تهجير الفلسطينيين ..حلم إسرائيلي لا يتوقف
خصوصية غزة ومجتمعها: دور الوعي والتجربة في مواجهة مشروع التهجير والتحديات النفسية والنضالية

منذ بداية الحرب الإسرائيلية في غزة في أكتوبر تشرين الأول بعد عملية “طوفان الأقصى”. أثارت العديد من التساؤلات والتكهنات حول ما قد تكون عواقب هذا الصراع. تزايدت هذه التساؤلات مع تصاعد وتيرة الهجمات الإسرائيلية على القطاع. مما جعل الناس يتساءلون عن أهداف إسرائيل وما إذا كانت تستهدف شيئًا أكبر من مجرد الرد العسكري.
تكثفت التساؤلات بعد التصريحات الإسرائيلية التي أعلنت رغبتها في القضاء على حركة حماس تمامًا ودعوتها لأهالي شمال غزة للتحرك جنوبًا. مع تصاعد القصف في المناطق الشمالية، بما في ذلك استهداف المستشفيات والمدارس والمخابز. بدأ الناس يتساءلون عما إذا كانت إسرائيل تنوي تهجير السكان من القطاع والمضي في حرب طويلة مع المقاومة. هذا المشهد وضع مسألة “التهجير” في مركز الاهتمام الدولي وأصبح موضوعًا مركزيًا في تحليلات الوضع.
التهجير الفلسطيني: مسلسل مستمر منذ النكبة
حسب ما أفاد به جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (PEBS) حتى عام 2023. يبلغ عدد الفلسطينيين المتواجدين في أراضي ما يُعرف اليوم بـ”دولة فلسطين”، أي في الضفة الغربية وغزة. حوالي 5.48 مليون شخص، ما يمثل نسبة قرابة 38% من إجمالي عدد الفلسطينيين الذين يبلغون حوالي 14.5 مليون شخص حول العالم. وهذا يشير إلى أن 62% من الفلسطينيين يعيشون خارج أوطانهم. وهذا الوضع يعود بشكل رئيسي إلى حدثين رئيسيين في تاريخ القضية الفلسطينية: حرب عام 1948 (النكبة) والحملات التي أعقبتها لتهجير الفلسطينيين قسريًا حتى عام 1949. وحرب يونيو/حزيران 1967 (النكسة).
عملت العصابات الصهيونية في عملية تهجير الفلسطينيين في عام 1948 بشكل رئيسي على ارتكاب العديد من المجازر ضد بعض القرى الفلسطينية. بهدف ترويع الفلسطينيين ودفعهم لمغادرة أوطانهم. تميزت هذه الحالة بالمذبحة في دير ياسين، التي تعتبر نموذجًا أساسيًا في هذا السياق ولعبت دورًا مهمًا في تهجير الفلسطينيين في عام 1948. واستمر الاحتلال في تهجير الفلسطينيين بوضوح حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
تجاه الفلسطينيين المهجرين، انتقلوا في اتجاهات متعددة. بدءًا من الضفة وغزة وصولاً إلى الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق. وهذه المناطق استقبلت أكبر نصيب من اللاجئين الفلسطينيين. على سبيل المثال. يضم الأردن اليوم أكثر من أربعة ملايين فلسطيني مجنس ولاجئ. بينما توجد مجموعات صغيرة من الفلسطينيين في جزر الكاريبي البعيدة.
الهجرة الفلسطينية: تاريخ مستمر من النزوح
يشير العديد من المصادر إلى أن الهجرات الفلسطينية بدأت قبل عام 1948 نتيجة الضغوط التي فرضها الانتداب البريطاني والعصابات اليهودية على الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن تهجير الكتلة الكبيرة خلال النكبة في عام 1948، حيث بلغ عدد النازحين قرابة 700 ألف فلسطيني. كانت نقطة تحول في هذا السياق وكشفت عن الطبيعة الاستعمارية لتلك العصابات.
استمرت عمليات التهجير بين حرب عام 1948 وحرب عام 1967، وشكلت الأخيرة المرحلة الثانية الرئيسية للنزوح. حيث انتقل معظم النازحين إلى الأردن، وتقدر أعدادهم بأكثر من ربع مليون، بالإضافة إلى بعضهم الآخر الذين انتقلوا إلى مصر. وكان جزء كبير منهم قد هجر في عام 1948.
ولم تتوقف الهجرة الفلسطينية بعد حرب 1967. فعلى الرغم من أن تلك الحرب كانت الحرب الأخيرة التي شهدها الاحتلال وأسفرت عن تهجير واسع. إلا أن سياسات القهر والترحيل لاحقًا زادت من معاناة الفلسطينيين وزادت من تكاليف العيش المادية والنفسية في أراضيهم. هذه السياسات شملت التضييق الاقتصادي، وهدم المنازل، والاستيلاء على الأراضي، وتقييد حركة السكان، والاعتقالات. وتصاعد السياسات الأمنية. هذه الإجراءات دفعت العديد من الفلسطينيين، خاصة الشباب والنخب العاملة والمتعلمة. إلى البحث عن فرص في الخارج.
اقرأ كذلك : فارس غلوب الثائر .. بريطاني تحول إلى الإسلام وسطع بريقه في صفوف المقاومة
تصاعد مشروع الاستيطان الإسرائيلي: حلم الهجرة الدائمة
رغم التصريحات المستمرة من الاحتلال الإسرائيلي بالتزامه بتحقيق حلاً وفقًا لاتفاقية أوسلو ومفهوم “حل الدولتين”. إلا أن سياسته وأعماله على الأرض تكشف تمامًا عكس ذلك. يستمر الاحتلال في استيلاءه على الأراضي في الضفة الغربية وبناء المستوطنات فيها. وتنفيذ سياسات تهجير وتقييد على الفلسطينيين في الضفة والقدس. هذه السياسات تجعل الضفة تبدو اليوم أكثر إسرائيلية من أن تكون فلسطينية.
تظهر هذه السياسات أن مشروع الاحتلال للسيطرة على كامل الأرض الفلسطينية لا يزال حاضرًا بقوة في رؤية السلطات الإسرائيلية، وخاصة بعد تصاعد النفوذ للقيادة اليمينية المتطرفة في البلاد. تتجلى هذه الرؤية في التغير الكبير في أعداد المستوطنين في المناطق الفلسطينية. حيث ارتفع عددهم من 40 ألفًا في عام 1977 إلى 604 ألفًا في عام 2017، ومن المتوقع أن يصلوا إلى حوالي 1.9 مليون في عام 2050. أي ما يعادل 30% من سكان الضفة حينها. يتم دعم هذا النمو بواسطة “سياسة الاستيطان الرعوي” وسياسات أخرى متواصلة تنفذها إسرائيل.
باختصار، يبدو أن التهجير لا يزال حلمًا مستمرًا في مخيلة السلطات الإسرائيلية. ينتظر الفرصة المناسبة لتنفيذه من خلال مؤسساتها العسكرية والسياسية. يتباين المنطلق لهذا الهم بين اليسار الإسرائيلي الذي يروج لفكرة أن إقامة دولة فلسطينية تشكل تهديدًا وطنيًا لإسرائيل. وبين الجماعات اليمينية التي تعتبر ذلك واجبًا دينيًا يجب تحقيقه على نطاق واسع يتجاوز حتى فلسطين بأكملها. ولكن الهدف النهائي للكثير منهم يتمثل في السيطرة على مناطق مثل جبال نابلس والقدس لتمثيلهما كعواصم لممالك بني إسرائيل القديمة.
الهجرة في ظل الصراع: بين همسات السياسة وتحدِّيات التنفيذ
عادت مسألة الهجرة إلى الواجهة مرة أخرى، مثيرة للاهتمام الفلسطيني والعربي على حد سواء. خلال تطور المعركة الجارية في غزة. يأتي ذلك في ظل وضع هدف سياسي وعسكري للهجوم الإسرائيلي على غزة. والذي يهدف إلى القضاء على حركة حماس ووقف التهديد الذي تمثله. هذا الهدف يعني عملياً تنفيذ سياسة “الأرض المحروقة” بهدف السيطرة على غزة، التي تمثل تحت الأرض وفوقها جزءًا من وجود فلسطين.
مع تطور هذه السياقات، بدأت التصريحات العربية تتكرر برفض التهجير، منها تصريحات الأردن ومصر. مما يشير إلى أن مسألة التهجير باتت على الطاولة بغض النظر عن حجمها وتفاصيلها. يبدو أن هذه التصريحات تعكس ما يدور في الأروقة وتظهر في خريطة الحرب التي يشنها الاحتلال على الأرض. ويؤكدها وثيقة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية. تشير إلى أن تهجير الفلسطينيين من غزة نحو سيناء يعتبر الخيار الأكثر ملائمة من وجهة نظر الاحتلال.
تشير هذه الوثيقة الإسرائيلية إلى أن التهجير ما زال خيارًا مفضلًا لإسرائيل على المدى الطويل. حيث يرى الاحتلال أن نموذج السلطة الفلسطينية لم ينجح تمامًا. ونموذج التخلي عن الاحتلال كما حدث في غزة لم ينجح أيضًا. مما يجعل الهجرة خيارًا آخر ومفضلًا للجانب الإسرائيلي، على الرغم من تحدياته على ثلاثة مستويات رئيسية.
اقرأ كذلك : كيف يمكننا الوفاء بواجبنا تجاه فلسطين؟
التحديات المتراكمة أمام مشروع التهجير الإسرائيلي
تواجه مشروع التهجير الإسرائيلي العديد من العوائق، سواء على الصعيدين الدولي والإقليمي. وهذه العوائق تجعله أمرًا صعبًا ومعقدًا بالنسبة للسلطات الإسرائيلية.
من الناحية الدولية، تشكل التحديات الدبلوماسية الرئيسية عائقًا رئيسيًا أمام مشروع التهجير. فإسرائيل اكتسبت شرعيتها الدولية جزئياً من خلال عملية مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو عام 1993. والتي ربطت الاعتراف بدولة إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. وبالتالي. فإن أي محاولة للتهجير تهدد هذه الشرعية الدولية ومكانة إسرائيل في المجتمع الدولي. علاوة على ذلك. يتعين على إسرائيل أيضًا مواجهة تحديات إعلامية وسياسية كبيرة للترويج للتهجير كحلاً وحيدًا لاستقرار المنطقة. مما يجعله أمرًا صعبًا للترويج خاصةً في ظل الاتجاهات الدينية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية.
من الناحية الإقليمية، تعتمد نجاح أي عملية تهجير على مواقف دول الجوار. دول المنطقة سبق وأن واجهت هجرات فلسطينية وتباينت في استجابتها. تراوحت تلك الاستجابات بين المواجهة والتسوية ولكن دون نجاح، حيث استمرت إسرائيل في التوسع والسيطرة على الأراضي.
تحدّيات تهجير الفلسطينيين: العواقب السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الدول العربية المحيطة
يعيش العالم اليوم في واقع معقد تتراكم فيه التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويعتبر تهجير الفلسطينيين من فلسطين وخاصة من قطاع غزة، واحدة من هذه التحديات الكبيرة التي تطال الدول العربية المجاورة. بما في ذلك الأردن ومصر.
الأردن ومصر اتخذتا مواقف حازمة تجاه تهجير الفلسطينيين. حيث تعتبران هذه الخطوة خطيرة تمثل شهادة وفاة رسمية لمشروع الدولة الفلسطينية. هذا التصعيد المحتمل قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة في المنطقة وقد يفتح الباب أمام توسع دولة إسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية.
من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، سيكون لتهجير الفلسطينيين تأثير كبير على الدول المستضيفة. الأردن على وجه الخصوص، يعيش تحدياً اقتصادياً واجتماعياً بالفعل نتيجة لموجات الهجرة السابقة. ومن الممكن أن يزيد تهجير سكان غزة من هذه التحديات. بالنسبة لمصر. قد لا يكون لتهجير الفلسطينيين تأثير كبير على البنية الاجتماعية نظرًا للفارق الكبير في الأعداد السكانية. ولكنه يمكن أن يثير تحديات أمنية خطيرة نظرًا للمعقل الرئيسي للمقاومة الفلسطينية في غزة والذي سينتقل بالتبعية إلى مصر.
في النهاية، تتطلب أي محاولة للتهجير التعامل مع تحديات دبلوماسية واقتصادية واجتماعية معقدة. وهذه العواقب ستظل تؤثر على الدول المحيطة بهذا الواقع المعقد والصعب.
اقرأ كذلك : حي الشجاعية في غزة .. عسكر فيه نابليون، وتسميته نسبة لكردي
تحديات الأنظمة الإقليمية أمام التهجير الفلسطيني
إلى جانب التحديات الكبرى التي تواجه الدول العربية المجاورة نتيجة لتهجير الفلسطينيين. هناك أمر آخر يزيد من التعقيدات التي تواجهها هذه الدول وهو الأزمة التي ستنشأ حين يتعين عليها تبرير وتفسير تصاعد الأزمة الفلسطينية أمام شعوبها.
إذا ما أُتيح لهذه الدول الفرصة لتصفية القضية الفلسطينية. فإنها ستواجه تحديات كبيرة في مساعيها لتبرير تلك الخطوة أمام شعوبها. ليس فقط عليها استقبال المهاجرين. بل عليها أيضاً القيام بدور مؤثر في تنظيم عمليات الهجرة ومنع تشكيل أي مقاومة جديدة. هذا الدور يجعل هذه الدول شركاء فعليين في عملية التهجير إذا موِّنته.
ونتيجة لهذا الواقع، فإن العديد من دول المنطقة أبدت مواقف واضحة تعارض هذه الخطوة. وكانت مواقف الأردن ومصر أكثرها وضوحًا. حيث اعتبرتا ضمنيًا أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين تعتبر إعلان حرب على أنفسهما. وهذا ما يضع الاحتلال الإسرائيلي أمام تحدي حقيقي فيما يتعلق بعلاقاته مع جيرانه الذين من المفترض أن يستقبلوا اللاجئين.
رؤية داخلية: خصوصية غزة ومجتمعها
كما تم ذكره في السابق. يُظهر النظر إلى تاريخ التهجير الفلسطيني أن جزءًا مهمًا من استراتيجية العصابات اليهودية كانت عمليات الدعاية والترويج للمذابح التي ارتكبتها. هذا الأمر دفع الفلسطينيين في كثير من الحالات إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم قبل أن يصلهم أفراد هذه العصابات. بالإضافة إلى ذلك، كان لأسباب أخرى مثل الاعتقاد بأن هذه الهجرة ستكون مؤقتة وأن العودة ستحدث قريبًا بمعونة من هدوء الأوضاع. دور كبير في قرار البعض بترك أراضيهم. ومع ذلك، فإن تجربة الفلسطينيين. خصوصًا الذين تم تهجيرهم، تُظهر بوضوح عدم صحة تلك التوقعات. وهذا ما جعل العديد منهم يستعدون لمواجهة أي محاولة للتهجير قبل أي اعتبار آخر.
وفيما يتعلق بقطاع غزة، يبلغ عدد السكان حوالي 2.2 مليون فلسطيني وفقًا لإحصائيات الأونروا. ومن بينهم نحو 1.7 مليون لاجئ. هذا يعني أن معظم سكان غزة هم فلسطينيون عايشوا تجربة الهجرة بمعناها الكامل. سواء كان ذلك عبر ترك أماكنهم وممتلكاتهم أو بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي نشأت بعدها. ونتيجة لهذا التجربة والوعي الذي طوّره أهل غزة بالأحداث التاريخية وتأثيرها على التهجير، تكون لديهم حالة من الوعي الشديد تجاه مخططات التهجير وخصوصًا تلك التي تعتمد على جوانب نفسية. وهذا يجعل عملية التهجير معادلة تتطلب جهدًا كبيرًا للقضاء عليها. وخاصة مع محاولات القتل والمجازر التي يقوم بها الاحتلال.
إضافة إلى ذلك، عاش أهالي غزة تجربة فلسطينية فريدة من نوعها، حيث شهدوا حروبًا متكررة واشتباكات قبل تحرير القطاع. ومن ثم تطورت إلى حروب دامية بعد التحرير. هذه التجارب بنت لديهم حالة نفسية ونضالية قوية وصلت إلى كل جوانب حياتهم. ونتيجة للارتباط العميق بين الجانب الاجتماعي والسياسي والعسكري في غزة، يصعب فصل أي جزء منها بسهولة. لذلك، عندما نتحدث عن تهجير سكان غزة. يجب علينا أن نفهم هذا الارتباط القوي بين المقاومة والمجتمع، وكيف أن هذه العوامل تجعل من محاولة التهجير تحدًا صعب الإنجاز.
تلك العوامل تشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يواجه تحديات صعبة في محاولته لتنفيذ مشروع التهجير. وأن أمامه خيارات محدودة تشمل استمرار المجازر والضغط الدولي من أجل تبني مشروعه. هذا يمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوتر في المنطقة وزيادة الصراع.
اقرأ أيضاً: ماذا قدم السلطان عبد الحميد للقدس وفلسطين في مواجهة هرتزل؟