مدونات

تراجع الغرب وضعف البروتستانتية: مؤرخ فرنسي يسلط الضوء على تنبؤاته المتقدمة بسقوط الولايات المتحدة

تراجع الغرب وضعف البروتستانتية: مؤرخ فرنسي يسلط الضوء على تنبؤاته المتقدمة بسقوط الولايات المتحدة … إيمانويل تود، المؤرخ والأنثروبولوجي وعالم الاجتماع والمحلل السياسي الفرنسي. يظل شخصية بارزة ونادرة تبرز بإنتاجها الفكري الغزير. ويمثل أحد الأعمدة القلائل للتفكير المبني على الحقائق والبيانات في المدرسة الفرنسية التقليدية.

يشتهر تود برؤيته الاستراتيجية الحادة، حيث توقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه المشهور “السقوط النهائي”. الصادر عام 1976. استناداً إلى نظريته حول “أنساق القرابة الأسرية” وإحصائيات وفيات الأطفال الرضع في الاتحاد السوفياتي.

وفيما بعد، صدر لتود كتاب بعنوان “ما بعد الإمبراطورية” في عام 2001. حيث قدم حججه المؤيدة لانحسار نفوذ الولايات المتحدة كقوة عالمية. بالرغم من ادعاءات نجاحها الكبير بسقوط الاتحاد السوفياتي.

هزيمة الغرب: تحليل إيمانويل تود

أهمية طروحات تود تكمن في استخدامه العوامل الثقافية لرصد المعطيات الجيوسياسية. بدلاً من الاعتماد على نموذج صراع القوة المهيمن في دراساته الاستراتيجية.

في يناير 2024، صدر كتاب جديد لتود بعنوان “هزيمة الغرب”، أثار جدلاً واسعاً. حيث يستعرض تود قراءته للنظام الدولي الجديد في ضوء الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ سنتين.

تركز تود في كتابه على الأسباب الرئيسية لسقوط الغرب. مثل نهاية الدولة القومية وتراجع التصنيع الذي أدى إلى عجز حلف شمال الأطلسي في إنتاج الأسلحة اللازمة لأوكرانيا.

كما يسلط الضوء على تدهور المصفوفة الدينية الغربية، خاصة البروتستانتية. والزيادة الملحوظة في معدلات الوفيات في الولايات المتحدة مقارنة بروسيا. بالإضافة إلى تزايد حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية والهوس بالحروب الأبدية.

الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: تحليل ماكس فيبر

إذا كان كارل ماركس هو فيلسوف الاشتراكية الأول، فماكس فيبر هو فيلسوف الرأسمالية. حيث استقصى علاقة البروتستانتية بتطور الرأسمالية، خاصة في الولايات المتحدة. ووجد ترابطًا قويًا بين أخلاق الانضباط والعمل ونشأة الرأسمال.

تبنت البروتستانتية قيم الاجتهاد والتقشف والادخار، مما دعم تكوين الرأسمال وتوسعه. وهذا الارتباط كان مرتبطًا بروح الرأسمالية المبكرة. خاصة في المجتمعات الأوروبية الكبرى التي هاجرت واستوطنت المستعمرات بحثًا عن الحرية الدينية والاقتصادية.

لكن الأزمة الرأسمالية الحالية، خاصة النيوليبرالية الأمريكية، لم تعد تستند إلى الانضباط الاستهلاكي. بل تعتمد على تعظيم الاستهلاك والاقتراض المفرط، مما أدى إلى تفاقم المديونية وانخفاض المدخرات.

هكذا، تلاشت البروتستانتية وقيمها التي ساهمت في صعود العالم الأنغلو-أميركي.

انهيار البروتستانتية: تحليل إيمانويل تود

يعزو تود الانحدار الغربي إلى “تبخر” قيم البروتستانتية. ويسلط الضوء على “قيم العمل والانضباط الاجتماعي” التي تجسدت في هذا الفرع المسيحي. مع اعتبارها عنصرًا أساسيًا في صعود “العالم الأنغلو-أميركي”.

ويرى أن “تبخر البروتستانتية في أميركا وبريطانيا والعالم البروتستانتي أدى إلى اختفاء ما يمثل قوة الغرب وخصوصيته، وأن المتغير المركزي يكمن في الديناميات الدينية”.

الانهيار التدريجي للثقافة البيضاء الأنغلوسكسونية البروتستانتية أدى إلى “إمبراطورية محرومة من مركز ومشروع ومعنى، تكون كائنًا عسكريًا في الأساس يديره مجموعة بلا ثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي)”، كما يصف تود المحافظين الجدد في أميركا.

ويصل تود إلى جوهر حجته، إعادة تفسيره لنظرية ما بعد ماكس فيبر حول الأخلاق البروتستانتية وعلاقتها بروح الرأسمالية. حيث يعتبر كتاب فيبر “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” -الذي نُشر منذ أكثر من قرن (1904-1905)- كمصدر أساسي لفهم “مصفوفة صعود الغرب البروتستانتي، فموت البروتستانتية اليوم هو سبب التفكك والهزيمة”.

ركائز الغرب: تحليل إيمانويل تود

يحدد تود بوضوح كيف كانت “الثورة المجيدة” الإنجليزية عام 1688 وإعلان الاستقلال الأميركي عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789 الركائز الحقيقية للغرب الليبرالي. وبالتالي فإن “الغرب” الموسع ليس “ليبراليا” تاريخياً. لأنه هندس أيضاً “الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والنزعة العسكرية اليابانية”.

ويبرز تود كيف فرضت البروتستانتية معرفة القراءة والكتابة الشاملة على السكان الذين تسيطر عليهم “لأنه يجب على جميع المؤمنين الوصول مباشرة إلى الكتاب المقدس، السكان المتعلمون قادرون على التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، لقد صاغ الدين البروتستانتي بالصدفة قوة عاملة متفوقة وفعالة”. وبهذا المعنى كانت ألمانيا “في قلب التنمية الغربية” حتى لو حدثت الثورة الصناعية في إنجلترا.

وقد وجد تود أوجه تشابه بين التاريخ الثقافي للبلاد وتاريخ الغرب البروتستانتي. وقال “إن المشترك بين البروتستانتية والشيوعية هو الهوس بالتعليم”. مضيفاً “لقد طورت الشيوعية -التي تأسست في أوروبا الشرقية- طبقات وسطى جديدة”. حيث العامل الحاسم في صعود الغرب هو ارتباط البروتستانتية بالأبجدية، بحسب تود.

وعلاوة على ذلك، يؤكد تود أن البروتستانتية تقع مرتين في قلب تاريخ الغرب: من خلال الدافع التعليمي والاقتصادي. مع الخوف من اللعنة الإلهية والسعي نحو الخلاص والحاجة للشعور بالاصطفاء الإلهي. مما يولّد أخلاقيات عمل منضبطة وأخلاقية جماعية قوية، ومن خلال فكرة أن البشر غير متساوين (عبء الرجل الأبيض).

ولم يكن لانهيار البروتستانتية إلا أن يدمر أخلاقيات العمل لصالح الجشع الجماعي، أي النيوليبرالية (الجديدة).

التحول الجنسي: تحليل إيمانويل تود

يبدو نقد تود الحاد لروح الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968 مستحقًا لكتاب جديد تمامًا. يشير إلى أن “أحد الأوهام الكبرى في الستينيات والمشتركة بين الثورة الجنسية الأنغلو-أميركية وثورة مايو/أيار 1968 الطلابية في فرنسا الاعتقاد بأن الفرد سيكون أعظم إذا تحرر من الجماعة”.

وأدى ذلك إلى كارثة حتمية، بحسب تود الذي يقول “الآن بعد أن تحررنا بشكل جماعي من المعتقدات الميتافيزيقية. التأسيسية والمشتقة، الشيوعية أو الاشتراكية أو القومية فإننا نعيش تجربة الفراغ”. ويكمل “هكذا أصبحنا عددا كبيرا من الأقزام المقلدين الذين لا يجرؤون على التفكير بمفردهم. لكنهم يظهرون أنهم قادرون على التعصب مثل المؤمنين في العصور القديمة”.

إن تحليل تود الموجز للمعنى الأعمق للتحول الجنسي يحطم تماما الحملات الداعية إلى حرية التحول الجنسي. من أميركا إلى أوروبا. وسيثير نوبات غضب متسلسلة، إذ يرى أن التحول الجنسي هو “إحدى رايات هذه العدمية المحددة للغرب الآن. وهذا الدافع لتدمير ليس الأشياء والبشر فحسب، بل الواقع أيضا”.

وهنا فائدة تحليلية إضافية لتود، إذ “تقول أيديولوجية التحول الجنسي إن الرجل قد يصبح امرأة، والمرأة قد تصبح رجلا. وهذا تأكيد كاذب، وبهذا المعنى قريب من القلب النظري للعدمية الغربية”. ويزداد الأمر سوءا عندما يتعلق الأمر بالتداعيات الجيوسياسية.

وبالترادف مع العديد من المحللين في روسيا والصين وإيران وبين المستقلين في أوروبا يبدو تود على يقين من أن هوس الولايات المتحدة -منذ التسعينيات. بقطع ألمانيا عن روسيا سيؤدي إلى الفشل، ويقول “عاجلا أم آجلا سوف تتعاونان حيث إن “تخصصاتهما الاقتصادية تحدد أنهما متكاملتان”. ويقول إن الهزيمة في أوكرانيا سوف تفتح الطريق لذلك. حيث تعمل “قوة الجاذبية” على إغواء ألمانيا وروسيا بشكل متبادل.

وعلى عكس أي “محلل” غربي تقريبا في محيط بلدان حلف الناتو يرى تود أن موسكو في طريقها للفوز على حلف شمال الأطلسي بأكمله، وليس فقط أوكرانيا. مستفيدة من نافذة الفرصة التي حددها بوتين أوائل 2022.

ويراهن تود على نافذة زمنية مدتها 5 سنوات، أي أن نهاية اللعبة ستكون عام 2027 كما يقول. ومن المفيد مقارنة ذلك بتقدير وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كما ذكر العام الماضي “ستنتهي العملية العسكرية الخاصة في عام 2025”.

اقرأ كذلك: قضية إبستين .. تورط سياسيين وأثرياء أمريكيين وإسرائيليين وفضائح بالجملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات