مدونات

تحول لافت.. لماذا قررت فرنسا دعم تحركات المحكمة الجنائية ضد نتنياهو؟

تحولات سياسية وصراعات داخلية: تأثيرات توجهات السياسة الفرنسية نحو الشرق الأوسط والصراعات الدولية

متوشحًا بالسواد الذي يعبر عن الحداد، نزل رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون من الطائرة الرئاسية الفرنسية في زيارة وصفتها صحيفة “لوموند” بالمتأخرة. بدت ملامح الدعم واضحة في كل خطوة يخطوها ماكرون. كان الهدف دعم إسرائيل ومواساتها بعد 17 يومًا من طوفان الأقصى.

منذ اللحظة الأولى، حاولت فرنسا تبني الحزن الإسرائيلي بالتذكير بالضحايا من مزدوجي الجنسية. غرد ماكرون حول ذلك، وتناولته وسائل الإعلام الفرنسية بشكل ملحوظ. لكن العلاقة بين تل أبيب وباريس لم تدم طويلاً، أو على الأقل لم تسر بالطريقة التي رغبت بها حكومة نتنياهو. فقد جاءت التحذيرات الفرنسية مرارًا من تجاوزات الجيش الإسرائيلي. وفي النهاية، دعمت باريس إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن عزمه إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة قيادات من حماس: إسماعيل هنية، ومحمد الضيف، ويحيى السنوار.

لم يكن مفاجئًا بالطبع مطالبة فرنسا برؤوس قادة المقاومة الفلسطينية، فهي التي طالبت منذ بداية المواجهات بتشكيل تحالف دولي للقضاء على المقاومة أسوة بتنظيم الدولة الإسلامية. لكن لا يمكن إنكار أن دعم قرار دولي ضد قيادات الصف الأول الإسرائيلي -وعلى رأسها نتنياهو- فاجأ أحباب إسرائيل وكارهيها على حد سواء.

تحول السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي

تشهد السياسة الخارجية لفرنسا في العقدين الأخيرين تحولاً بطيئًا عن مواقف كانت تعد عقيدة فرنسية راسخة بشأن الصراع العربي الإسرائيلي. كانت فرنسا تؤمن بأنه لا يمكن تسوية الصراع إلا عن طريق حل الدولتين. لذا رفضت باريس في عام 2017 قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جعل القدس عاصمة لإسرائيل. اعتبرت فرنسا أن القدس أرض محتلة. ورغم ذلك، بدأ الرؤساء المتعاقبون منذ مطلع الألفية بالتخلي تدريجيًا عن هذه العقيدة السياسية. وبدأت فرنسا تصطف بشكل أكثر صراحة مع مواقف إسرائيل.

ترتبط علاقة فرنسا الرسمية بالقضية الفلسطينية بنوفمبر/تشرين الثاني 1947. في ذلك الوقت، صوتت باريس لصالح قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية. أسفر ذلك القرار عن إعلان تأسيس دولة الاحتلال، التي اعترفت بها فرنسا.

تشير الوثائق السرية إلى دور الحكومة الفرنسية الذي مهّد لظهور الكيان الصهيوني. بدأت هذه العلاقة من اتفاقية “سايكس بيكو” وموافقة فرنسا على وعد بلفور.

وبحلول الخمسينيات، أصبحت فرنسا الحليف الذي لجأ إليه الاحتلال والمورد الرئيسي للأسلحة والعتاد العسكري. كان للفرنسيين المساهمة الكبرى في بناء المفاعل النووي في ديمونة بصحراء النقب.

لم تقف الحماية الفرنسية عند ذلك الحد. بل تدخلت فرنسا إلى جانب بريطانيا وإسرائيل عام 1956 ضمن العدوان الثلاثي. كان الهدف الأساسي لهذا العدوان هو الإطاحة بحكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

تحول السياسة الفرنسية تجاه إسرائيل منذ عهد ديغول

بوصول الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى السلطة، لم تعد مواثيق الصداقة بين فرنسا وإسرائيل بالمتانة ذاتها. عقب حرب عام 1967، التي احتلت فيها إسرائيل سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، علقت فرنسا صفقات بيع الأسلحة لتل أبيب. كما دعمت قرارات مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. كانت تلك الخطوات بمثابة شرخ في العلاقات بين فرنسا وإسرائيل.

استمرت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين على ودها البارد. في هذه الفترة، اتجهت إسرائيل إلى الاعتماد على تحالفها الوثيق مع واشنطن.

شهدت حقبة الثمانينيات بوادر تقارب جديد بوصول الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إلى السلطة. زار ميتران إسرائيل، لكن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تُعتبر منظمة إرهابية من قبل واشنطن وإسرائيل.

استمرت فرنسا على هذا النهج عقب تولي الرئيس جاك شيراك، الذي دعا صراحة للاعتراف بدولة فلسطين. عموماً، عُدّت فترة حكم ميتران وشيراك العصر الذهبي للقضية الفلسطينية في باريس.

مع وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه عام 2007، تزامناً مع هجوم إسرائيل على غزة بعد سيطرة حركة حماس على القطاع، شهدت السياسة الفرنسية نقطة تحول ومنعطفاً جديداً. كان أول شواهده استقبال الرئيس الفرنسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون في باريس، رغم جرائم الحرب التي ارتكبها جيشه بحق الفلسطينيين.

تحول السياسة الفرنسية تجاه إسرائيل مع هولاند وماكرون

استمرت السياسة الفرنسية على نهج موال لإسرائيل مع فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون. قدّما نفسيهما كصديقين للاحتلال، دون التخلي شكليا عن مبدأ حل الدولتين واعتراف بحق الفلسطينيين في دولتهم.

التطورات العلاقاتية أدت إلى عدم الضغط بقوة لحل القضية الفلسطينية بشكل عادل.

التحول في سياسة فرنسا تجاه إسرائيل: من الدعم غير المشروط إلى الإدانة المشروطة

إلى حين ما كانت فرنسا تدعم إسرائيل بدعم غير مشروط، إلا أن ماكرون غير موقفه بشكل جذري، حيث قام بزيارة إلى تل أبيب ليكون قريباً من حلفائه، ولكن بعد أسابيع من “طوفان الأقصى”، تغير السياق بشكل كبير. فشل الاحتلال في استعادة أسراه أو تحقيق أي انتصارات عسكرية معنوية، بينما قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين.

ماكرون عبّر عن تحوله في لقاء مع بي بي سي، حيث انتقد حرب الاحتلال ودعا إلى وقف القصف على غزة. تغيرت لهجته أيضًا في دعوته لقادة أوروبا والولايات المتحدة لدعم موقفه.

السبب وراء هذا التحول يكمن في مذكرة سرية أُرسلت من قبل 12 سفير فرنسي في المنطقة، تحتوي على اعتراضات وتحذيرات من تداعيات سياسات ماكرون. هذه الخطوة كانت غير مسبوقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية.

بالإضافة إلى الدوافع البراغماتية، كانت الرسالة هذه جزءًا من سياسة “الاستقلال الإستراتيجي” التي تبنتها فرنسا لاستعادة تأثيرها في الشرق الأوسط وتحقيق دور دبلوماسي أكثر تأثيرًا وصوتًا.

تحليل: معقولية سياسة فرنسا تجاه الصراعات الداخلية والخارجية

في وسط الحسابات المعقدة، تظهر تحولات ماكرون كمنتج لصراعات داخلية في فرنسا، حيث ينقسم المشهد السياسي بين ثلاث تيارات أساسية. يتمثل الاختيار الصعب لماكرون وتياره في توجيه مواقفهم نحو إسرائيل لتجنب مواجهات مع اليمين المتطرف ولتجاوز الاتهامات بمعاداة السامية.

عندما دعمت الحكومة الفرنسية إسرائيل، فإنها حاولت استغلال هذا الدعم لتوضيح مواقفها وتجاهل التيارات السياسية القديمة. هذا المشهد يُظهر تعقيدات السياسة الداخلية التي تؤثر على السياسة الخارجية.

لكن، لا يُمكن تفسير التحولات في السياسة الفرنسية بأنها استراتيجية فقط، بل هي رد فعل على التحديات المعقدة التي تواجهها الحكومة، وخاصةً في ملفات الشرق الأوسط. وتُظهر هذه التحولات التضاربات التي يجب التعامل معها بحذر لتجنب المزيد من التوترات الداخلية.

إلى جانب ذلك، فإن استمرار الحرب يعزز التوترات الداخلية في فرنسا، ويزيد من التحديات التي تواجه الرئيس ماكرون. بينما يُعتبر الحفاظ على توازن حساس بين المسلمين واليهود أمراً حيوياً، يجب على باريس أيضاً استعادة موقعها الدولي.

على الرغم من ذلك، فإن التحالفات الكلاسيكية تُعيق قدرة فرنسا على تحقيق أهدافها في المنطقة، وتُعرّض مواقفها للاختبار. لذا، تبحث باريس عن مواقف تتماشى مع مصالحها الداخلية والخارجية، وتسعى لاستعادة دورها كوسيط دولي ذو تأثير.

اقرأ كذلك: خواطر تتعلق بنصرة غزة وكيف ندعمها وننصرها ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات