ما بعد الحرب في غزة .. ماذا حققت الأطراف المتصارعة؟
استراتيجيات المقاومة وتحديات السياسة في مرحلة ما بعد الحرب في فلسطين
منذ الأيام الأولى للحرب على قطاع غزة، بدأ الاحتلال الإسرائيلي وداعموه بالحديث عن وضع القطاع بعد حركة المقاومة الإسلامية (حماس). يهدفون من خلال ذلك إلى تعزيز الجانب النفسي للعمليات العسكرية التي تستهدف سكان القطاع. وأيضًا الدول التي قد تتعاطف مع الفلسطينيين ومقاومتهم.
أما الهدف الثاني لهذا الحديث، فهو توفير غطاء سياسي لجرائم الحرب الإسرائيلية. حيث يُحاولون إيهام العالم بأن هناك هدفًا سياسيًا مقبولًا وسيحدث قريبًا نتيجة لهذه الحرب. وهذا يقلل من مستوى ردود الفعل الدولية والشعبية على هذه الجرائم غير المسبوقة.
في المقابل، يقوم الفلسطينيون وأنصارهم بتداول الأفكار والمقترحات التي تعبر عن رؤيتهم ومصالحهم فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة بعد الحرب. وتعتمد أغلب تلك التصورات على افتراض وقف حالة الحرب في المستقبل القريب. على الرغم من أن هذا الأمر غير مؤكد بسبب تصاعد التوتر السياسي بين الأطراف الرئيسيتين في الصراع واقترابهما من مفترق طرق يمكن أن يؤدي إلى تصاعد الصراع بشكل كبير.
سيناريوهات ما بعد الحرب في قطاع غزة
تمت مناقشة عدة سيناريوهات بشأن ما سيحدث في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. ويمكن تلخيصها كما يلي:
1. عودة السلطة الفلسطينية كسلطة منفردة بعد تنشيطها. وفقًا للرؤية الأميركية التي أعلن عنها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في 15 ديسمبر الماضي.
2. نشر قوات عربية أو دولية في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وهو السيناريو الذي أعلنت إسرائيل موافقتها عليه. وفقًا لما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية في 16 نوفمبر 2023.
3. السيطرة الإسرائيلية على الأمن في المدى البعيد، حتى في وجود سلطة مدنية محلية. وهو الموقف الذي أعلن عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 22 يناير 2024.
4. تهجير سكان القطاع إلى خارج فلسطين، سواءً إلى مصر أو دول بعيدة عبر البحر. وهذه المواقف تم ذكرها من قبل وزيري المالية والأمن القومي الإسرائيليين في 4 ديسمبر 2023.
سيناريوهات مستقبلية للفلسطينيين بعد الحرب في قطاع غزة
فيما يتعلق بالفلسطينيين، تم تداول عدة سيناريوهات لما قد يحدث بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة، وتتضمن هذه السيناريوهات:
1. حدوث توافق بين حركة حماس وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) أو السلطة الوطنية الفلسطينية بشأن إدارة القطاع والضفة الغربية. وهو الأمر الذي يتماشى مع التصريحات التي صدرت من رئيس حماس إسماعيل هنية في 13 ديسمبر 2023.
2. استمرار الوضع الحالي، حيث تحتفظ حركة حماس بالسيطرة على القطاع. ويظل الوصف القانوني للقطاع كجزء من السلطة الوطنية الفلسطينية كما هو.
3. إقامة إدارة مدنية محلية لا تنتمي بالضرورة للسلطة الوطنية الفلسطينية. مع وجود القطاع كأرض محررة يتمتع فيها بسيطرة سياسية معينة تتولى إدارة الشؤون المدنية حتى تحقيق التحرير الكامل. وهذا السيناريو يعكس اعتقادًا بأن الضفة الغربية لا تزال تحت الاحتلال.
التحديات والسيناريوهات المستقبلية بعد حماس في قطاع غزة
بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة، يبدو أن إسرائيل ليست لديها رؤية سياسية ناضجة بشأن ما سيحدث في المستقبل. هذا يعود إلى العديد من الأمور، بما في ذلك مفاجأة العملية العسكرية الفاشلة المعروفة بـ “طوفان الأقصى” وانهيار استراتيجيتها السابقة للتعامل مع حركة حماس في قطاع غزة. استنادًا إلى هذه الاستراتيجية، التي اعتمدت عليها لمدة عقد ونصف العقد، فإن الهموم الأمنية تسيطر على الأفق. مما يجعل من الصعب طرح أي خيار سياسي قابل للقبول من قبل حلفاء إسرائيل الأقربين، بما في ذلك الولايات المتحدة.
في البداية، كان هناك رهان على فكرة التهجير، ولكن تم إحباطه بسبب صمود الشعب الفلسطيني وأداء المقاومة في غزة. هذا أعاق جهود الولايات المتحدة في تسويق هذا الخيار إقليميًا، وظهرت مواقف عربية رافضة لفكرة التهجير. وذلك تزامنًا مع زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للمنطقة في منتصف أكتوبر الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت محاولات من اليمين المتطرف لاستغلال الحرب لفرض وقائع جديدة في الضفة الغربية. بهدف تهجير الفلسطينيين إلى الأردن وتقويض دور السلطة الفلسطينية، وتقييدها في مجال الأمن والخدمات فقط.
فيما يتعلق بإعادة احتلال القطاع، يبدو أن إسرائيل ليست لديها القدرة أو الرغبة الواضحة لذلك بشكل مباشر. ومع ذلك، فإنها تسعى إلى تحقيق مكاسب بتكلفة منخفضة من خلال إقامة إدارة مدنية تخضع للسيطرة الإسرائيلية ويتم تمويلها من قبل المجتمع الدولي وبعض الدول العربية. في هذا السيناريو. ستظل إسرائيل تحتفظ بالسيطرة الأمنية والحق في الدخول والتصرف كما تشاء. وهذا ما تم التلميح إليه في تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت.
هذا الحل لن يكون مقبولًا بالنسبة للفلسطينيين في قطاع غزة. خصوصًا بعد أن عاشوا خارج سيطرة الاحتلال المباشر منذ انسحاب إسرائيل من القطاع في عام 2005. وهذا ينذر بوجود صراع محتمل إذا حاولت إسرائيل وحلفاؤه فرض أي سيناريو مشابه.
أهمية الميدان في تأثير مستقبل قطاع غزة
بعد مضي أكثر من 100 يوم على الحرب في قطاع غزة، وبناءً على صمود المقاومة وتماسك الشعب في وجه التوغل الإسرائيلي على الأرض. يبدو أن إسرائيل والإدارة الأميركية يدركان بشكل متزايد أن إقصاء حركة حماس من المشهد ليس أمرًا سهلاً.
هذا الواقع يدفع نحو سياسة تشديد الضغط على حماس ودعوتها إلى قبول ترتيبات تلبي الحد الأدنى من مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل.
مع ذلك، يبقى العمل المقاوم مشكلة معقدة. بالنسبة لحماس وبقية فصائل المقاومة. يعد هذا العمل مبررًا لوجودهم. سواء من خلال النشاط العسكري المقاوم أو بوسائل أخرى مثل تصنيع الأسلحة وبناء الأنفاق والتدريب.
على الجانب الآخر، القلق الإسرائيلي الحالي يتمحور حول مسألة الأمن. وهذا يدفع حكومة الاحتلال إلى مقاومة الضغوط الداخلية والخارجية لتقويض القوة العسكرية والمدنية لحماس.
إجمالًا، نجد أن الوضع يتعامل بصعوبة كبيرة من قبل الطرفين. وبالرغم من ذلك، هناك تحديات أكبر قد تواجه الإدارة الأميركية والدول الغربية في محاولاتها لعودة السلطة إلى قطاع غزة، وهذه السيناريوهات تعني أن حماس قد تظل في القطاع مرتبطة بتأثيرات الحرب وبوجود قوات أمنية فلسطينية أو دولية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا السيناريو يبدو ضعيفًا.
الرهان على السلطة ومستقبل تسوية الصراع الفلسطيني
تصمم الولايات المتحدة على التحدث عن حلول المواجهة في إطار عملية تسوية سياسية ومشروع حل الدولتين. أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه يجب توحيد قطاع غزة والضفة الغربية تحت هيكل حكم واحد، وأهمية وجود سلطة فلسطينية متجددة لتحقيق حل الدولتين.
ترى الإدارة الأميركية أن الحفاظ على هذا الإطار السياسي أمر بالغ الأهمية، على الرغم من صعوبة تحقيق هذا الحل. يبدو أن هدفها الرئيسي هو الاحتفاظ بدورها في إدارة الصراع دون الوصول إلى حل نهائي. هذا يشبه إلى حد كبير محاولة التهدئة دون التوصل إلى حلاً شاملاً، مما يهدف إلى تهدئة الشعب وتقليل مشاركته في مقاومة الاحتلال.
علاوة على ذلك، تسهم استمرارية هذا المسار في تنظيم التحالفات الإقليمية حسب رغبة الولايات المتحدة من خلال توفير دعم للتطبيع الإسرائيلي العربي وتحويل العداء إلى تحالف بين الدول العربية وإسرائيل من جهة، وبين إيران وحلفائها من جهة أخرى.
تعمل الإدارة الأميركية أيضًا على منع روسيا والصين من الاستفادة من هذه الأزمة لتعزيز مكانتهما الدولية وتوسيع نفوذهما، خاصة فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا والصراعات الإقليمية.
وفي هذا السياق، تشير بعض المواقف الأميركية إلى أهمية أن تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية قطاع غزة وتكون مستعدة للقيام بهذا الدور. ومع ذلك، فإن السلطة الفلسطينية غير قادرة على تحمل هذا الدور، لأنها ليست لديها الشرعية السياسية التي تغطي أي دور أمني. هذا يعني أنها ستواجه تحديات كبيرة وصراعات مع سكان القطاع إذا ما قررت تولي هذا الدور، ما لم تتم توافقات مع حركات المقاومة بشكل خاص.
فساد وصراع: تحديات تواجه السلطة الفلسطينية
تتزايد تحديات السلطة الفلسطينية بسبب ارتفاع مستوى الفساد والصراع الداخلي في حركة فتح. هذا الصراع يندرج ضمن الخلافات السياسية بين مكونات الحركة والصراع على مناصب الرئاسة في السلطة الوطنية والمنظمة والحركة.
تصاعدت تلك التحديات بشكل كبير نتيجة الوضع الكارثي في غزة، حيث صعب على السلطة التعامل مع هذا الوضع بفعالية واستجابة للمساعدات الدولية بسبب الاتهامات الواسعة بالفساد التي تلاحقها. تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية للعام 2020 كشف عن حجم الفساد الذي انتشر في مختلف القطاعات والمؤسسات، بما في ذلك هيئة مكافحة الفساد نفسها.
من الملاحظ أن موقف السلطة تغير بشكل تدريجي من الاتهامات الموجهة للحكومة الإسرائيلية والمجتمع الدولي بتفجير الأوضاع إلى التحدث عن التنسيق مع الولايات المتحدة لإدارة غزة بعد تحييد حركة حماس. هذا التحول يأتي في سياق تزايد شعور السلطة بفقدان دعم الشعب الفلسطيني وتفضيله للمقاومة.
يظهر أن هناك كتلة بشرية مرتبطة بمصالحها بالسلطة تتجه نحو دعم الاحتلال والتحالف مع الدول المتحالفة معه، وهذا يزيد التوترات والانقسام داخل الفلسطينيين. لحل هذا التوتر، يجب أن يتخذ الجمهور الفلسطيني وحركة فتح مواقف تسعى إلى عزل أي قيادة تخضع للضغوط الأميركية وتهدف إلى تنفيذ سلطة تتناسب مع مصالح الاحتلال.
حسابات المقاومة: تحديات واستراتيجيات في ما بعد الحرب
رغم الدمار الشامل والفاتورة الإنسانية الباهظة للحرب الأخيرة، إلا أن مستوى المقاومة الفلسطينية لا يزال مرتفعًا. تشير إشارات من المقاومة إلى استعدادها لقبول ترتيبات مرحلية قد تخفف من حدة التصعيد.
هذا الموقف يعكس ثقة المقاومة في أنها لا تزال القوة الرئيسية في الوضع، وأنها ضرورية لأي ترتيبات مستقبلية. إلى جانب ذلك، تدرك المقاومة أن الوضع الإقليمي والدولي لا يمكنها السيطرة عليه بشكل كامل في الوقت الحالي، وهذا يجعل من الصعب تحقيق أهدافها الكبرى، مثل تحرير غزة وبقية فلسطين.
المقاومة تعرف أيضًا أنها لن تستطيع تحمل وحدها عبء إعادة إعمار القطاع وإدارته بمفردها. لذا يظهر أنها تتجه نحو تفادي الالتزام بالتسوية السياسية والسماح بحضورها في أي حوارات مستقبلية.
من المهم أن تفضح هذه المواقف السياسية الإقليمية والدولية وتفتح الباب أمام الحوارات المبكرة مع الأطراف المعنية، مثل قطر وتركيا ومصر، بالإضافة إلى حركة فتح. إذا لم تستطع تحقيق التوافق مع هذه الأطراف، فإن سيناريو الصدام مع الحركة وعدم السماح لها بتحقيق السيطرة على غزة سيظل قائمًا، مما يعني استمرار التوترات والصراع في المنطقة.
اقرأ كذلك: كاتب إسرائيلي يتحدث عن توسيع الحدود إلى مكة والمدينة وجبل سيناء