سوريا التي أربكت إسرائيل: قراءة في الجغرافيا السياسية وعواقب الثورة
من الثورة إلى الاستراتيجية: كيف غيّرت سوريا صراعها مع إسرائيل؟
منذ عقود، لعب الواقع الجيوسياسي السوري دورًا محوريًا في علاقات سوريا الإقليمية والدولية. يعتمد هذا الواقع على موقع البلاد الاستراتيجي وعلى ثقل تاريخي وسياسي لا يمكن تجاهله. علاوة على ذلك، فإن هذه الأهمية لا تنحصر في نظام الحكم الحالي أو السابق؛ فهي تتجاوز الحُكّام والأنظمة إلى ما هو أبعد.
فقد استفاد النظام السوري، حتى في عهد النظام السابق، من موقعه بين الأضداد. تمكّن من نسج تحالفات مع قوى مختلفة حسب المصلحة. في بعض الفترات، كان قريبًا من الولايات المتحدة الأمريكية. في أوقات أخرى، انضمّ إلى محور المقاومة والممانعة.
الجذور الاستراتيجية لعلاقات سوريا – إسرائيل
سوريا كانت دائمًا نقطة حسّاسة في الخريطة الإقليمية. الموقع الجغرافي جعلها جارة لإسرائيل من جهة وجسرًا إلى العالم العربي من جهة أخرى. هذا الموقف لم يكن سلبياً فحسب، بل مكّن دمشق من أن تكون لاعبًا مهما في الصراع مع تل أبيب.
من جهة أخرى، استخدم النظام السوري علاقاته الخارجية لتحقيق مكاسب أمنية وسياسية. إذ في فترات معينة، سمحت له واشنطن بأن يكون محاورًا مؤثرًا في لبنان. كما وقفت سوريا مع التحالف بعد غزو الكويت.
ومع بداية الألفية الجديدة، تغيّرت أولويات سوريا. لم تعد العملانية فقط هي المحرك، بل تبنّت دمشق دور المحور المقاوم. هذا التحول جاء مع تبنيها لمصطلح “محور المقاومة والممانعة”.
زيارة تاريخية أم صفقة سياسية؟
شكلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة نقطة تحوّل كبيرة. فهي أول زيارة لرئيس سوري إلى واشنطن. جاءت بعد رفع اسمه من قوائم الإرهاب. استُقبل في لحظة اقتصادية صعبة لسوريا، بسبب العقوبات المفروضة عبر قانون قيصر.
إلى جانب ذلك، دعمت الولايات المتحدة قوات قسد في مناطق استراتيجية، ما زاد من تعقيدات المشهد السوري. وتضاف إلى هذا اختراقات إسرائيلية متكرّرة للأراضي السورية، خاصة بعد سيطرتها على مرتفعات جبل الشيخ.
مع ذلك، ساد في الشارع السوري تفاؤل بأن قانون قيصر سيلغى. اعتقد البعض أن زوال العقوبات يعني بداية إعادة إعمار واسعة. ولكن الواقع أثبت خلاف ذلك. فقد استُخدم القانون وسيلة ضغط سياسي. ظل سيفًا مصلّتًا على السوريين.
فعلى الرغم من أن الهدف المعلن من القانون كان حماية المدنيين، إلا أنه أصبح عائقًا أمام إعادة الإعمار. إضافة إلى ذلك، استخدمه البعض كأداة ابتزاز للنظام الجديد.
الثورة السورية وموقف إسرائيل
منذ انطلاق الثورة السورية في مارس 2011، حافظت إسرائيل على موقف مختلف عن بقية الثورات العربية. لم تتبن موقفًا مؤازرًا وبسيطًا؛ بل كانت تحلل بدقة ما يجري في دمشق.
في عهد النظام السابق، ظلت الحدود مع إسرائيل هادئة رغم شعارات التصدي والصمود. كان النظام يعتمد على دعائم عسكرية وأمنية قوية، وكانت أذرع إيران في المنطقة تلقى دعما.
لكن مع الثورة تغيّرت المعادلة. فقد هشّت بنية النظام. هذا دفع إسرائيل إلى إعادة حساباتها. إنها وجدت نفسها أمام خيارين: إما دعم روح النظام القديم أو مواجهة دولة ضعيفة تمرّ بأزمة عميقة.
إسرائيل رأت أن سقوط النظام قد يفتح بابًا لدولة تحكمها الأقليات أو كيانات لا تسيطر على حدودها أو ثرواتها. ولذلك، بدأت تنظر إلى الثورة السورية ليس فقط كأزمة داخلية، بل كتهديد استراتيجي طويل الأمد.
التحالفات والمصالح الإسرائيلية
من ثم، سعت إسرائيل إلى لعب دور حيوي في سوريا ما بعد الثورة. دعمت ميول بعض الأقليات. قدمت نفسها كحامية للدروز والأكراد والعلويين إن رفضوا النظام الجديد.
في الوقت نفسه، رأت في الانقسام الداخلي فرصة لبسط نفوذها عبر مناطقة عازلة. هي تريد ضمان أمان حدودها من دون أن تتحمل عبء إدارة الأراضي السورية بالكامل.
غير أن هذه الخطة اصطدمت بعدة عقبات. أولًا، ليس لديها حدود مباشرة مع السويداء، وهي منطقة يطمح البعض فيها إلى انفصال. ثانيًا، لا يمثل موقف بعض الزعامات الطائفية المواقف العامة للأقليات الجماعية.
التدخل الدولي والصمت الإسرائيلي
على الرغم من ضجيج الحرب السورية، حدث تدخل روسي مباشر لدعم النظام. ذُكرت تقارير تقول إن موسكو دخلت بناءً على طلبات إٍسرائيلية. هذا ما تردّد في وسائل إعلام إسرائيلية قبل تدخل موسكو العسكري الرسمي.
من جهة أخرى، سمحت الولايات المتحدة لدخول روسيا في سوريا. هذا القرار أثار دهشة الكثيرين، لأنه جاء في سياق ما وصفه البعض بأنه صفقة كبرى لإدارة الصراع السوري.
وقد كشف مسؤولون أميركيون سابقون أن واشنطن لم تسعَ إلى إسقاط النظام فورًا. بل رغبت في الحفاظ على دولة وطنية علمانية، حتى لو بقي النظام الحالي.
السقوط المفاجئ والانتصار الثوري
في 8 ديسمبر 2024، أعلنت الثورة السورية إسقاط النظام. هذا الخبر صدم الكثيرين في المنطقة. إسرائيل لم تتجاهل هذا التطور.
سرعان ما تحرّكت تل أبيب. شنّت غارات مكثفة لتدمير الأسلحة النوعية السورية حتى لا تصل إلى أيدي الثوار. كما هدفت إلى منع انتقال قوة كبيرة قد تهدّد أمنها.
إلى جانب ذلك، بدأت إسرائيل بإعادة رسم الواقع الجغرافي. أعلنت تخلّيها رسميًا عن اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974. بدأت بمحاولات لخلق مناطق نفوذ في جنوب سوريا.
التحديات في إقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا
إسرائيل وضعت خطة لإنشاء منطقة عازلة في الجنوب السوري. رأتها وسيلة لحماية حدودها من أي تهديد محتمل في المستقبل.
لكن الخطة لم تمر بسهولة. أولًا، ترغب تل أبيب في استمالة بعض الأقليات المحلية. دعت العلويين والدروز إلى تحالف سياسي وعسكري.
ثانيًا، هدّدت بالتدخل إذا حاولت الدولة الجديدة بسط نفوذها على مناطق مثل السويداء.
غير أن دمشق ردّت بعنف واضح. قالت إنها لا تسعى للحرب. بل تطالب بانسحاب إسرائيلي كامل وإعادة اتفاقية 1974 إلى الواجهة.
المستقبل والعلاقة السورية – الإسرائيلية بعد الثورة في سوريا
مع سقوط النظام، تبدو العلاقة بين دمشق وتل أبيب في مفترق طرق. إسرائيل لا تخفي رغبتها في إقامة نفوذ استراتيجي داخل جنوب سوريا.
في المقابل، ترفض سوريّة الثورة أي شكل من أشكال التطبيع. وقد عبّر الرئيس الشرع بوضوح عن هذا الموقف: التطبيع ليس مطروحًا الآن.
كما ترفض دمشق تحت أي ظرف استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان. تعتبره أرضًا سورية تحتلّها إسرائيل منذ عام 1967.
بالتالي، فإن أي تخطيط إسرائيلي لإقامة “قوس درزي” أو منطقة نفوذ طائفي يجب أن يواجه رفضًا سياسيًا وشعبيًا كبيرًا.
تداعيات الجغرافيا السياسية على إعادة الإعمار في سوريا
واقع الجغرافيا السياسية السوري يمثل تحديًا كبيرًا لأي خطة إعادة إعمار. فوجود قوى أجنبية واقلية داخل سوريا يعرّض المشاريع للبلبلة.
إضافة إلى ذلك، تفرض إسرائيل دورًا مركزيًا في الجنوب. وهذا يطيل أمد المفاوضات. كما يزيد من تكلفة إعادة بناء البنية التحتية.
من جهة أخرى، فإن النظام الثوري ربما يسعى إلى توسيع صلاحيات الدولة والمركز الوطني. هذا من شأنه أن يثير مخاوف لدى إسرائيل وبعض الحلفاء الإقليميين.
دروس من التاريخ والاستراتيجية
قصة سوريا تعلّم أن الجغرافيا السياسية ليست مجرد خطوط على خريطة. هي أيضاً قوة قادرة على صنع التحالفات أو إشعال الصراعات.
إسرائيل، رغم قوتها العسكرية، لا تستطيع تجاهل عمق التعقيد السوري. فهي تواجه شعبًا ثوريًا عازمًا ودولة جديدة تصرّ على استعادة سيادتها وثرواتها.
من جهة أخرى، تعلم دمشق أن الثورة لا تنتهي بانتصارها فقط. الحفاظ على الاستقرار الوطني يتطلّب بناء دولة قادرة على التفاوض والتعامل مع الخارج.
سوريا التي أربكت إسرائيل ليست قصة بسيطة. هي ملحمة جيو-سياسية تمتد عبر التاريخ.
ثورة 2024 وضعت نهاية لنظام، لكنها فتحت بوابة جديدة للصراع.
إسرائيل تحاول إعادة رسم نفوذها عبر الجنوب.
في المقابل، تسعى الدولة السورية الجديدة إلى استعادة كامل سيادتها.
التحديات عديدة: من إعادة الإعمار إلى بناء مؤسسات وطنية قادرة على الصمود.
كلمة السيو “سوريا وإسرائيل الجغرافيا السياسية” تعكس أهمية هذا الصراع المعقّد.
إذا أُريد تحليل مستقبل هذا الصراع بدقة، فلا بد من مراقبة تحوّلات الداخل السوري وتحركات القوى الإقليمية.
اقرأ كذلك: سوريا الجديدة أمام اختبار النزاهة… هل تنجح الإدارة الانتقالية في تفكيك إرث الفساد؟