حقيقة أم خداع؟ ما هو سر المعجزة الاقتصادية الإيطالية؟
استقرار الحكومة الإيطالية تحت قيادة ميلوني: التحديات الاقتصادية والهيكلية وتأثير السياسات الأوروبية على النمو الوطني
حقيقة أم خداع؟ ما هو سر المعجزة الاقتصادية الإيطالية؟ الاستقرار السياسي والاقتصادي في إيطاليا تحت حكم ميلوني: التحديات والفرص. منذ فوز “جورجيا ميلوني” وحزبها “إخوة إيطاليا” في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في عام 2022، وحصول الحزب على أكثر من 26% من الأصوات بمفرده و44% من الأصوات للائتلاف الحاكم ككل، تمكنت ميلوني من تشكيل حكومة نالت استقرارًا غير معتاد في إيطاليا، الدولة المعروفة بصعوبة استقرار حكوماتها بسبب الانقسامات السياسية المستمرة.
ومنذ تأسيس الجمهورية الإيطالية في شكلها الحالي عام 1946. تعاقبت 68 حكومة على البلاد، مما يسلط الضوء على الطابع المعقد للنظام البرلماني الإيطالي. تاريخ إيطاليا يعطينا دروسًا في الحذر عند الحديث عن استقرار الحكومة أو طول مدة بقائها. ولكن بعد مرور أكثر من عامين على تولي ميلوني الحكم. وهي أول رئيسة وزراء أنثى في تاريخ البلاد. لا تزال تحتفظ بنفس القوة السياسية. فقد تمكن حزبها من الفوز في الانتخابات الأوروبية لعام 2024 بنسبة 27% من الأصوات. وهي الانتخابات التي حولتها ميلوني إلى استفتاء شخصي لها. حيث طلبت من الناخبين أن يكتبوا اسمها على بطاقات الاقتراع.
العوامل التي ساعدت في استقرار الحكومة الإيطالية
من بين العوامل الرئيسية التي حافظت على استقرار حكم ميلوني كان الأداء الاقتصادي الجيد لإيطاليا خلال العامين الماضيين. والذي لاقى استحسانًا من العديد من المحللين الاقتصاديين الأوروبيين. اعتُبرت ميلوني من بين القادة الذين أداروا الملف الاقتصادي بحكمة واحترافية. حيث ابتعدت عن السياسات الاقتصادية التقليدية للأحزاب اليمينية المتشددة، وأتبعت سياسات اقتصادية أكثر “وسطية”.
ومع ذلك، تظهر بعض الأرقام الاقتصادية الأخيرة بعض التحديات التي قد تهدد الصورة المشرقة التي رسمتها الحكومة والمحللون للاقتصاد الإيطالي في السنوات الأخيرة. إذ توجد مشكلات هيكلية قد تنفجر في أي وقت، مما يتطلب معالجة حقيقية بعيدًا عن الإجراءات قصيرة الأجل.
النظرة الأوروبية لإيطاليا: الاستقرار في ظل الفوضى
بعد أشهر قليلة من فوز ميلوني، أثنى الكثير من المنافسين على أدائها الاقتصادي، حتى أولئك الذين كانوا في السابق خصومًا سياسيين. على سبيل المثال، صرح “إنريكو ليتا”، زعيم يسار الوسط السابق، قائلاً إن رئيسة الوزراء أدت بشكل أفضل مما كان متوقعًا في الملفات الاقتصادية. كما نقلت إذاعة “دويتشه فيله” الألمانية أن ميلوني سارت على نفس نهج سلفها، رئيس الوزراء ماريو دراجي، الذي كان معروفًا بتوجهاته الاقتصادية المعتدلة. وقد أظهرت هذه السياسات نتائج إيجابية في فترة حكم ميلوني.
بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، شهد الاقتصاد الإيطالي نموًا في العامين الماضيين، وإن كان بطيئًا، إلا أنه تفوق على متوسطات النمو في منطقة اليورو. كما استطاعت إيطاليا تقليص الإنفاق الحكومي وزيادة صادراتها من المنتجات التكنولوجية والسيارات. وكان لذلك تأثير إيجابي على الأسواق المالية، حيث ارتفع مؤشر “بورصة ميلانو” بنسبة 28% مقارنة بالعام الماضي، وهو ما يُعد من أكبر الارتفاعات بين أسواق الأسهم الأوروبية.
التمويل الأوروبي ودوره في النمو الإيطالي
يرى كثير من الخبراء أن هذا الأداء الاقتصادي الجيد هو نتيجة مباشرة للمليارات من الدولارات التي ضخها الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد الإيطالي كجزء من حزمة التعافي من جائحة كوفيد-19. لكن هذه السياسات، رغم أنها كانت مفيدة في تحقيق انتعاش اقتصادي، لا يمكن أن تحجب المشكلات الهيكلية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد الإيطالي.
على سبيل المثال، في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، نما الاقتصاد الإيطالي بنسبة 0.6%، بينما انكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.3%. كما توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نموًا بنسبة 0.7% للاقتصاد الإيطالي خلال عام 2024. ورغم هذا النمو، فإن جزءًا كبيرًا منه يعكس التحسن الذي تحقق بفضل الدعم الأوروبي أكثر من كونه انعكاسًا لنجاح السياسات الاقتصادية المحلية.
إيطاليا: من “الطفل المراهق المزعج” إلى “جزيرة الاستقرار”
قبل سنوات قليلة، كانت إيطاليا تُعتبر من الدول التي لا تستقر فيها الحكومات لفترات طويلة، وهي تُعرف بكونها “الطفل المراهق المزعج” في أوروبا، وفقًا لتعبير صحيفة “نيويورك تايمز”. ولكن مع استقرار حكومة ميلوني، أصبح الوضع مختلفًا. ففي الوقت الذي سقطت فيه حكومات مثل الحكومة الفرنسية التي سقطت بعد 3 أشهر فقط من توليها، شهدت إيطاليا استقرارًا غير معتاد في تاريخها.
وتعكس هذه التحولات السياسية في إيطاليا صورة متناقضة في أوروبا. حيث تفكك الائتلافات الحاكمة في ألمانيا وانهار الاستقرار السياسي في فرنسا، بينما استمرت الحكومة الإيطالية في عملها لأكثر من عامين بنجاح نسبي. كما أن تصريحات السياسيين الإيطاليين مثل “ماتيو رينزي” الذي مازح قائلاً: “مرحبا بكم في الفوضى الإيطالية”، أظهرت التغير الواضح في المواقف تجاه إيطاليا.
النمو الاقتصادي في ظل التحديات الهيكلية
بالرغم من الصورة الوردية التي يتم تصويرها من قبل الحكومة الإيطالية حول أداء الاقتصاد. فإن هناك بعض المؤشرات التي لا يمكن تجاهلها. فقد أظهرت الإحصائيات الأوروبية أن هناك العديد من المشاكل الهيكلية في الاقتصاد الإيطالي، على رأسها معدل البطالة المرتفع، الذي يخفى في الكثير من الأحيان في البيانات الرسمية.
علاوة على ذلك، فإن هناك تفاوتًا كبيرًا بين الشمال والجنوب في إيطاليا. حيث يعاني الجنوب من معدلات بطالة مرتفعة وضعف في النمو الاقتصادي مقارنة بالشمال. وتكمن المشكلة في أن الكثير من العمال في جنوب البلاد يعملون في القطاع غير الرسمي. مما يضعف من قدرة الاقتصاد على تحقيق نمو مستدام.
التحديات المالية والإفلاس المحتمل
أما على صعيد الديون. فإن إيطاليا تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في الدين العام الذي يواصل الارتفاع. ومن المتوقع أن يصل إجمالي الدين الإيطالي إلى أكثر من 140% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2024. وهو ما يضع إيطاليا في وضع صعب مقارنةً ببعض دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
ورغم أن هناك اهتمامًا واضحًا من حكومة ميلوني بتقليل الإنفاق الحكومي. إلا أن الأزمة الكبرى تكمن في أن الديون التي حصلت عليها إيطاليا في أعقاب جائحة كوفيد-19 ستستمر في النمو. مما يشكل خطرًا حقيقيًا على المستقبل الاقتصادي للبلاد.
مقارنة مع إسبانيا: دروس يجب أن تتعلمها إيطاليا
من المقارنات المهمة التي يجب أن تبرز هي المقارنة بين إيطاليا وإسبانيا. ففي الوقت الذي نجحت فيه إسبانيا في تحقيق نمو اقتصادي يفوق أربعة أضعاف معدل نمو إيطاليا بعد جائحة كوفيد-19. يظل الاقتصاد الإيطالي يعاني من مشكلات هيكلية مثل نقص الابتكار، وارتفاع معدلات البطالة في الجنوب. وغياب الاستثمارات الكافية في البنية التحتية.
إسبانيا، التي تمكنت من تحديث بنيتها التحتية بشكل أفضل. استفادت أيضًا من جذب المهاجرين المهرة الذين ساعدوا في تحفيز الاقتصاد. في المقابل. لم تنجح إيطاليا في جذب عدد كافٍ من المهاجرين المهرة. مما أضعف الاقتصاد بشكل عام.
إذا كانت إيطاليا قد حققت استقرارًا سياسيًا نسبيًا في عهد ميلوني. فإن ذلك لا يخفي المشكلات الهيكلية التي تواجهها في اقتصادها. فبينما يظل هناك تفاؤل بحكم الحكومة والاقتصاد. فإن التحديات المالية والاجتماعية لا تزال قائمة.
اقرأ كذلك :كيفية استبدال دولة لعملتها ولماذا؟