ولد السلطان علي دينار عام 1868 في قرية الشاواية شمال غرب نيالا، عاصمة دارفور. ينتمي إلى أسرة حاكمة، فوالده الأمير زكريا كان والياً على إمارة شرق دارفور، ووالدته الميرم كلثومة، المعروفة باسم “كلتومو نونو”، كانت سيدة ثرية وكريمة وذات رأي في مجتمعها المحلي. توفي والده وهو صغير، ولم يكن له أخ شقيق إلا أخته الميرم تاجة، فكانت تربيتها وحمايتها من مسؤوليات والدية مهدت له طريق القوة والاستقلالية. بعد وفاة والده، تزوجت والدته من الفقيه مكي جبريل من قبيلة بني منصور، الذي لعب دوراً بالغ الأثر في تربية علي دينار، فغرس فيه العلم الديني وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وأكسبه بلاغة في اللغة العربية وفهماً واسعاً للشؤون السياسية والاجتماعية. توفيت والدته بلدغة ثعبان سام أثناء انشغاله بالمقاومة والجهاد، فأقام لها ضريحاً وحفراً في المنطقة سميت “أم كلنا”، تخليداً لذكراها.
ظروف توليه السلطنة
عام 1873 غزت الإدارة المصرية دارفور بعد مقاومة طويلة، وأسفرت المعارك عن مقتل السلطان إبراهيم وسقوط العاصمة الفاشر. رغم سقوط الفاشر، لم تنتهِ سلطنة الفور، بل تشكلت حكومة ظل وجبهة مقاومة سرية بقيادة السلطان حسب الله محمد الفضل، الذي لجأ إلى جبل مرة قبل أن يُنفى إلى القاهرة مع بقية أولاد السلاطين. لاحقاً، تولى هارون بن سيف الدين السلطنة حتى مقتله عام 1880، وتلاه السلطان أبو الخيرات الذي قاد المقاومة أثناء سيطرة الدولة المهدية على السودان. شارك علي دينار في معسكر المقاومة بجبل مرة، واكتسب خبرة واسعة على المستوى السياسي والعسكري والتنظيمي. بعد مقتل أبو الخيرات، بويع علي دينار سلطاناً عام 1890 تحت لقب “عبد ربه أمير المؤمنين السلطان علي دينار”، وقرر اتباع سياسة مصالحة مع الحركة المهدية.
إعادة بناء النظام السياسي والعسكري
اتجه علي دينار صوب الفاشر عام 1893، حيث استقبله حاكمها استقبالاً حافلاً، واستدعاه الخليفة عبد الله التعايشي إلى أم درمان وجعله ضمن حرسه الخاص. خلال هذه الفترة، فتح قنوات التواصل مع قيادات الفور وكبار المسؤولين في الدولة المهدية، واستطاع جمع صفوفهم بعيداً عن رقابة الخليفة، إلى أن فر بهم عند اقتراب الحملة الإنجليزية المصرية على أم درمان عام 1898. عاد بعدها إلى الفاشر وأعلن نفسه سلطاناً، واتخذ خاتماً رسمياً رمزاً للسيادة. أرسل خطاباً إلى الحكومة الثنائية في الخرطوم، يعرض دفع ضريبة سنوية مقابل الاعتراف باستقلال دارفور وسيادته عليها، وهو ما تحقق رسمياً عام 1900.
بعد تثبيت سلطته، بدأ علي دينار إعادة الحدود القديمة لسلطنة دارفور وفرض الأمن وهيبة الدولة، وشن حملات عسكرية لتأديب القبائل المتمردة ومواجهة جيوب المهداوية. خاض أطول معاركه ضد الفكي سنين حسين بين 1900 و1908، حتى القضاء على آخر معاقل المهداوية. كما خاض حروباً أخرى في دار مساليت، حتى أحكم سيطرته على كل الأراضي التي كانت تحت إدارة أجداده. أنشأ نظاماً قضائياً مستقلاً يعتمد الكتاب والسنة كمصدر للتشريع، وعين مقدوماً لإدارة الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأنشأ جيشاً لحماية البلاد.
إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية
بعد سنوات الحرب الطويلة، شرع علي دينار في إعادة إعمار دارفور وإنعاش الحياة الاقتصادية والاجتماعية. عمل على إعادة الزراعة بتوفير بذور الدخن والطماطم وأشتال الفواكه من بلاد الشام. استورد سلالات محسنة من الحيوانات الأليفة، وجلب الأشجار المثمرة النادرة مثل السدر. بنى المساجد في الفاشر وكبكابية والشاواية وفورقو، وجدد سقف مسجد طرة، وأقام أضرحة للسلاطين التسعة المدفونين فيه.
في عام 1911، شيد قصره الشهير في الفاشر، وتميز بحدائقه الظليلة وأحواض الأسماك وصفوف الأعمدة وأرضياته المغطاة بالرمل الفضي. كما زينت جدران القصر الداخلية بآيات قرآنية وتصاميم هندسية رائعة. كان القصر مركزاً للحكم والعلم، ومنه انطلقت قوافل طلاب العلم نحو الأزهر والحجاز والزيتونة وبيت المقدس.
العلاقات الخارجية والدبلوماسية
أعاد السلطان علي دينار تقليد إرسال المحمل إلى المشاعر المقدسة، مراسلاً الخليفة العثماني لاستئناف هذا التقليد الذي استمر على مدى 870 سنة. كان المحمل يحتوي على نفائس دارفور لتُوظف في أعمال خيرية وخدمات عامة مثل تأهيل طرق الحج وكسوة الكعبة ودفع أجور الأئمة والعلماء. أنشأ مصنعاً لكسوة الكعبة في دارفور، واهتم بالصناعات المحلية والتعدين، فشجع استخراج الحديد والنحاس وصناعة الأدوات الزراعية والطلقات والأسلحة البيضاء. كما ازدهرت صناعة الغزل والنسيج واستؤنف إنتاج الملح في جبل مرة. أنشأ عملة وطنية باسم “الرِضينا” وصكها في الفاشر، بعد أن كانت التبادلات تعتمد على المقايضة.
حربه ضد الإنجليز
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، رفض علي دينار التعاون مع الإنجليز، وقرر الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية. أوقف دفع الضريبة للإنجليز وراسل السلطان العثماني لإبلاغه باستعداده للجهاد. خشيت بريطانيا من تأثير موقفه على المسلمين في المنطقة، فأرسلت جيشاً عام 1916 قوامه 3 آلاف جندي، وبدأت الحملات الجوية والاستطلاعية فوق الفاشر لإجباره على الاستسلام. اختار السلطان نقل المعركة بعيداً عن العاصمة، فتوجه جيشه إلى منطقة “سيلي”، حيث دارت معركة غير متكافئة استخدم فيها الإنجليز المدافع الحديثة، مقابل استخدام جيش دارفور الأسلحة البيضاء والبنادق المصنوعة محلياً. انتهت المعركة بهزيمة السلطان ومقتل عدد من قادته، فانسحب إلى جبل مرة لتنظيم صفوفه، لكن بعض رجاله خانه وكشفوا موقعه.
نهاية سلطنة دارفور
في صباح الاثنين 6 نوفمبر 1916، وأثناء صلاة الفجر مع أتباعه، باغته الإنجليز وأطلقوا النار عليه، فاستشهد السلطان علي دينار مع عدد من رجاله. بذلك انتهت سلطنة دارفور التي حافظت على استقلالها لمدة 18 سنة. بعد وفاته، ضُمّت دارفور إلى السودان، وعين الإنجليز محمود الدادنقاوي على إدارة الفاشر، وقسموا دارفور إلى خمسة مراكز تحت إشراف مفتشين إنجليز. تحول قصر السلطان لاحقاً إلى مقر رسمي للجيش البريطاني، ثم مديرية دارفور، ثم نادي للضباط، وفي عام 1977 حوّله الرئيس الراحل جعفر النميري إلى متحف تابع لإدارة الآثار.
عام 2016، أدرج متحف قصر علي دينار ضمن قائمة التراث العالمي، ورممته الحكومة التركية، ويحتوي على مقتنيات فترة حكمه، منها كرسي السلطان، وأسلحة، ومخطوطات، وأختام، وملابس، وعملات فضية ومذهبة. وفي عام 2022، أقامت الحكومة التركية احتفالية بمناسبة الذكرى الـ106 لاستشهاده بحضور ممثلين عن الحكومة التركية وأسرة السلطان وسفير السودان وعدد من المنظمات المدنية.
اقرأ كذلك: من قتل فاضل البراك؟ القصة الكاملة لأحد أهم رجال صدام حسين
