن وزير الدفاع أسكته جسديًا تحت الطاولة.

وهذا المشهد يلخّص أزمة داخلية. ويوضح كيف تُدفن الحقيقة داخل أنظمة مغلقة.

البيروقراطية التي خدعت القيادة

لم تتوقف الأخطاء عند هذا الحد. بل استمرت البيروقراطية في تقديم صورة وردية.

رفعت تقارير مزيفة إلى خروتشوف. وأكدت أن كل شيء على ما يرام.

بينما كانت المنصات تعاني مشاكل تقنية. وكانت الإمدادات متقطعة. وكانت الاتصالات ضعيفة.

لكن الحقيقة لم تصل إلى القمة. وهكذا تعيش القيادة في وهم. بينما الواقع ينهار.

وهذا النمط لا يزال يتكرر اليوم.

من كوبا إلى أوكرانيا

يشير صحفيون غربيون إلى نمط مشابه في الحرب على أوكرانيا.

تم اتخاذ القرار داخل حلقة ضيقة. دون نقاش مؤسسي حقيقي.

ثم قُدّمت تقارير مضللة للرئيس بوتين. وتصوّر الأمر على أنه نصر سريع وسهل.

حتى الجنود لم يعرفوا حقيقة مهمتهم. واعتقدوا أنهم في تدريبات.

ثم وجدوا أنفسهم في حرب حقيقية. وسط الدمار والدم.

وهكذا تكررت كذبة المناورات. وهي خدعة استخدمها خروتشوف أيضًا.

وهذا يدل على خلل عميق في بنية اتخاذ القرار.

الولاء بدل الكفاءة

اعتمد خروتشوف على شخصيات موالية. ولم يعتمد على ناقدين مستقلين.

وكذلك فعل بوتين. فقد أبعد الأصوات المعارضة على مدى سنوات.

ثم اعتمد على وزير دفاع ليست له خبرة عسكرية عميقة.

وهذا أدى إلى أخطاء قاتلة في التقدير. وزاد من عزلة القرار.

واستمرت الأكاذيب تُرفع إلى القمة. فقط للحفاظ على صورة النجاح.

لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا على الأرض.

عقلية المقامرة عند الزعماء

يوضح خبراء الأمن أن خروتشوف كان يرى السياسة كلعبة ورق.

وكان يرفع الرهان باستمرار. حتى آخر لحظة.

وبوتين يبدو أنه يتبع نفس النهج. فهو يستخدم التهديد النووي كورقة ضغط.

ويريد أن يقول للغرب. إن روسيا لن تتراجع بسهولة.

لكن هذه الذهنية خطيرة. لأنها تضع العالم على حافة النار.

وهنا يظهر جوهر المقامرة النووية بكل وضوح.

هل الروس غير عقلانيين؟

الجواب الصحيح هو: لا.

صحيح أنهم يغامرون كثيرًا. لكنهم يفعلون ذلك ضمن تصور خاص للأمن.

إنهم يعيشون دائمًا شعور الحصار. ويشعرون بأن الأعداء يطوقونهم.

هذا الشعور تشكّل تاريخيًا عبر الغزوات الكبرى. من المغول. إلى نابليون. إلى هتلر.

لذلك نشأت كتب ونظريات عن “القلعة المحاصرة”. وهي جزء من العقل الروسي.

وهكذا تبرّر موسكو خطواتها العدوانية أحيانًا. على أنها دفاع استباقي.

وهنا نفهم لماذا تصبح المقامرة النووية خيارًا مطروحًا داخل العقل السياسي الروسي.

فهي ليست جنونًا. بل هي انعكاس لخوف عميق.

اقرأ كذلك: هل الزوارق بدون قائد ستغير وجه الحرب البحرية بين روسيا وأوكرانيا والعالم مستقبلاً ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات