“سلطان العالم”: عندما لجأت فرنسا إلى سليمان القانوني
صراع القوى في القرن السادس عشر: كيف أدت العلاقات غير المتوقعة بين الملك الفرنسي فرانسوا الأول والسلطان سليمان القانوني إلى تغيير موازين القوى في أوروبا وعالم البحر المتوسط.
عندما استغاثت فرنسا بسليمان القانوني: صراع القوى في القرن السادس عشر شهد القرن السادس عشر في أوروبا صراعًا دمويًا على الهيمنة بين اثنين من أعظم القادة في ذلك العصر. كان الملك الفرنسي فرانسوا الأول (ت 1547م) والإمبراطور الروماني “المقدس” وملك إسبانيا شارلكان أو كارلوس الخامس (1558م) هما طرفا هذا الصراع. اندلعت الحروب الإيطالية، التي استمرت لعدة عقود، كنتيجة لهذا الصراع. كانت إيطاليا في ذلك الوقت منقسمة إلى عدد من الجمهوريات الغنية، مثل البندقية وجنوة وفلورنسا وميلانو، وهو ما جعلها هدفًا للطامعين.
الصراع على ثروات إيطاليا
تطلعت فرنسا للسيطرة على أجزاء من جارتها إيطاليا، بينما سعت إسبانيا و”الإمبراطورية الرومانية المقدسة” إلى فرض هيمنتهما على هذه المناطق. كان شارلكان يحكم إمبراطورية شاسعة تضم إسبانيا وهولندا والنمسا وأجزاء من إيطاليا، مما يعني أنه يمتلك قوة اقتصادية وعسكرية هائلة. في المقابل، كان فرانسوا الأول يطمح إلى توسيع نفوذ فرنسا في إيطاليا وإعادة فرض السيطرة على دوقية ميلانو، التي فقدتها فرنسا لصالح الإمبراطورية الإسبانية.
بدأت الحرب بين فرانسوا الأول وشارلكان بصورة غير مباشرة في عام 1515م. تمكن الفرنسيون من إحكام السيطرة على ميلانو في شمال إيطاليا، مما أدى إلى تسريع المواجهة العسكرية بين الجانبين. في عام 1521، قام شارلكان بدعم من البابوية بمهاجمة ميلانو، حيث كان البابا ليو العاشر وأدريان السادس متحالفين مع الإمبراطور الإسباني لأنهما كانا يخشيان التوسع الفرنسي في إيطاليا. اعتبرا هذا التوسع تهديدًا للكنيسة الكاثوليكية ومصالحها.
في تلك الفترة، كانت ميلانو تحت السيطرة الفرنسية منذ الحروب الإيطالية السابقة. اعتبر فرانسوا هذا الهجوم تهديدًا مباشرًا لمصالحه، وردًا على الهجوم، أرسل جيشه لاستعادة ميلانو. ولكن، تعرضت قواته لهزيمة ساحقة في معركة بيكوكا عام 1522 على أيدي القوات الإسبانية والرومانية المقدسة. فقدَ فرانسوا على إثرها السيطرة على ميلانو مجددًا لصالح “الإمبراطورية الرومانية المقدسة”، مما شكل ضربة قاسية لمخططاته التوسعية.
هزيمة فرانسوا الأول في بافيا
لم ييأس فرانسوا وأعدّ حملة عسكرية أكبر في عام 1525. وقعت معركة بافيا في شمال إيطاليا، وهي واحدة من أهم وأشهر المعارك في الصراع بين فرانسوا الأول وشارلكان. كانت خطة فرانسوا غير مدروسة جيدًا، وتعرضت قواته لهجوم مفاجئ من جيش شارلكان في مدينة بافيا. تفوق الإمبراطور شارلكان بفضل خبرته العسكرية وكثرة جيوشه، وتمكن من إلحاق هزيمة ساحقة بالفرنسيين. بل وأُسر الملك الفرنسي فرانسوا الأول في تلك المعركة، وهو حدث نادر في تاريخ الملوك الفرنسيين.
لاحقًا، كتب فرانسوا بعد أسره رسالة شهيرة إلى والدته جاء فيها: “كل شيء ضاع إلا الشرف”. اعترف بالخسارة المريرة لكنه أكد على احترامه لنفسه وكرامته. بعد أن تم أسر فرانسوا الأول، نُقل إلى مدريد عاصمة إسبانيا، حيث وُضع تحت الحبس وأُجبر على توقيع معاهدة مدريد في يناير/كانون الثاني 1526. تضمنت المعاهدة شروطًا قاسية لفرنسا، كان من بينها التنازل عن دوقية ميلانو ودوقية بورغونيا لصالح الإمبراطور شارلكان.
لضمان تنفيذ هذه الاتفاقية، أُجبر الملك الإسباني غريمه الفرنسي على تسليم ابنيه ليكونا رهينتين عنده. فور عودة فرانسوا إلى فرنسا في مارس/آذار من نفس العام، رفض الامتثال لشروط المعاهدة بحجة أن الاتفاق تم تحت الإكراه. أدى هذا الموقف إلى تصعيد الصراع مجددًا. بدأ فرانسوا في البحث عن تحالفات جديدة لمواجهة غريمه شارلكان.
استنجاد فرانسوا بسليمان القانوني
في هذه الفترة، كان السلطان سليمان القانوني (ت 1566م) في أوج قوته. قاد الدولة العثمانية في توسعات هائلة، حيث كانت إسطنبول تُهيمن على مساحات شاسعة في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا. نجح في فرض هيمنة الدولة العثمانية على معظم منطقة البلقان وتوسع نحو المجر وشرق أوروبا. أصبح السلطان القانوني بفضل هذه الفتوحات القوة الأبرز في العالم الإسلامي، وكان الخصم الأكبر لـ “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” في الشرق.
أدرك فرانسوا الأول أن التحالف مع السلطان سليمان القانوني قد يكون الفرصة الوحيدة لمواجهة قوة شارلكان المتفوقة. على الرغم من أن فرنسا دولة كاثوليكية، وكانت تعتبر العثمانيين خصمًا دينيًّا وحضاريًّا خطيرًا، دفعت الضرورات السياسية الملك الفرنسي إلى التفكير خارج الأطر التقليدية. بدأ فرانسوا في التواصل مع السلطان سليمان القانوني عبر رسائل دبلوماسية. استخدم والدته وكبار دبلوماسيّيه للتواصل.
رسائل الاستغاثة
طلب الملك الفرنسي دعم السلطان العثماني في محاربة الإمبراطور شارلكان بلغة ملؤها الاستنجاد والاستغاثة. في إحدى تلك الرسائل، خاطب فرانسوا الأول السلطان سليمان بلقب “سلطان العالم”. اعترف بمكانته العظمى وسلطته التي تمتد على أرجاء شاسعة من العالم. شرح للسلطان القانوني ظروفه الصعبة بعد هزيمته في باڤيا وأسره. طلب دعمه في مواجهة الهيمنة الإسبانية والألمانية. أشار فرانسوا في الرسالة إلى أنه لم يعد لديه أي أمل في مساعدة من أي جهة أوروبية أخرى سوى الدولة العثمانية.
قال في الرسالة: “لم يبقَ لدى فرنسا أيّ أمل بالمساعدة من أي مكان آخر عدا حَضرة سلطان العالم”. وأكد أن حضرة سلطان العالم قد قدّم مساعدات في الماضي، حيث قال: “إن فرنسا ستكون ممتنة إلى الأبد لو سُوعدت بمقدار من النقود والبضاعة”.
في المقابل، أبدى السلطان سليمان تعاطفًا مع الملك الفرنسي. أحب أن يبعث له ردًا يهدئ من روعه، جاء فيه: “وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه”. أعلمنا أن عدوكم استولى على بلادكم. استمر الرد في إظهار عظمة العثمانيين والوعد بتقديم الدعم للملك الفرنسي. جاءت الرسالة لتقول: “فلا عجب مِن حبس الملوك وضيقهم”.
“كون منشرح الصدر، ولا تكن مشغول الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام نوَّر الله مراقدهم لم يكونوا خاليين من الحرب”. في ضوء هذه الأوضاع العامة في القارة الأوروبية، أدرك سليمان خطورة القوة التي أصبح يتمتع بها العاهل الإسباني. وافق السلطان على تقديم الدعم لفرنسا، ليس فقط بسبب العداوة المشتركة مع شارلكان، ولكن أيضًا لتحقيق مصالح عثمانية في البحر المتوسط.
العثمانيون في المجر والنمسا
كانت إستراتيجية الدولة العثمانية أن يكون الهجوم على مصالح الدولة الرومانية المقدسة من شرق أوروبا وغربها. لهذا السبب، شن السلطان القانوني حملات عسكرية ضد ممتلكات شارلكان مباشرة. كانت أولى تلك الحملات موجَّهةً ضد مملكة المجر، حيث انتصر العثمانيون في معركة موهاج الشهيرة عام 1526. بعدما تحقق هذا النصر الساحق، دخلت المجر في القبضة العثمانية، وفتحوا الطريق نحو فيينا، العاصمة النمساوية وقلب أوروبا.
بعد إعداد جيد لتحقيق هذا الغرض، قاد السلطان سليمان القانوني بنفسه حملة عسكرية انطلقت باتجاه فيينا في عام 1529م. تمكن العثمانيون من محاصرتها للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي. كان حصارًا قاسيًا شديدًا وكادت تسقط في أيديهم لولا دخول الشتاء القارس وانتشار المرض بين الجنود العثمانيين. قاد القائد النمساوي نيكولاس فون سالم المقاومة الباسلة، حيث صمدت المدينة في وجه الهجوم العثماني.
كان هذا الحصار أكبر تهديد للإمبراطورية الرومانية المقدسة وإمبراطورها شارلكان. بفضل هذا التدخل العثماني، تمكن الملك فرانسوا الأول من استغلال الضغط الذي مارسه العثمانيون على شارلكان. أعاد تنظيم قواته وتوسيع تحالفاته في أوروبا الغربية، وتنفس الصُّعداء تجاه غريمه اللدود.
التحالفات والتداعيات
نجح فرانسوا الأول في تشكيل تحالفات جديدة، بما في ذلك التحالف مع إنجلترا والنمسا وبعض الدول الألمانية. أدرك أن استعادة قوته في مواجهة شارلكان تعتمد على توفير قاعدة دعم قوية. عُقدت عدة
اقرأ كذلك :ابن بطوطة في الصين: ملاحظاته عن القبضة الأمنية ومشاهدته لأولى العملات الورقية في العالم