تاريخ التراويح: إعدام المصلين بأمر من الفاطميين ومن بين الأئمة الذين صلوها ابن تيمية وابن ميمون اليهودي والصبيان في الحرمين
يروي الرحالة ابن جبير الكناني الأندلسي تفاصيل مثيرة حول صلاة التراويح في الحرم المكي. حيث كان الصبيان يقودون هذه الصلاة ويختمون القرآن في ليالي رمضان. في إحدى الليالي، قام أحد أبناء مكة بختم القرآن. وبعدها خطب الصبي المذكور واستضافهم أبو الصبي في منزله. وفي ليلة أخرى، كان الإمام الصبي يُصلي التراويح ويختم. وحضره العديد من المصلين من الرجال والنساء.
هذا المشهد لم يكن فريدًا لمكة فقط. بل كانت هذه العادة شائعة في الحجاز ومصر وبعض البلدان الإسلامية الأخرى. كانوا يشجعون الأطفال على إمامة التراويح بعد أن يكملوا حفظ القرآن ويبلغون من العمر اثنتي عشرة سنة. مما يعكس تقدير المسلمين لهذه الصلاة ودورها في إحياء الروحانية والتواصل الاجتماعي في شهر رمضان.
إن تشجيع الأطفال على الإمامة في صلاة التراويح كان مؤشرًا قويًا على الرؤية الإسلامية لهذه الصلاة. حيث كانت تُعتَبَر مناسبة للتلاقي الاجتماعي وتعزيز الروحانية لدى الأفراد. وقد اشتهر العديد من العلماء بأنهم أمَّوا التراويح وهم صغار، مما يبرز دور المجتمع وأهل العلم في تشجيع الشباب على المشاركة الفاعلة في العبادات والأنشطة الدينية.
من بين هؤلاء العلماء الشهيرين هو الإمام ابن حجر العسقلاني. الذي أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتي عشرة سنة. وكانت هذه الأمثلة تعكس تراثًا ثريًا من التفاني والمحبة للصلاة في المجتمعات الإسلامية، حيث كانت صلاة التراويح ليست فقط عبادة بل كانت فرصة لتعليم الشباب القيم والأخلاق الإسلامية وتعزيز روح التعاون والمشاركة في الأعمال الدينية.
تاريخ وأهمية صلاة التراويح في المساجد
بدأ تاريخ تأدية صلاة التراويح جماعة في المساجد مع الخليفة عمر الفاروق. حيث رأى الضرورة لتحويلها من البيوت إلى مساجد ليجمع المسلمين على قارئ واحد. هذه الخطوة ساهمت في جمع المسلمين وتعزيز الروحانية الجماعية، وباتت هذه العملية جزءًا من سُنة حسنة مُتبعة حتى اليوم.
عمر الفاروق لم يكتفِ بتحويل صلاة التراويح إلى مساجد، بل ربطها بأجواء البهجة والزينة والإنارة. وهذا أضفى عليها جوًا من الرونق والاحتفالية. لقد شهدت المساجد في ذلك الوقت تعزيزًا لهذه الصلاة من خلال تعليق المصابيح الرمضانية، مما جعل التراويح والأنوار جزءًا لا يتجزأ من لقاء المسلمين في هذا الشهر الفضيل.
ومع تطور الزمن، بدأت صلاة التراويح تشهد تعددية في بعض المساجد. حيث باتت موضوعًا للفرقة والتعصب المذهبي. هذا الواقع يكشف عن مدى تأثير فيروسات التحلل والانقسام في المجتمع الإسلامي. مما يُظهر الحاجة الماسة لترسيخ مبدأ وحدة المسلمين وتعزيز التواصل والتآلف بينهم.
بالرغم من أن صلاة التراويح كانت تجمع المسلمين على قارئ واحد في بدايتها. إلا أن الوضع تغير وبات كل مذهب يُقيم صلاة التراويح بإمامه الخاص. مما يناقض الغاية الأساسية لهذه الصلاة في تعزيز الوحدة والتلاحم بين المسلمين.
لذا، يجب على المجتمع الإسلامي العمل على استعادة روح صلاة التراويح كوسيلة للتواصل والتآلف الاجتماعي. وتعزيز مفهوم الوحدة والتعاون بين أفراده. إن إقامة التراويح في المساجد بروح الوحدة والانسجام هو السبيل الأمثل لتحقيق هذه الغايات النبيلة وتعزيز الروحانية في المجتمعات الإسلامية.
التراويح: تاريخ ومهارات الأئمة الممتازين
تاريخيًا، كانت صلاة التراويح فرصة لإظهار المواهب الصوتية المتميزة. حيث كان الناس يختارون أئمتهم بناءً على جودة صوتهم ودقة حفظهم وأدائهم المتقن في تجويد القرآن الكريم. وحتى الآن. تبقى التراويح هي المناسبة الأمثل لاستكشاف أصوات القراء المتميزة والمبهرة.
جاء أئمة التراويح من خلفيات وفئات مختلفة؛ من القراء الكبار إلى علماء الدين. ومن الرحالة والتجار إلى السلاطين والفراشون الذين كانوا يعملون في المساجد. من بين أشهر أئمة التراويح كان الإمام الطبري صاحب التفسير والتاريخ، والشيخ الإسلام ابن تيمية. اللذان جمعا بين الصوت الجميل والعلم العميق والإمامة في الدين.
في هذه المقالة، سنقدم نظرة تاريخية عن صلاة التراويح وأهميتها في شهر القرآن. حيث تجتمع المؤمنين -بمختلف أعمارهم وثقافاتهم- في محافل العبادة داخل المساجد الممتلئة بذكر الله تعالى. سنسلط الضوء على بداياتها منذ الفترة الأولى للإسلام وما تعرضت له من تحولات اجتماعية وثقافية عبر العصور.
