أوروبا على صفيح ساخن: صراع سياسي يهدد الديمقراطية ويعيد تشكيل التحالفات
أزمة متصاعدة تهدد استقرار أوروبا والعالم
أوروبا على صفيح ساخن: صراع سياسي يهدد الديمقراطية ويعيد تشكيل التحالفات … بينما تتجه الأنظار إلى الأحداث المتلاحقة في البيت الأبيض، هناك تطورات أكثر خطورة تجري على الساحة الأوروبية. في ميونخ، وعلى منصة القاعة الكبرى بفندق “بايرشه هوف”، ألقى جي دي فانس، نائب الرئيس الأمريكي، خطابًا أثار الجدل وأعاد رسم ملامح السياسة الأمريكية تجاه أوروبا.
لم يكن حديثه مجرد كلمات دبلوماسية، بل كان رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة في عهدها الجديد تتجه إلى تبني نهج مختلف تمامًا. انتقد فانس الديمقراطية الأوروبية واتهمها بـ”كمّ الأفواه”، مؤكدًا أن الناخبين الأوروبيين لم يفوضوا حكوماتهم لتفتح أبواب الهجرة على مصراعيها.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد اختتم خطابه بعبارة تحمل دلالات ثقافية وسياسية عميقة في التاريخ الأمريكي: “هناك شريف جديد في المدينة”، في إشارة إلى تغيير جذري في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا.
تصعيد أوروبي وردود فعل غاضبة
لم يمر هذا الخطاب دون رد فعل قوي من القادة الأوروبيين. فبعد لحظات من حديث فانس، صعد وزير الدفاع الألماني إلى المنصة ووصف كلماته بأنها “غير مقبولة”. وفي اليوم التالي، أكد المستشار الألماني أولاف شولتس أن بلاده لن تقبل بأي تدخل أجنبي في شؤونها الديمقراطية، مشددًا على أن السياسة الألمانية يحددها الألمان وحدهم.
يأتي هذا الرد في وقت تواجه فيه الديمقراطية الألمانية تحديات كبرى من اليمين المتطرف، حيث يحتل حزب البديل من أجل ألمانيا موقعًا متقدمًا في استطلاعات الرأي. تشير دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث عام 2024 إلى أن 26٪ من الرجال الألمان يؤيدون الحزب، وهو ما يثير قلق الأحزاب التقليدية التي تحاول تحجيم نفوذه وإقصائه من المشهد السياسي.
اليمين المتطرف في ألمانيا: صعود غير مسبوق
تشهد ألمانيا مواجهات حادة بين أحزاب الوسط وحزب البديل اليميني المتطرف، الذي يسعى إلى فرض أجندته القومية. وعلى الرغم من محاولات المستشار المحتمل فريدريش ميرتس دفع الحزب إلى هامش الحياة السياسية، إلا أن التقارب بين بعض أعضاء حزبه المسيحي الديمقراطي وحزب البديل خلال التصويت على قانون اللجوء أثار موجة من الجدل والانتقادات الحادة.
حتى الكنيسة، التي عادة ما تبتعد عن السياسة، لم تستطع التزام الصمت. فقد أبدت احتجاجها الصريح على أي تقارب بين الأحزاب التقليدية وحزب البديل. في سياق متصل، أعاد الناجي من المحرقة النازية فاينبيرغ وسام الشرف الألماني الذي حصل عليه سابقًا، مؤكدًا أن الأحداث الأخيرة أعادته إلى ذكريات عام 1933، عندما بدأ الحزب النازي في تحقيق أول نجاحاته السياسية.
إجراءات حكومية مشددة لمواجهة اليمين المتطرف
رد الفعل الحكومي الألماني كان حاسمًا. حيث وُضع حزب البديل بالكامل تحت مراقبة جهاز أمن الدولة في بعض الولايات الألمانية، وصُنف جناحه الشبابي على أنه كيان متطرف. وفي يونيو 2023، أصدرت وزارة الداخلية قرارًا بحظر مجلة “كومباكت”، المعروفة بخطابها المتطرف، مما أثار جدلًا واسعًا حول حرية الصحافة وحدود الديمقراطية.
لكن المحكمة الإدارية الفيدرالية قررت تعليق القرار، معتبرة أن هناك أدلة على انتهاك المجلة لكرامة الإنسان، إلا أن حرية الصحافة تبقى الأولوية، وفق ما نقلته وكالة رويترز.
هذه الإجراءات اعتبرها أنصار ترامب في الولايات المتحدة، ومن بينهم جي دي فانس، انتهاكًا لحرية التعبير، متهمين الحكومات الأوروبية بتقويض الديمقراطية التي تدّعي الدفاع عنها.
تحالفات مفاجئة: ترامب واليمين الأوروبي المتطرف
رغم أن حزب البديل الألماني يدعو منذ عام 2016 إلى طرد القوات الأمريكية من ألمانيا وإزالة الأسلحة النووية الأمريكية، إلا أن ذلك لم يمنعه من التحالف مع إدارة ترامب.
يبدو أن هذه العلاقة الجديدة مبنية على العداء المشترك للنظام الليبرالي التقليدي، أكثر من كونها تحالفًا استراتيجيًا. فحتى مع وعود ترامب بفرض رسوم جمركية على البضائع الأوروبية، إلا أن حزب البديل يرى في ترامب نموذجًا يجب الاقتداء به، خاصة مع تصاعد النزعة القومية في أوروبا.
الديمقراطية في مأزق: صعود الشعبوية والتطرف
أوروبا ليست وحدها التي تواجه صعود اليمين المتطرف، فبحسب استطلاع أجراه معهد الدراسات السياسية في باريس، فإن 60٪ من المشاركين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا لا يثقون بالمؤسسات السياسية.
هذا الانهيار في الثقة يشير إلى مشكلة أعمق، حيث تعتمد الأحزاب اليمينية المتطرفة على سياسة الخوف، وتروج لما يسمى بـ “الحقائق البديلة”، والتي لا تستند إلى وقائع بقدر ما تعتمد على المشاعر والغضب الشعبي.
أزمة وجودية: هل يمكن إقصاء حزب يمثل ربع السكان؟
تواجه الأحزاب التقليدية في ألمانيا سؤالًا صعبًا: كيف يمكن استبعاد حزب يمثّل ربع الناخبين؟ لم تعد الحلول القديمة كافية، ولم يعد لدى المؤسسة السياسية الكثير من الخيارات.
التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 1930، حصل الحزب النازي لأول مرة على فرصة للمشاركة في حكومة إقليمية بولاية تورنغن. واليوم، يتكرر السيناريو نفسه مع حزب البديل المتطرف، الذي يحقق نجاحات متزايدة في الولايات الشرقية.
تحالف جديد: اليمين الأوروبي وترامب في مواجهة الليبرالية
في مؤتمر عقد مؤخرًا في مدريد، تحت شعار “لنجعل أوروبا عظيمة مجددًا”، اجتمع قادة اليمين المتطرف من مختلف الدول الأوروبية. ورفعوا نفس الشعارات التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية، مؤكدين أن أوروبا تواجه تهديدًا ثقافيًا يجب التصدي له.
لكن المفارقة أن هؤلاء القوميين لا يدعون فقط إلى الحفاظ على هوية أوروبا، بل يريدون تفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه، وإعادة كل دولة إلى عزلتها القومية.
مقاطعة البضائع الأمريكية: رد فعل أوروبي على ترامب
في ظل هذه التوترات، بدأ بعض الأوروبيين في اتخاذ موقف عملي. فقد كشف استطلاع حديث أن 60٪ من الألمان يرفضون شراء سيارات “تسلا”، المملوكة لإيلون ماسك، الذي أصبح أحد أبرز داعمي اليمين المتطرف. كما أظهر الاستطلاع أن الكنديين أكثر عزوفًا عن شراء المنتجات الأمريكية من الأوروبيين.
أوروبا أمام منعطف تاريخي خطير
ما يحدث اليوم في أوروبا ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو تحول جذري في التوازنات الدولية. مع صعود ترامب واحتمالية إعادة انتخابه، تتجه الولايات المتحدة إلى التخلي عن دورها التقليدي كحامٍ للديمقراطيات الأوروبية، مما يفتح الباب أمام قوى جديدة، سواء من الداخل الأوروبي أو من خارجه، لإعادة رسم الخريطة السياسية للقارة العجوز.
في النهاية، السؤال الأهم الذي يواجه القادة الأوروبيين ليس كيف يمكنهم التكيف مع ترامب؟، بل كيف يمكنهم الحفاظ على استقرار أوروبا في مواجهة هذا التحدي الوجودي؟
اقرأ كذلك: ليبرمان يهدد مصر ويطالبها بترحيل سكان غزة إلى سيناء