سقوط الأسد: من الرابح ومن الخاسر؟
التداعيات الجيوسياسية لسقوط نظام الأسد: التحولات الكبرى في الشرق الأوسط ومكانة القوى الإقليمية والدولية بعد نهاية حكم آل الأسد
سقوط الأسد: من الرابح ومن الخاسر؟ بعد أربعة عشر عامًا من الثورة ضد نظام الدكتاتور بشار الأسد، وخمسة عقود من العيش القسري في كنف الدولة القمعية التي أسّسها والده الراحل، تمكّن السوريون أخيرًا من طي صفحة حكم آل الأسد. هذا التغيير العميق في التاريخ السوري يعد لحظة فاصلة، تمثل بداية فصل جديد في الصراع السوري الممتد. ورغم أن السوريين يطمحون لبناء دولة ديمقراطية تعتمد على سيادة القانون والمؤسسات، فإن الطريق لتحقيق هذا الهدف ليس مفروشًا بالورود. لكن مجرّد التخلّص من نظام الأسد، الذي عاش على القمع والعنف طوال عقود، يمثل بداية قوية لإطلاق مشروع سوريا الجديدة.
المعركة الكبرى: صراع داخلي وصراع خارجي
إن الصراع السوري لم يكن محصورًا بين الشعب والنظام فقط، بل كان يشكل ساحةً لصراع إقليمي ودولي على سوريا. كان هذا الصراع ساحة لعدة دول تتنافس على تحقيق مصالحها الخاصة، ما جعل التحول الذي تشهده سوريا اليوم يحمل دلالات جيوسياسية كبيرة قد تؤثر في شرق أوسط بأسره. وفي هذا السياق، لا تقتصر تداعيات سقوط الأسد على سوريا فقط، بل تمتد إلى التأثيرات العميقة على العلاقات الدولية، وكذلك على قدرة القوى الكبرى على التأثير في الشرق الأوسط.
أربعة عشر عامًا من الصراع المستمر
على مدار أربعة عشر عامًا، تحولت سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة، حيث تدخلت دول عديدة لتحقيق طموحاتها. كان الصراع يزداد تعقيدًا بتأثيرات الخارج على مسار الأحداث الداخلية. تأثير الفاعلين الخارجيين كان واضحًا في إعادة تشكيل العلاقات بينهم، سواء على المستوى الثنائي أو في الأطر الجيوسياسية الأكبر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، التورط الروسي والإيراني في دعم نظام الأسد، حيث أسس ذلك لشراكة إستراتيجية عميقة بين موسكو وطهران.
ومن جانب آخر، أعاد الصراع تشكيل علاقات تركيا مع روسيا والولايات المتحدة، وأدى إلى تغييرات ملحوظة في كيفية تفاعل تركيا مع بعض القوى العربية المؤثرة في السنوات الماضية. وهذه التحولات تشير إلى أن سوريا أصبحت أكثر من مجرد ساحة معركة بين شعب ونظام، بل أضحت نقطة تحول استراتيجية تؤثر في العلاقات الدولية.
التحولات الجيوسياسية وتأثيرها على تركيا
من بين الدول التي استفادت من التحولات في سوريا، تبرز تركيا بشكل كبير. فالمكانة الجديدة التي ستكتسبها تركيا من تحوّل سوريا إلى دولة حليفة لها تتيح لها فرصًا جيوسياسية ضخمة. إن تحوّل سوريا من دولة حليفة لإيران وروسيا إلى دولة حليفة لتركيا يعزز من مكانة أنقرة في المنطقة. وتستفيد تركيا من هذا التحول الجيوسياسي، إذ يعزز من قدرتها على لعب دور قيادي في الشرق الأوسط، سواء على الصعيد السياسي أو الأمني.
هذا التحول يوفر لتركيا أيضًا الفرصة لضمان أن مستقبل سوريا بعد الحرب يتماشى مع مصالحها وأمنها القومي. في الوقت نفسه، يتيح لها تعزيز موقفها في مواجهة التحديات الداخلية مثل الصراع مع الأكراد، خاصة في شمال سوريا. ولا يقتصر الأمر على المسائل السياسية فحسب، بل يتعداه إلى التعاون الأمني والعسكري، حيث تُعتبر تركيا في وضع يؤهلها للعب دور أساسي في تشكيل سوريا الجديدة وفقًا لتوجهاتها.
دور تركيا في إدارة التحولات السورية
على الرغم من المكاسب المتوقعة لتركيا، فإن هذا التحول يجلب معها أيضًا تحديات كبيرة. مع التصاعد في دور تركيا في سوريا، يصبح من الضروري أن تتحمل أنقرة المسؤولية الكبرى في ضمان استقرار البلد ومنع تحول سوريا إلى صراع مستمر قد يفوق المخاطر التي قد تنجم عن هذا التحول. قد تواجه تركيا صعوبة في الحفاظ على تناغم بين الفصائل السورية المعارضة المختلفة، التي قد تختلف أهدافها وطموحاتها، وهو ما يفرض عليها تحديًا كبيرًا في إدارة هذا التنوع في صفوف المعارضة.
كذلك، فإن التعامل مع هيئة تحرير الشام، التي تُعتبر واحدة من أبرز المجموعات المسلحة في سوريا، سيكون أحد الاختبارات الكبرى لتركيا. فمن الضروري أن تؤثر تركيا في تلك الجماعات لضمان استمرار التحولات الجارية والتأكد من عدم انحرافها عن المسار الذي يضمن مصالحها.
الولايات المتحدة وإسرائيل: ما بين المكاسب والمخاطر
إلى جانب تركيا، تُعتبر كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من بين المستفيدين من التحول السوري. إن انتقال سوريا من التحالف مع إيران وروسيا إلى التحالف مع تركيا يعد تطورًا إستراتيجيًا كبيرًا بالنسبة لهما. تترجم هذه التغيرات إلى مكاسب جيوسياسية هائلة لكل من واشنطن وتل أبيب، حيث من المرجح أن توفر سوريا الجديدة فرصًا أكبر في مواجهة تحدياتها الإقليمية، سواء في مواجهة إيران أو في تعزيز التعاون مع حلفائها الغربيين.
ورغم ذلك، لا تخلوا هذه التحولات من المخاطر. فبينما كانت سوريا تحت حكم آل الأسد بمثابة تهديد مستمر لإسرائيل من خلال دعمها لحزب الله، فإن سقوط النظام قد يجعل العلاقة مع سوريا الجديدة أكثر تعقيدًا. وعليه، فإن السياسة الإسرائيلية ستواجه تحديات جديدة تتعلق بكيفية التعامل مع سوريا الحليفة لتركيا. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد تصبح سوريا الجديدة فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، ولكنها أيضًا تثير أسئلة حول كيفية التعامل مع القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا.
العالم العربي: الفرص والتهديدات
بالنسبة للعالم العربي، فقد تكون التحولات في سوريا بمثابة فرصة كبيرة لإعادة تفعيل الدور العربي في المنطقة. على الرغم من أن سقوط نظام الأسد يؤدي إلى تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، فإن القلق العربي لا يزال قائمًا من أن يؤدي هذا التحول إلى موجة ثانية من الربيع العربي. هذه المخاوف تجعل الفوائد المحتملة من تحولات سوريا محاطة بالكثير من الشكوك.
لكن في المقابل، تقدم هذه التحولات فرصة للعالم العربي للعب دور أكثر فاعلية في مستقبل سوريا. مع الإمكانات المالية الكبيرة التي يمكن أن تساعد في إعادة إعمار سوريا، يمكن للعالم العربي أن يسهم في إعادة بناء الدولة السورية. كما أن التغييرات الجيوسياسية تتيح فرصة جديدة للعالم العربي لإعادة تموضعه في الساحة السورية.
إيران وروسيا: الخاسرون الأكبر
لكن في مقابل الرابحين، هناك الخاسرون الأكبر من هذا التحول. وأبرزهم إيران وروسيا. فقد استثمرت إيران بكثافة في سوريا على مر السنوات من خلال تقديم الدعم المالي والعسكري للنظام السوري. وكانت إيران تعتبر سوريا جزءًا من جسر بري يمتد عبر العراق وصولًا إلى لبنان. حيث يتواجد حليفها حزب الله. لكن مع انهيار نظام الأسد، ينهار هذا الاستثمار الإيراني. مما يعني تراجعًا كبيرًا في نفوذ إيران في المنطقة.
أما بالنسبة لروسيا، فإن خسارة سوريا تُعد كارثة جيوسياسية. حيث كانت سوريا بمثابة قاعدة استراتيجية لها في البحر الأبيض المتوسط. خسارة سوريا تعني خسارة أحد آخر الحلفاء الرئيسيين لروسيا في المنطقة. مما يضعف بشكل كبير قدرتها على فرض نفوذها في الشرق الأوسط. ومن الممكن أن تؤثر هذه الخسارة على السياسة الروسية في مناطق أخرى. مثل ليبيا وأفريقيا. التي كانت تشهد تحركات روسية كبيرة.
خاتمة: تغيرات عميقة ومكانة جديدة
في الختام، تمثل تحولات الصراع السوري تحولًا عميقًا في السياسة الإقليمية والدولية. من جهة. يفتح هذا التحول فرصًا كبيرة لتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، بينما يترك إيران وروسيا في موقف الخاسر. رغم أن هذا التحول يمثل بداية لمشروع سوريا الجديدة. إلا أن التحديات التي ستواجهها القوى الإقليمية والدولية في إدارة هذا التحول ستظل قائمة. وبالتالي، فإن السؤال الأكبر يبقى: هل سيشكل هذا التحول نقطة انطلاق لتحقيق الاستقرار في المنطقة. أم أنه سيؤدي إلى المزيد من الفوضى؟
اقرأ كذلك :لوفيغارو: كيف تراجع نفوذ فرنسا في أفريقيا