ستكون المقالة أيضًا فرصة لاستعراض تأثير صلاة التراويح على المسلمين على مر الزمن. سواء من الناحية الفقهية أو السياسية أو الاجتماعية، وسنسلط الضوء على بعض الشخصيات البارزة التي أسهمت في تقديم هذه الصلاة بأبهى صورها.
ستظهر المقالة كيف أن عاداتنا المتعلقة بصلاة التراويح ليست جديدة، بل هي ورثناها من أجيال سابقة. مما يبرز أهمية هذه الصلاة في الحفاظ على التقاليد وتعزيز الروحانية في المجتمعات الإسلامية.
تاريخ وأهمية صلاة التراويح في الإسلام
تعود جذور صلاة التراويح إلى الفترة النبوية. كما يشير العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي في كتابه ‘محض الصواب’. فقد كانت هذه الصلاة موجودة منذ زمن النبي محمد ﷺ. ولكن الخليفة عمر الفاروق كان أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها. حيث كانوا يصلون لأنفسهم ثم جمعهم عمر على أبي بن كعب ليؤدي صلاة التراويح بصف واحد.
يُظهر تاريخ صدور أمر عمر بجمع الناس لصلاة التراويح أن هذه المبادرة العمرية كانت في سنة 14 هـ. وتحديدًا في 636م. وقد قام عمر بتعيين قرّاء للصلاة. حيث أُشير إلى أبي بن كعب الأنصاري ومعاذ بن الحارث الأنصاري من قراء الرجال. وتميم بن أوس الداري وسليمان ابن أبي حَثْمَة القرشي وعمرو بن حُرَيث المخزومي من قراء النساء.
وتُعد هذه المبادرة من أهم الخطوات التي تعززت بها صلاة التراويح في تاريخ الإسلام. حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عبادات الشهر الفضيل. ورغم تطورات العصور. فإن هذه الصلاة لا تزال تجسد تقاليد الجمع والانسجام بين المؤمنين خلال ليالي رمضان المباركة.
يروي العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ/1503م) في كتابه ‘محض الصواب‘ أصلَ نشأة صلاة التراويح في الإسلام بقوله: “لا يتوهَّمْ متوهِّمٌ أن التراويح من وضع عمر (بن الخطاب ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- ولا أنه أول من وضعها. بل كانت موضوعة من زمن النبي ﷺ، ولكن عمر.. أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها. فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسُمِّيت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم يستريحون فيها بعد كلّ أربع”.
يُشير ابن المِـبْرد بذلك إلى ما رواه الإمام البخاريُّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- وغيرُه من أئمة الحديث من أن الخليفة عمر الفاروق خرج “ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع (= جماعات) متفرقون. يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل». ثم عَزَم فجمعهم على أبَيِّ بن كعب (ت 22هـ/644م)” فصلّى بهم.
كانت هذه المبادرة عمل عمر هو الأول من نوعه في تاريخ الإسلام؛ حيث جمع الناس كلهم على صلاة التراويح بصف واحد. وقد حدد الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) تاريخ صدور أمر عمر بجمع الناس لصلاة التراويح. حيث أكد في تاريخه أن هذه الخطوة كانت في سنة 14هـ/636م “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”.
عمر خصص قارئين للصلاة، قارئًا للرجال وآخر للنساء؛ إلا أنه لم يكن يشهد أمهات المؤمنين تراويح النساء العامة. كما يُفهم ذلك من الأثر القائل إن “ذَكْوان (أبا عمْرو ت 63هـ/684م) مولى [السيدة أم المؤمنين] عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”؛ كما في رواية الإمام أبي القاسم الأصبهاني الملقب بقوام السُّنة (ت 535هـ/1140م) في ‘سِيَر السلف الصالحين‘.
وحفظت لنا كتب الفقه والتاريخ والتراجم أسماء القُرّاء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه
تاريخ التراويح: أوليات وآراء
ترتبط تاريخ صلاة التراويح بعدة أوّليات، من بينها ابتكار استدارة الصفوف حول الكعبة. يروي أبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ/1094م) في ‘المسالك والممالك‘ عن الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م) أن “أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ/739م)”. حيث كان الناس يقومون في أعلى المسجد، وأمر الوالي الأئمة بالتقدم والصلاة خلف المقام. مما أدى إلى استحداث هذه الاستدارة حول الكعبة في أوقات رمضان.
فيما يتعلق بالآراء الفقهية حول التراويح. فقد استقرّ حكمها عند علماء أهل السنة على أنها “سنة” وليست “فرض”. يُعتبر البعض منهم أنها بدعة حسنة شرعية. فيما يعتبر آخرون أنه “لا يجوز تركها في المساجد” لأنها أصبحت شعارًا للمسلمين. مما يجعلها تلحق بالفرائض الكفايات أو السنن التي أصبحت شعارًا مثل صلاة العيد.
تجمع الآراء والوجهات المختلفة حول التراويح بين ما يعتبره البعض من العلماء سُنة وما يُعتبره آخرون بدعة حسنة. مما يجسّد تنوّع الرؤى في الفقه الإسلامي والتفسيرات المختلفة للممارسات الدينية المألوفة.
استحب العلماء -حسب الإمام أبي بكر البيهقي (ت 458هـ/1067م) في ‘شُعَب الإيمان‘- زيادة الإضاءة في المساجد خلال شهر رمضان بتعليق المصابيح. مؤكدين أن عمر بن الخطاب كان أول من فعل ذلك عندما جمع الناس لأداء صلاة التراويح. وهو ما رواه مؤرخ المدينة المنورة نور الدين السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى‘.
وفي سياق آخر، روى الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه مر على المساجد في رمضان وشاهد القناديل المضاءة فيها. فأعرب عن دعائه لله بأن يزيد في نور قبر عمر بن الخطاب كما زاد في نور المساجد.
على الرغم من تبني جماهير المسلمين لهذه العادة المستمدة من أعمال الصحابة. إلا أن هناك آراء تنكر شرعية هذا العمل وتصنفه كـ”بدعة عمرية”. كما يعتبر طوائف الشيعة أنها بدعة مستثناة بعض أئمتهم. في الوقت نفسه. نقل المقريزي (ت 845هـ/1441م) عن الفرقة النظامية من المعتزلة قولها بأن صلاة التراويح غير جائزة شرعًا.
أئمة التراويح: تنوع الشخصيات الدينية البارزة
تعدّ أئمة التراويح من الشخصيات البارزة والمميزة في تاريخ الإسلام. حيث انبثقت من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. فقد كانت هذه الشخصيات تمتاز بالعلم والقدرة على التلاوة الرائعة. ومن بينهم أساطين العلماء والقراء الكبار. ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى السلاطين والفراشون الذين كانوا يعملون في المساجد.
من بين أشهر أئمة التراويح كان “شيخ المفسرين” الإمام الطبري، الذي أصبح رمزًا في فهم وتفسير القرآن الكريم. ولم يقتصر دور الأئمة على العصور القديمة فقط، بل وصل إلى عصور لاحقة مثل عصر أبو بكر ابن مجاهد البغدادي والإمام ابن الجوزي وغيرهم.
يروي الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد” عن انبهار ابن مجاهد البغدادي بصوت الإمام الطبري أثناء قيامه بصلاة التراويح في مسجده ببغداد، وكيف عبر عن دهشته وإعجابه بهذه القراءة الرائعة.
من جانب آخر، يذكر الإمام ابن عساكر في “تاريخ دمشق” أن شيخه المقرئ أبو الفتح الأنصاري المقدسي كان من بين الأئمة الذين كانوا يقيمون صلاة التراويح في مسجد علي بن الحسن في دمشق، مما يبرز تنوع المواقع والشخصيات التي تحتضن هذه الشعيرة الدينية الهامة.
كذلك يعد أبو جعفر ابن الفَنَكي الشافعي القرطبي من الأئمة البارزين في تاريخ صلاة التراويح، حيث كانت حضوره يثير الزحام والتزاحم خلفه نظرًا لبركته وجمال صوته. وعندما مُجاور في مكة، كان أحد المتناوبين في قراءة التراويح في رمضان، وقراءته كانت تثير الخشوع حتى في الجمادات، كما يذكر ابن جبير الكناني الأندلسي في كتاب رحلته.
أما من أئمة التراويح الذين تركوا بصماتهم في التاريخ العلمي الإسلامي، فيأتي شيخُ الإسلام ابن تيمية الحراني بشكل بارز. فقد صفه تلميذه المؤرخ ابن الوردي المعري الكِندي أثناء ترجمته له في تاريخه بأن قراءته للتراويح كانت تمتاز بالخشوع، وصلاته كانت تملأ القلوب بالرقة والتأثير.
تلك الشخصيات الدينية البارزة لها دور كبير في نشر روحانية صلاة التراويح وتعزيز التأثير الروحي والدعوي خلال شهر رمضان. وبفضل جهودهم وتفانيهم، استطاعوا أن يصنعوا تجربة دينية فريدة ومميزة تعيش في ذاكرة المسلمين عبر العصور.
التراويح: تنوع الأئمة وتأثيرهم
تتميز صلاة التراويح بتنوعها اللافت فيما يتعلق بأئمتها، فتجمع بين العلماء الرحالة والتجار والفقهاء المشهورين. من بين هؤلاء الأئمة، كان الفقيه الرحالة الشهير المقدسي البشاري له دور بارز في إثراء تجربة التراويح، حيث روى تجربته الرائعة خلال زيارته لليمن في كتابه “أحسن التقاسيم”، حيث وصف تجربته في صلاة التراويح بعدن بأن الناس يختمون في الصلاة ويدعون ويركعون، وعندما صلى بهم التراويح، دعوا بعد السلام فتعجبوا من ذلك.
يبدو أن تنوع أئمة التراويح كان يشمل فئة العلماء التجار أيضًا، كما يُظهر ذلك وجود أبي علي الهلالي الحوراني المقرئ التاجر والتاجر المكي الكبير الخواجا جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني، الذي حفظ القرآن الكريم وصلى به التراويح في مقام الحنفية بالحرم المكي لست عشرة سنة. تلك الشخصيات المميزة ساهمت في إثراء تجربة التراويح وتركت بصماتها الواضحة في تاريخ الصلاة والعبادة في الإسلام.
كذلك يعرض التاريخ لنا مجموعة متنوعة من أئمة التراويح، حيث يتضح أن بعضهم كان ينتمي إلى فئة الفرّاشين، وهي الطبقة المكلفة بخدمة المسجد الحرام، مثل أحمد بن عبد الله الدوري المكي الذي كان يؤدي صلاة التراويح في مكة المكرمة.
ومن الأمراء العلماء الذين تألقوا في إمامة التراويح، نجد السلطان عالمكير أورنكزيب، الذي حكم الهند لخمسين سنة. كانت سيرته الحسنة تميزه عن باقي الملوك في عصره، حيث وصفه المحبي الدمشقي بأنه كان يصلي بالناس التراويح ويتناول رغيفًا من الخبز في شهر رمضان من كسب يمينه، مما يُظهر تواضعه وتعايشه مع المصلين.
يروي المؤرخ ابن شاكر الكتبي قصة مذهلة عن أحد “أئمة التراويح” الشهيرين، وهو الحبر اليهودي الكبير موسى بن ميمون القرطبي، الذي اعتنق الإسلام في المغرب خلال فترة حكم الموحدين. بعد إسلامه، انشغل بحفظ القرآن والفقه، وفي إحدى رحلاته البحرية إلى فلسطين في عهد الدولة الموحدية، قام بإمامة صلاة التراويح في شهر رمضان لركاب المركب الذي كانوا على متنه.
بعد ذلك، انتقل ابن ميمون إلى مصر حيث كانت بيئة العيش الديني أكثر انفتاحًا تحت حكم الدولة الأيوبية. وعندما شعر بالراحة والاستقرار في مصر، عاد إلى ديانته الأصلية وأصبح رئيسًا لليهود في مصر وقاضيًا لشؤونهم، حيث كانوا يلقبونه بـ “الناجد”. وفي ظل حكم صلاح الدين الأيوبي، كان موسى بن ميمون يعمل كطبيب للسلطان ولابنه الملك الأفضل علي.
هذه القصة تجسد تحولات مثيرة في حياة شخصية بارزة، حيث انتقل ابن ميمون من عالم اليهودية إلى الإسلام، ثم عاد إلى ديانته الأصلية وشغل مناصب مرموقة في المجتمع المصري. كانت رحلته تشهد على التعايش الديني والثقافي في تلك الفترة من التاريخ، حيث كان بإمكان الأفراد اتخاذ قرارات متغيرة وتجارب متنوعة دون تعرض للتمييز أو القيود.
الأئمة المهرة
من بين أئمة التراويح البارعين الذين أبهروا الناس بإتقانهم ومهارتهم في ختم القرآن في ليلة واحدة، يبرز قاضي القضاة في دمشق أبو الحسن عماد الدين الطَّرَسُوسي الحنفي. كان له موهبة فائقة في حفظ القرآن، حيث كان يصلي صلاة التراويح في فترة زمنية لا تتجاوز ثلاث ساعات ونصف، وذلك بحضور جماعة من الأعيان، وفقاً لما ذكره محيي الدين القرشي في كتابه ‘الجواهر المُضِيَّة في طبقات الحنفية‘.
على الرغم من أن مفهوم “الساعة” كان يختلف في الماضي عن فهمنا اليوم للزمن، فإن احتمال مبالغة المؤرخين في قصر وقت الختمات يظل واردًا. إلا أن هذه القصص تعكس الدرجة العالية من المهارة والتفاني التي كان يتحلى بها أئمة التراويح في تلك الفترة.
وفي قصص أخرى مذهلة، يروي الإمام شمس الدين الجَزَري أن المقرئ كمال الدين الحميري الإسكندري المالكي كان يصلي التراويح بختمة كامل الشهر، بينما كان المقرئ أبو محمد يعقوب الحربي يصلي بالناس التراويح كل ليلة بنصف ختمة. تلك القصص تبرز مدى التفاني والتأثير الذي كان يمتلكه هؤلاء الأئمة في تقديم أجواء التراويح بطريقة استثنائية ومتقنة.
تُعتبر صلاة التراويح من أبرز المظاهر الروحية في شهر رمضان، ولكل إمام طريقته الخاصة في أداءها. فمن بين أئمتها من يُخصص ختمة لكل عشر ليال من الشهر المبارك. فقد أخبرنا المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوَالَ عن أبا القاسم خَلَف بن يحيى الفهري الطليطلي، الذي كان يقوم بتسعة أشفاع في مسجد اليتيم بقرطبة، ويختم فيه ثلاث ختمات مختلفة في ليالي عشر وعشرين وتسع وعشرين من رمضان.
كثير من أئمة التراويح اعتادوا صلاتهم بالقراءات السبع وأحيانًا العشر، مما يضيف لمسة من التنوع والإبداع في الصلاة. فمنهم أبو علي الهلالي الحوراني الذي كان يُقرأ بعدة روايات مختلفة خلال صلاة التراويح في جامع دمشق، ممزوجًا بين القراءات ويُعيد الحروف المختلفة بين القراء بدقة واتقان.
بهذه الطرق المتنوعة والمهارات الرائعة، تبرز صلاة التراويح كل عام كفن فنان يجمع بين الخشوع والإتقان، مما يضيف إلى رونق العبادة في أيام شهر رمضان المبارك.
يُذكر الإمام الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘ أن أبا العباس البَرَداني الضرير كان يُقرأ في التراويح بالشواذّ بغرض الشهرة. وكذلك، المقرئ محمد بن أحمد المقدسي الشافعي الذي كان يُصلي للناس التراويح في رمضان بالقرآن بتمامه، بتبني إمام من القراء العَشرة، وفقاً للإمام السخاوي في ‘الضوء اللامع‘.
من بين مشاهير أئمتها كان أبو علي الحسن بن داود القرشي الأموي الكوفي، الذي صلى بالناس التراويح في جامع الكوفة لثلاث وأربعين سنة، كما يروي تاج الدين ابن أنجب السَّاعي في ‘الدر الثمين في أسماء المصنفين‘.
لم يكن الإمام العباسي الخطيب وأبو عبد الله النيسابوري المُزكِّي يصليان التراويح فحسب، بل كانا منطلقين نحو الإتقان والتميز، حيث صلي الأول في بغداد لنحو خمسين سنة، والثاني لست وستين سنة بالختمة، وفقاً للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
بهذه الشخصيات المميزة والملهمة، يبقى إرث التراويح حافلاً بالعطاء والإبداع عبر العصور، مضيئاً درب العبادة والتقرب إلى الله في شهر رمضان المبارك.
تراويح الخاصة: بريق الإمامة والقراءة
تميّزت صلوات التراويح في رمضان بتألق خاص، حيث كانت تُصلّى برفقة أئمة مميزين يتميزون بمتانة حفظهم وجودة أدائهم وجمال صوتهم، وكانوا يختارون لأداء التراويح مع السلاطين وأصحاب المكانة الاجتماعية.
يروي الإمام الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء‘ قصة الخليفة العباسي “المستظهر بالله” الذي اختار القاضي ابن الدواس لصلاة التراويح، حيث كان يقوم بقراءة القرآن بجزء كل ليلة، مما أثّر بإعجاب المستظهر الذي طلب منه زيادة التلاوة.
كان المقرئ أبو الخطاب الكاتب الشافعي البغدادي يُصلي التراويح بأمير المؤمنين المستظهر باللَّه، وهذا يعكس تقديرهم واحترامهم لهذه العبادة الخاصة.
كما يُذكر الحافظ ابن عساكر، كان زين القضاة سلطان بن يحيى القرشي الدمشقي يُصلي التراويح في المدرسة النظامية ببغداد وكان الخليفة العباسي يخلع عليه، مما يبرز أهمية وتألق هذه الصلاة في الوسط السياسي والديني.
في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘، يُذكر المقرئ أبا القاسم هبة الله بن الحسن الأشقر البغدادي الذي كان يؤمّ صلاة التراويح مع الخليفة الظاهر، وكان يُعتبر إماماً في هذه الصلاة، وكان يُؤذن للناس بالدخول للصلاة معهم بمسجد قصر الخليفة في بغداد.
بهذه القصص الرائعة والتي تبرز التأثير الكبير للتراويح على الحياة الدينية والاجتماعية، يظل للصلاة في رمضان بريقٌ وجاذبية خاصة تعكس عمق الإيمان والتقوى في قلوب الناس.
التراويح في الأندلس: تألق الأئمة وتوجهات الحكام
في الأندلس الإسلامية، كانت صلاة التراويح تحظى بمكانة خاصة، حيث كان الأئمة يتميزون بمهاراتهم الفائقة في تلاوة القرآن وتأثير أصواتهم النغمية على القلوب، وكانت هذه الصلاة تُعدّ من الأحداث المهمة في شهر رمضان.
يُروي ابن عبد الملك المراكشي في كتابه ‘الذيل والتكملة‘ تفاصيل عن القراء والأئمة في الأندلس، مثل ابن مُقاتل القيسي الغرناطي الذي كان معروفا بحفظه للقرآن وتلاوته المميزة في التراويح بمسجد غرناطة الأعظم.
يذكر المراكشي حادثة جميلة عن سلطان دولة الموحِّدين المنصور يعقوب بن يوسف الذي استمع إلى تلاوة المقرئ أبي الحسن الفهمي القرطبي، وكانت التلاوة بها طيب نغمة وحسن إيراد، مما أثر في قلبه، حتى أمر بتعليم أولاده وقراءة حزب من التراويح في رمضان.
ومن ثمة، كان أبو بكر الأنصاري القرطبي حسن الصوت، وكان الأمير يستدعيه لصلاة التراويح، وهذا يعكس تأثير تلاواته وجاذبيته للمؤمنين. وكان أبو الحسن ابن واجِب القيسي البلنسي أيضًا من الأئمة المتميزين صوتًا، حيث كان يُعيَّن لصلاة التراويح بالوُلاة، وكان تأثيره واضحًا على المصلين.
بهذه القصص الرائعة، نرى كيف كانت صلاة التراويح تجمع بين تألق الأئمة في تلاوة القرآن وتأثيرها العميق على قلوب المؤمنين، وكيف كانت تستقطب اهتمام الحكام والأمراء، مما يبرز أهمية هذه العبادة الخاصة في الحياة الدينية والاجتماعية في تلك الفترة.
أئمة التراويح: بين المهارة والتميز
في ترجمة ابن الوزير البلنسي، والتي ذُكرت في ‘التكملة لكتاب الصلة‘ لابن الأبار القضاعي البلنسي، نجد وصفا دقيقا لأحد الأئمة المتميزين، الذي كان يصلي التراويح بالوُلاة، وكان مشهورا بحسن تلاوته واهتمامه بتجويد القرآن.
في حديث للوزير الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب، يتحدث عن المقرئ محمد بن قاسم الأنصاري الجياني الذي كان له تأثير كبير في قلوب الناس بسبب جمال تلاوته، حيث كان يصلي التراويح بمسجد قصر الحمراء في غرناطة.
أيضًا، يشير قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان إلى الوزير الأيوبي صفي الدين بن شكر الدميري الذي اختير له شخصان ليؤمهم في صلاة التراويح بالقاهرة المعزية.
حتى كبار العلماء كانوا يفضلون أحيانًا اختيار غيرهم ليؤموهم في صلاة التراويح، كما ذكر عمر بن سليمان أبو حفص المؤدب عن تجربته مع أحمد بن حنبل في صلاة التراويح وكان يؤمهم ابن عُمير.
في سياق آخر، يُذكر السخاوي ترجمة للمقرئ بدر الدين بن تقي القباني الذي كان يؤم الحافظ ابن حجر العسقلاني في التراويح بالمدرسة المَنْكُوتَمُرية في القاهرة.
ويُذكر الخطيب البغدادي قصة عن الإمام القَعْنَبي وتأثير صوت ابن عباد النسائي المعروف بالجلاجلي على الإمام، حيث أعجبه صوته واختاره ليؤمه في صلاة التراويح.
كان الإمام الشافعي، رحمه الله، من الأئمة الذين كانوا يفضلون صلاة التراويح في بيتهم. فقد ذكر ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘ أنه كان لا يصلي مع الناس التراويح في المسجد، بل كان يصلي في بيته ويختم القرآن في رمضان بستين ختمة!
تعكس هذه التوجهات الفردية في الصلاة تنوع الأساليب والممارسات الدينية بين الأئمة والعلماء، حيث يُظهر لنا الإمام الشافعي استحسانه للصلاة في بيته كونها توفر له الراحة والتأمل العميق في القرآن.
على الرغم من التوجهات المختلفة، إلا أن الأهم هو الحفاظ على الروحانية والتقاليد الدينية في صلاة التراويح سواء كانت بالجماعة في المساجد أو بشكل فردي في البيوت. وهذا ما يظهره سير الأئمة والعلماء عبر التاريخ، حيث كل واحد منهم كان يعبر بحرفية وتفانٍ في عبادته وصلاته.
مثل هذه القصص تعكس تأثير القدوة والمثالية التي كانت تمارسها الشخصيات الدينية على المجتمع، حيث كانت تلك التوجهات تلهم الناس وتعزز من روح التفاني والتأمل في العبادة.
أصوات مرغوبة في صلاة التراويح
صلاة التراويح لها طابع خاص في عالم العبادة، فضلاً عن الروحانية والتأمل. يُلقى الضوء على حسن الصوت والأداء الجميل للأئمة الذين يُؤمون الناس في هذه الصلاة المميزة.
شرف الدين بن يحيى الحمزي، المعروف بـ “كِبْرِيت المولوي”، يُشير في كتابه ‘رحلة الشتاء والصيف‘ إلى تفوق بعض الأئمة في صلاة التراويح، حيث يُستخدم الصوت بطريقة تجعل النشاط يُعمّ القلوب، وهم يلونون التكبير بأصوات مرغوبة تُنعش الروح.
من بين الأئمة المشهورين بحسن أصواتهم في صلاة التراويح، كان المقرئ أبو البركات بن العسّال الحنبلي، الذي كان يُقصد لحسن أدائه وطيب نغمته في بغداد، وكذلك أحمد بن حمدي المقرئ الذي كان يُمّ الناس بقراءاته الكثيرة وحسن أدائه.
تعكس تلك الأصوات المرغوبة في صلاة التراويح الجاذبية الروحانية والقدرة على جذب الناس للصلاة خلف الأئمة ذوي الأصوات المتميزة، مما يجعل تلك الليالي في رمضان تمتاز بالروحانية والتأمل.
بذلك، يظل إرث الأصوات المرغوبة في صلاة التراويح ينعكس على التقدير والإقبال الكبير من الناس للصلاة خلف تلك الأصوات المميزة، مما يعزز من جو الخشوع والانتماء الديني خلال شهر رمضان المبارك.
نغمات ساحرة في صلاة التراويح
صوت الإمام خلال صلاة التراويح يُعتبر جزءًا أساسيًا من تجربة العبادة. فهو يلقي الضوء على الروحانية والتأمل ويساهم في توجيه القلوب نحو الله بأسلوب يُلهم الجماهير.
يُذكر المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘ أن إمام “المدرسة البَقَرية” زين الدين أبا بكر النحوي كان يجذب الناس إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح بسبب شجا صوته، وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته العميقة بالقراءات.
كان الإمام ناصر الدين الخزرجي يؤم الناس في التراويح بجامع الحاكم بالقاهرة وغيره، وكانت الجماهير تتزاحم لسماعه والصلاة خلفه، مما يدل على إبهارهم بأدائه وروعة صوته.
الأصوات الفاتنة التي تعرضت لها الجماهير في صلاة التراويح كانت تلقى إعجابًا شديدًا. حتى من غير المسلمين، كما يُظهر ذلك في قصة الإمام علي البَرَداني الذي أثرت قراءته لدى النصارى لدرجة أطلقوا عليه لقب “مصطبانس” بسبب جمال قراءته.
لم يكن حسن الصوت وحده عاملًا في التفضيل بين أئمة التراويح، بل كان تخفيف أحدهم في تراويحه يحظى بتقدير طوائف من المصلين، كما في حالة الإمام أحمد بن عبد الله الدُّوري المكي الذي كان يُقصد لخفة ترتيله.
أما الإمام أبا بكر ابن حُبَيش البغدادي الضرير، فكان يقرأ بصوت شجي يلامس القلوب. وكان يصلي بالناس التراويح في الجامع ببغداد، مما يُبرز تأثير قراءته المُلهمة على المصلين.
بهذه الأصوات الساحرة والمُطربة، يترسخ جو من التأمل والروحانية خلال صلاة التراويح. مما يعزز من جاذبيتها ويثري تجربة العبادة خلال شهر رمضان.
حظر سياسي على صلاة التراويح
صلاة التراويح تجسد محطات تاريخية متعددة في العالم الإسلامي. حيث عرفت بالجدل والخلافات السياسية والدينية التي أثرت على مشروعيتها وقانونيتها. حيث كان الحظر السياسي يفوق أحيانا التفسيرات الفقهية.
رغم الخلافات الفقهية حول شرعية صلاة التراويح، إلا أن القرارات السياسية كان لها دور كبير في تحديد مصير هذه الصلاة، حيث عُرف الفاطميون بمنعهم لصلاة التراويح في دولتهم التي امتدت لتشمل أجزاءً واسعة من العالم الإسلامي.
أثر الحظر السياسي لصلاة التراويح على المسلمين كان ملموسًا. حيث منع الفاطميون صلاة التراويح وأصرّوا على قراءة السور الطويلة في صلاة العشاء، مما جعلهم يستبدلونها بقراءة مطولة في آخر صلاة العشاء. وهذا الأمر ظل مستمرًا لفترة من التاريخ.
شهدت فترات معينة تغيرات في القرارات السياسية والدينية تجاه صلاة التراويح، حيث أقرها خليفة الفاطميين المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله في تونس قبل وصولها إلى مصر، وهذا يعكس تقلب السياسات والمواقف في تلك الفترة.
لم تكن قرارات الحظر والسماح بصلاة التراويح ثابتة، بل كانت متقلبة بحسب السياسات والأوضاع السياسية في تلك الفترة، حيث كان الحاكم الفاطمي يصدر قرارات بالمنع والسماح بصلاة التراويح بشكل متقطع.
صلاة التراويح شهدت فترات متقلبة في تاريخها بين الحظر والسماح. وكانت قرارات الحكام الفاطميين تُعتبر من القرارات المزاجية التي كانت تُحدث تأثيرًا ملموسًا على المسلمين في تلك الفترة.
دوافع متعددة لتوقف صلاة التراويح
صلاة التراويح تعكس أبعاداً متعددة من التاريخ والسياسة والدين في العالم الإسلامي. حيث تأثرت بالقرارات السياسية والمعطيات الاجتماعية والصراعات الفكرية. يتضح ذلك في سياق متعدد:
1. التحيزات الفكرية: في الجناح الشرقي للخلافة العباسية. منعت جماعة الحشاشين التراويح في مناطقهم ثم سمحوا بها في وقت لاحق. وهو ما يرتبط بصراعات السلطة والتوجهات الدينية المختلفة.
2. التغيرات السياسية: يُذكر وصول رسول جلال الدين حسن إلى بغداد وتغييرات القوانين التي سمحت بإقامة التراويح. وهو ما يبرز تأثير السياسة والسلطة في تنظيم الشؤون الدينية.
3. الأزمات العامة: تعطل صلوات التراويح في بعض الأحيان بسبب الأزمات العامة مثل الجوائح الطبيعية والأوبئة والحروب. مما يوضح أن التراويح تعتمد أيضًا على الظروف الاجتماعية والأمنية.
4. الصراعات السياسية والاجتماعية: تجسد حالات توقف صلاة التراويح نتيجة الصراعات السياسية والتحيزات الفكرية. مثلما حدث في بغداد والمغرب خلال فترات معينة من التاريخ.
5. المصالح السياسية: تضع السلطة في بعض الأحيان مصالحها السياسية أعلى من الاعتبارات الدينية. كما حدث عندما قام المستظهر باللَّه بفتح جامع القصر وسمح بإقامة التراويح فيه.
في النهاية، تظهر صلاة التراويح كمرآة تعكس تشابك السياسة والدين والظروف الاجتماعية في التاريخ الإسلامي. وكيف أن القرارات السياسية والأحداث العامة كانت لها تأثير ملموس على تنظيم الشعائر الدينية.
تعدد محاريب التراويح في الحرم المكي
في مشهد لا يخلو من التنوع والتعدد. كانت إقامة صلاة التراويح في الحرم المكي تحكي قصة متعددة الأبعاد والمحاريب المختلفة. وهي تجسد مظهرًا فريدًا من التاريخ الإسلامي يعكس التعددية الدينية والفقهية والتنظيم الاجتماعي في ذلك الوقت.
في أوقاتها، كانت الحرم المكي شاهدًا على تنوع المحاريب. حيث كان من المعتاد أن يصلي إمام من المذهب الشافعي أمام باب الكعبة، وإمام من المذهب الحنفي أمام حجر إسماعيل. وإمام من المذهب المالكي بين الركنين اليماني والشامي، وإمام من المذهب الحنبلي مقابل الحجر الأسود. وكانت هذه الترتيبات تُلقى الضوء على الاختلافات الفقهية والتنظيمية بين المذاهب الفقهية المختلفة.
يعود تاريخ هذه العادة إلى فترة مبكرة، حيث شهدت الحرم المكي تعدد المحاريب منذ سنة 497هـ/1104م. واستمرت هذه العادة حتى تمكنت آل سعود من السيطرة على الحجاز في سنة 1344هـ/1923م. ومن اللافت أن هذا التقليد لم يكن محصورًا في الحرم المكي فقط، بل انتشر أيضًا في المساجد الأخرى. مثل المسجد الأقصى ومسجد الخليل في فلسطين وجامع مصر. مما يعكس انتشار هذا التعددية في مختلف أقطار العالم الإسلامي.
ويوثق تاريخ هذه المظاهر بشكل وافٍ، حيث يروي المؤرخون والمسافرون القصص والحكايات عن تلك الأوقات. مثل الشهود الذين وصفوا احتفالات رمضان في مكة. وكيف كان المسجد الحرام يضج بالأصوات والأدعية والقراءات في تعدد محاريب التراويح. مما يعكس حيوية وتنوع الشعائر الدينية والثقافية في تلك الفترة.
بهذه الطريقة، تظهر تعدد محاريب التراويح في الحرم المكي كجزء لا يتجزأ من تاريخ وتراث العبادات الإسلامية. وكما هو الحال دائمًا. فإن هذه التجليات الدينية تعكس التنوع والغنى الثقافي والفكري في عالمنا الإسلامي المتنوع والمتعدد الأوجه.
ضبط تنظيمي: تعدد المحاريب في الأقصى والمساجد الإسلامية
يُظهِر تاريخ صلاة التراويح تنوعًا وتعددًا في تنظيمها وممارستها. وهذا الظاهرة لم تقتصر على الحرم المكي بل امتدت إلى المساجد الإسلامية الأخرى، ومنها المسجد الأقصى المبارك. يبدو أن هذا التعدد لم يكن محصورًا في زمان معين بل ظهر في عدة فترات تاريخية. مما يشير إلى استمراريته ووجوده كجزء من تقاليد العبادات الإسلامية.
ابن العربي المالكي شهد هذه الظاهرة في المسجد الأقصى وسجلها في كتابه “أحكام القرآن”. حيث وصف تعدد المحاريب وأداء التراويح بأسلوب يوضح الانسجام بين المذاهب المختلفة في الصلاة. وكذلك، يروي الرحالة الأندلسي أبو البقاء البَلَوي مشاهداته في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان. مشيرًا إلى تنوع جماعات التراويح وازدحام المصلين في هذه الفترة الرمضانية.
ومع ذلك، تدخلت السلطات في بعض الأحيان لتنظيم هذا التعدد وتوحيده. خاصةً في المساجد الكبيرة التي شهدت اضطرابات في تنظيم التراويح. وقد جاء ذلك من خلال توجيهات وأوامر من الحكام والسلطات المحلية لتوحيد المحاريب وتخفيف الاضطرابات التي قد تحدث نتيجة للتنوع الكبير في طرق أداء التراويح.
تاريخيًا، تعكس هذه الظاهرة الدينية التعدد والتنوع في العبادات الإسلامية. وكيفية التفاعل بين المجتمعات المختلفة والتعايش السلمي بين المذاهب المختلفة. ومن الملاحظ أن هذا التعدد لم يكن فقط في الأقصى والحرم المكي، بل امتد إلى مساجد كثيرة في العالم الإسلامي. مما يعكس الثراء والتنوع الثقافي والديني في تلك الفترات التاريخية.
إمامة الصبيان في التراويح: تقليد تاريخي وعبادي متجذر
تمتاز شهرة إمامة الصبيان في صلاة التراويح بالجوامع الإسلامية وخاصة في الحرم المكي بعراقة تاريخية تمتد لعدة قرون. على الرغم من وجود خلافات بين العلماء حول صحة هذا التقليد، فإنه أصبح جزءًا من التقاليد العبادية في بعض المدن الكبرى.
يُذكر أن الرحالة المقدسي وغيره من المؤرخين ذكروا تفاصيل عن عادة إمامة الصبيان في التراويح، حيث كان الأطفال يؤمون المصلين بعد تحصيلهم لحفظ القرآن وتجاوزهم سن الطفولة. وقد تبنى هذا التقليد بقوة في بعض الأماكن كبغداد وشيراز والحجاز ومصر.
يعكس تاريخ هذا التقليد تفاعلًا اجتماعيًا وثقافيًا متجذرًا في المجتمعات الإسلامية، حيث كانت إمامة الصبيان تُعَدُّ مظهرًا من مظاهر الاحتفاء بالعبادات وتشجيع الشباب على التفاعل الديني والثقافي.
علاوة على ذلك، فإن إمامة الصبيان تعكس روح التسامح والتعايش بين المذاهب المختلفة في الإسلام، حيث كانت هذه العادة موجودة في جميع المذاهب الفقهية وكان الناس يقبلون عليها بسهولة ويشاركون فيها بانتماء وحب.
وعلى مر العصور، تواصلت عادة إمامة الصبيان في التراويح بالحرم المكي وغيره من المساجد الكبرى، وكانت تُعَدُّ بمثابة فخر للأسر وتشجيع للشباب على حفظ القرآن والاهتمام بالعبادات.
مقادير ركعات التراويح: تطورات تاريخية وفق المذاهب الفقهية
ركنٌ أساسي في شهر رمضان هو صلاة التراويح، وقد شهدت مقادير ركعاتها تطورات تاريخية حسب الفقهيات والمذاهب المختلفة. في الحرمين الشريفين، لم توحد مقاديرها حتى القرن الرابع عشر الهجري تحت الحكم السعودي.
في الحرم المكي، كان المكيون يصلون عشرون ركعة من التراويح المعتادة، تليها ركعات الوتر الثلاث. أما المدنيون فكانوا يصلون تسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر، حسب قول الإمام الشافعي.
وفي المدينة المنورة، تغيرت مقادير التراويح تحت إشراف المحدث زين الدين العراقي الكردي، حيث كانت عشرون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات، وفي آخر الليل كانت ست عشرة ركعة.
في مصر، تراوح عدد ركعات التراويح بين الحرية الفقهية والتحديد الحكومي. وقد شهدت هذه العادة تغيرات كبيرة، حيث كانت ست ترويحات أو 12 ركعة تعتبر المعتادة حتى سنة 253 هـ.
أما في بغداد تحديدًا، عينت السلطات عدد ركعات التراويح بست تراويح فقط في سنة 253 هـ، وذلك كمبادرة رسمية.
العلماء ساهموا في بيان مقادير ركعات التراويح من خلال كتب ومؤلفات متعددة، مثل كتب “فضل التراويح” للحافظ النقاش و”كتاب التراويح” للإمام حسام الدين الشهيد.
ومن المؤلفات الأخرى: “صلاة التراويح” لابن عبد الهادي الجماعيلي و”ضوء المصابيح” للقاضي تقي الدين السبكي، ما يوضح أن هذا الجانب العبادي قد شغل اهتمام الفقهاء والمحدثين على مر العصور.
احتفاء واسع بصلاة التراويح في التاريخ الإسلامي
منذ العصور الإسلامية الأولى، احتلت صلاة التراويح مكانة مميزة في قلوب المسلمين، فكانت لحظة احتفاء واسعة بها خلال شهر رمضان. تعكس هذه الصلاة الروحانية تفاعل جميع فئات المجتمع المسلم، سواء رجالًا أو نساءً وحتى الأطفال.
يشير ابن بطوطة إلى “سوق المغنين” في الهند حيث كانت النساء والرجال يصلون التراويح بجماعات كبيرة، مما يظهر التفاعل الاجتماعي الواسع لهذه الصلاة المباركة. وفي القاهرة المملوكية، كان “سوق الشمّاعين” يشهد إقبالًا كبيرًا في ليالي رمضان، حيث كان الصبيان يصلون التراويح ويتمتعون بالأجواء الروحانية.
يتذكر أبو البركات السويدي البغدادي تفاصيل صلاة التراويح في دمشق، حيث كانت الصلاة تقام بجامع الأموي وترافقها حفاوة اجتماعية غير مسبوقة، بمشاركة النساء والرجال وحتى الأطفال الذين كانوا يلهون في فضاء الصلاة.
ولكن، لم تخل صلاة التراويح من بعض المنغِّصات أحيانًا، حيث كانت بعض الحوادث تعكر صفو الجماعات المصلية. يذكر شهاب الدين البديري حادثة زلزال مزعج خلال صلاة التراويح في دمشق، مما أدى إلى إيقاف الصلاة وفوضى بين المصلين.
على الرغم من ذلك، استطاع الشعراء تسليط الضوء على جماليات صلاة التراويح ومناسك رمضان بأسلوب أدبي راقي. يُذكر قصيدة للشاعر ابن الجزّار التي تعبّر عن إعجابه بصلاة التراويح وقراءة سورة الأنعام في ركعة واحدة، مما يبرز الاحتفاء الثقافي بتلك اللحظات المميزة.
بهذه الطريقة، تظهر صلاة التراويح كمظهر ملموس للتفاعل الاجتماعي والروحاني العميق الذي يحتفي به المسلمون في شهر رمضان.
اقرأ كذلك: عرق السوس: مشروب رمضاني شربه نابليون في آخر لحظاته ووزعه الإسكندر على جنوده