تاريخ وثقافة

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

دور الفقهاء والعلماء في مواجهة التغلب والاستيلاء على الحكم في عصور المماليك والمواقف المتباينة تجاه الأمر الواقع

جدول المحتويات

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين .. في العصور البعيدة بعد رحيل الخلفاء الأربعة الراشدين، بدأت الخلافة الإسلامية تشوبها شوائب متعلقة بالاستيلاء والاستعلاء. تم رفض حق الإمامة الذي كان يعتبر في السابق محققًا بلا تردد. تحدث الإمام الجويني (توفي عام 478 هـ / 1185 م) عن هذه الحقيقة في كتابه “غياث الأمم” بأسلوب موجز وواضح.

هذه الحقيقة أصبحت جزءًا أساسيًا من تاريخ الإسلام على مر العصور والدول المتعاقبة. عبارة “مات في السجن” ومماثلتها تظهر في كتب التاريخ والسير الذاتية. هذا الموت داخل السجن كان حلاً عديد المرات للصراع على السلطة في غياب منظومة قانونية تضمن إجراءات عادلة ومنصفة لحساب الخصوم.

قصص مؤلمة من تاريخ السجون: موت السلاطين المخلوعين ودرس في الشرعية الدستورية

عندما ننظر إلى تفاصيل قصص موت السلاطين الذين تم إطاحتهم بالقوة وسُجنوا. نجد أن لدينا فرصة فريدة لفهم جانب آخر من تاريخ السياسة الإسلامية ولنلقي نظرة معرفية على تطور الشرعية الدستورية. لا يقتصر هذا الفهم على الجوانب النظرية في الفقه السياسي فقط. بل يشمل أيضًا الواقع السياسي من خلال استعراض قصص الخلع من السلطة بعد توليها والتأمل في معاناة السجناء السياسيين بعد أن عاشوا في رفاهية الحكم والسلطة.

كانت هناك قول عربي يقول: “الملك عقيم”. وهذا يعني أن من يتولى الحكم يُفقد الأخلاق ويتجاوز القيم الإسلامية بهدف تحقيق الاستبداد والسيطرة على الثروات والسلطة. هذه الحقيقة تظهر جليًا في تاريخ السلطة والحكم في العصور الإسلامية. كانت حالات التداول في الحكم عبر القوة تخرج عن المبادئ والقيم الإسلامية وكانت مظاهرها تشمل تنفيذ الإعدامات البطيئة في السجون وإقامة الحصار والعزل للسلاطين السابقين.

يجب أن نعترف بأن هذا الجانب السلبي في تاريخنا الإسلامي هو نتيجة لغياب مبدأ تداول السلطة بشكل شرعي وسلمي. وشهدت العصور الإسلامية العديد من الانقلابات العسكرية التي اطلق عليها مصطلحات مثل “التغلب” و”الاستيلاء” بلغة الفقهاء.

الفقه السياسي في تاريخ الإمامة: بين الواقعية والشرعية الدستورية

في الأزمنة القديمة. رُصد أن الفقه السياسي اتخذ منحىً واقعيًا معقولًا في مساره. عبّر عن هذا المفهوم بوضوح من قبل قاضي القضاة في مصر، بدر الدين ابن جماعة الشافعي (توفي عام 733 هـ / 1333 م). حيث أشار إلى وجود “شرعية اضطرارية” لفهم مفهوم التغلب والسلطة في الحكم المملوكي. قال في كتابه “تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام” إنه عندما يتولى شخص الإمامة بالقوة ويهزم منافسه ويجبره على التنازل، يصبح هو الإمام بناءً على مصلحة المسلمين وتجميع كلمتهم.

ومع ذلك، لا يزال هناك علماء رفضوا الشرعية “الأمر الواقع” للسلاطين الذين تولوا الحكم بالقوة. حتى وإن تم التسليم لهم بالضعف أو “لتجنب الأضرار الأكبر”. على سبيل المثال. الإمام الزمخشري الحنفي (توفي عام 538 هـ / 1143 م) وصف هؤلاء السلاطين بأنهم “اللصوص المتغلبة” في تفسيره “الكشاف”. وأوضح أن الحكام الذين لا يلتزمون بالعدل ويمارسون الجور، ليس لديهم الشرعية اللازمة للحكم. وأنهم يتبعون شهواتهم ويتجاوزون صفات الحكام الشرعيين.

هذه المقالة تسلط الضوء على 23 حالة من هذه الظاهرة السياسية المؤلمة. إنها لا تهدف إلى مقارنة الحالات أو الشخصيات. بل تسعى لفهم كيف تكونت هذه الظاهرة والسياقات التاريخية التي شهدتها. ومع ذلك. يجب ملاحظة أن هؤلاء السلاطين كانوا متفاوتين في كفاءتهم وشرعيتهم في الحكم. المقالة تسلط الضوء على دوران السلطة بين الحكام في تاريخ الإسلام في ظل غياب الشرعية الدستورية وانحراف مبادئ الشورى والعدالة. تُجيب على أسئلة مثل متى بدأت هذه الظاهرة؟ وما هي السياقات التاريخية التي تكررت فيها؟ وكيف تم تناولها من قبل المؤرخين والفقهاء في دراستها وتحليلها؟

ظاهرة قتل الخلفاء: تأمل في تاريخ مؤلم

على الرغم من أن الإسلام جاء ليؤسس نظامًا سياسيًا يقوم على مبادئ البيعة والشورى واحترام شرعية الأمة وطاعة القادة المنتخبين. إلا أن الواقع قد انفصل عن هذه المبادئ مع مرور الزمن. تزايد الانقسام بين الأسس والأخلاق السياسية حتى أصبح هناك انقسام واضح في العصور الحديثة.

نتيجة لهذا الانقسام، ظهرت ظاهرة قتل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين. وكانت إحدى أقسى صور هذه الظاهرة هي مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (توفي عام 35 هـ / 656 م) وهو محاصر في بيته وسجين في يدي خصمه الذي أطاح به. هذا الخصم كان من نفس العرق والدين وكان جزءًا من الجماعة الإسلامية.

تعد هذه الحادثة أحد أوائل أمثلة هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام. فالمعارضين لعثمان كانوا قد حاصروه لأسباب سياسية خاصة بعد أن نشروا رسائل تستهدف رأي الناس في مناطق مختلفة من الإسلام.

تمثل تلك الظروف التاريخية المعقدة والتي تميزت بتبادل الرسائل والأخبار بين الأمصار الإسلامية وتصاعد التوترات السياسية. سابقة خطيرة في تاريخ الإسلام.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

المحاصرون ومقتل الخليفة عثمان: صفحة من تاريخ مؤلم

كانت من بين مطالب المحاصرين للخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إقصاء أقاربه. الذين اتهموه بمحاباتهم وتعيينهم في المناصب على حساب مصلحة المسلمين. كما ادعوا أنه ابتعد عن النهج الذي اتبعه الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب. على الرغم من أن كبار الصحابة مثل علي وطلحة والزبير (رضي الله عنهم) نفوا هذه الاتهامات. إلا أن خطة المحاصرين لرفض عثمان التنازل عن الحكم فشلت.

قام المحاصرون بفرض طوقًا حول بيت الخليفة لعدة أسابيع. حيث كان عثمان يعيش كالسجين. لم يقبل عثمان أي دفاع مسلح عنه نظرًا لمخاوفه من سفك دماء المسلمين بسببه. هذا الرفض لتداول الحكم كان يهدف لمنع تكرار هذه السنة في المستقبل، والتي كانت تقول: “كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه”.

زاد المحاصرون ضغطهم على عثمان حتى منعوه من تناول الطعام والشراب. وصلوا به إلى حد الجوع والعطش. حتى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) نبه المحاصرون إلى أن ما كانوا يفعلونه لا يماثل سلوك المؤمنين أو الكافرين. وحثهم على عدم قطع المؤونة عن الخليفة. ومع ذلك. كانت القوم مصممة على مواصلة تضييق الخناق على عثمان حتى وصل الأمر إلى منعه من الطعام والشراب. وفي النهاية. تم اقتحام بيت الخليفة وقتله هناك، وقد طبقوا عليه أساليب وحشية أثناء القتل. حيث قاموا بخنقه قبل أن يلوحوا إليه بالسيوف.

هذا الحادث المؤلم كان واحدًا من الصفحات الحزينة في تاريخ الإسلام. وقد بُرِزَت خلاله الصراعات والتوترات السياسية التي أسفرت عنه.

تقسيم المسلمين: انفراط مبكر بعد وفاة الخليفة عثمان

الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قضى نحبه دفاعًا عن شرعية الأمة واحترام شرعيتها الدستورية حتى لو تطلب ذلك التضحية بحياته. ومع ذلك، كان مقتله هو أحد أكبر الأسباب التي أدت إلى اندلاع الفتن والتوترات بين المسلمين. وكان له تأثيرًا سلبيًا يمتد حتى اليوم. هذا ما أشار إليه الإمام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”.

من آثار هذا التفرق والتوتر كانت معارك الجمل وصفين. التي نشأت بعد تقسيم عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسكرين. الأول بقيادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان. تلك الصراعات أدت في النهاية إلى مقتل الخليفة علي بن أبي طالب في سنة 40 هـ.

عام الجماعة (سنة 41 هـ) كانت لحظة فارقة في هذا الانقسام الخطير. تنازل الحسن بن علي عن المطالبة بالخلافة وسلمها إلى معاوية شريطة أن يتم تنظيم شورى للأمة لاختيار خليفة بعد معاوية. ومع ذلك. قرر معاوية بعد فترة الاحتفاظ بالسلطة في بيت أموي وتعيين ابنه يزيد ولاية العهد. كان هذا القرار واحدًا من الأسباب التي أوردها المؤرخ ابن خلدون واعتبرها مراعاة للمصلحة السياسية في تلك الفترة وضمان اتحاد الناس حول حكومة بني أمية.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

صراع على الشرعية: الحرب بين ابن الزبير والأمويين

بغض النظر عن مدى تبرير ابن خلدون لهذا التحليل. فإن صعود يزيد إلى الخلافة بعد وفاة والده في سنة 60 هـ لم يتم بموافقة جميع الصحابة. بالعكس. عارضه العديد من الصحابة المشهورين مثل عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وهذا ما أدى إلى حدوث أحداث ساخنة خلال حكمه. بما في ذلك استشهاد الإمام الحسين في كربلاء وثم وقوع حادثة الحرة في المدينة المنورة، حيث تمت محاولة إسقاط حكم يزيد من قبل أهل المدينة في سنة 63 هـ.

في هذا السياق، أعلن عبد الله بن الزبير خروجه عن حكم الأمويين وقرر اللجوء إلى مكة المكرمة. هناك. جمع وجوهًا من أهل تهامة والحجاز ودعاهم للبيعة، وقام بتجنيد دعم واسع. وعلى الرغم من ذلك. امتنع عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية عن بيعته. بالإضافة إلى ذلك، أمر بطرد عمال يزيد من مكة والمدينة. وهاجر مروان بن الحكم وأسرته من المدينة إلى الشام. هذه هي الأحداث التي وثقها أبي حنيفة الدينوري في “الأخبار الطوال”.

تلك الفترة شهدت صراعًا عنيفًا على الشرعية استمر تسع سنوات بين ابن الزبير. الذي نجح في السيطرة على معظم مناطق شبه الجزيرة العربية والعراق واليمن، والأمويين. الذين حكموا الشام ومصر. في النهاية، نجح الأمويون في السيطرة على العراق في سنة 71 هـ. وأُحاصر ابن الزبير في مكة المكرمة لمدة سبعة أشهر كاملة، خلالها كان في حالة اعتقال.

شرعية تجسدت في الصمود

خلال هذه الفترة الطويلة. أبدى ابن الزبير صمودًا استحق به إعجاب حتى خصومه الأمويين. قد أورد ابن الأثير في كتابه “الكامل” أن طارق بن عمرو. والذي كان واليًا للأمويين في المدينة المنورة وأحد المحاصرين لمكة المكرمة مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي، قال: “ما ولدت النساء أذكر من هذا! فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟”. وأجاب طارق: “نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذرًا، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جُند ولا حِصن ولا مَنَعَة. فينتصفُ منّا، بل يفضلُ علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقًا”.

مقتل عبد الله بن الزبير وصلبه على يد الحجاج كان مشهدًا بارزًا وواضحًا من مشاهد الصراع على الشرعية في تلك الفترة المبكرة. بفضل هذا الفصل لصالح الأمويين، فُتحت الباب لترسيخ مفهوم “الأمر الواقع”. حيث أصبحت شهوة التغلب والقوة سائدةً، وذلك على حساب منطق الحق والشورى العامة. وحق الأمة في اتخاذ القرار. أصبح من المستحيل عملياً تحقيق هذا المبدأ بعد تفضيل نزعة التغلب واعتمادها كوسيلة حصرية للوصول إلى السلطة. ولذلك قال مؤرخ الأفكار الشهرستاني في كتابه “الملل والنحل”: “أعظم الخلافات بين الأمة كانت حول مسألة الإمامة، فما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان”.

الانتقال إلى زمن التغلب وتصاعد الصراعات

وبهذا الشكل، دخلت الأمة في مرحلة تسمى “زمن التغلب”. حيث أصبح من الأمور العادية التخلص من الحكام والأمراء والسلاطين وهم مسجونون في قصورهم. لم يعد هناك مفهوم للعفو عند المقدرة. وذلك بسبب شرعية مبدأ “الأمر الواقع” الذي تم تبنيه كأساس للحكم في الدولتين الأموية والعباسية. وهذا المبدأ فتح الباب أمام وجود منافسين آخرين، حيث حاولوا استقلالاً عن السلطة المركزية للأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد، وذلك باعتماد القوة العسكرية.

في نهاية حكم الأمويين، دعا الثائر عبد الله بن معاوية إلى نفسه ليصبح خليفة، استغل الفوضى التي كانت تعم الأمويين بسبب صراعهم على السلطة. ونجح عبد الله بالقوة في السيطرة على مناطق واسعة في فارس وجنوب العراق. لكن بعد ذلك، حاربه مالك بن الهيثم وظفر به وقام بسجنه وقتله، وفقًا لروايات ابن عساكر وأبو الفرج الأصفهاني.

اللافت هو أن هذا الثائر العلوي كان قبل أن يسعى لنيل الحكم شاعرًا مشهورًا، يمدح الأمراء والولاة. وقد كتب قصائد تمجَّد فيها أمراء الزمان. وكما يُذكر أيضًا في كتاب “تاريخ أصفهان” لأبو نعيم الأصفهاني، قال:
أَأَنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ
فإن عَرَضتْ أيقنتُ أنْ لا أخا ليا؟!
كِلانا غنِـــيٌّ عن أخيه حيــاتَه
ونحـــن إذا مِتْـــنا أشـــــدُّ تغانيا!!

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

المغامرة العباسية وسط الانتقالات السياسية

العباسيون تولوا الحكم بعد ثورة مسلحة عنيفة ومنظمة قامت بتدمير أسس حكم الأمويين في سنة 132هـ/751م. ومن ثم، بنوا شرعيتهم الخاصة على أساس فك العقدة والتخلص من المنافسين، حتى إذا كانوا من نسلهم ومشاركين معهم في الثورة ضد الأمويين. وكان أحد ضحايا هذه العملية الجديدة عبد الله بن معاوية الهاشمي العلوي الذي قُتل في سجنهم.

ومع ذلك، بدأ العباسيون – بدءًا من الخليفة المأمون ثم بشكل أكبر في عهد أخيه المعتصم – في جلب العناصر التركية لتكون جيشهم الخاص والنواة القوية في جيوش الدولة العباسية في المستقبل. تم استبعاد العرب والفُرس من السلطة على الرغم من تحقيقهما للقوة والتأثير في الدولة. وما حدث، على حد قول رشيد رضا في كتابه “الخلافة”، هو أن “جُند الترك في العباسيين أصبحوا مثل جُند الانكشارية في العثمانيين، كانوا قوة للعباسيين وبعد ذلك أصبحوا قوة ضدهم وعامل مفسِداً لحكمهم”!

ونتيجة للهيمنة الشبه المطلقة للنخبة العسكرية التركية على الحكم والسياسة والإدارة، بدأت ظاهرة القبض على الخلفاء العباسيين وقتلهم أو حبسهم حتى الموت في الزنازين تتجلى. بدءًا من مقتل الخليفة المتوكل على يد ابنه المنتصر وجند الترك المشاركين معه، وصولاً إلى مصير المعتز بالله الذي أطاح به قادة الأتراك بحجة ضعفه وعدم قدرته على دفع رواتب العسكرة. والمعتز بالله أُفِقَ في النهاية على مصير مأساوي، حيث تم منعه من الطعام والشراب لثلاثة أيام، ثم تم وضعه في سجن مغلق بالجص الثخين وأُغلق عليه باب السجن، وهكذا أصبح ميتاً، وفقًا للمؤرخ الطبري الذي روى نهاية مأساته.

معركة السلطة في ظل الاستضعاف والتغلب

خلف الخليفة المهتدي بالله، تكررت الحالة التي تعرض لها سابقه عبد الله بن معاوية، حيث حاول هو أيضًا وقف الاستضعاف والتغلب على سلطة العسكر الأتراك السياسية. قام بمحاولات لتشتيت هؤلاء الأتراك وتقويض قوتهم بمنعهم من تجميع الأموال والاستيلاء على الثروات. علاوة على ذلك، قام بجولات في الأسواق وطلب دعم الناس بالنصرة له، معتبرًا أنهم يقومون بقتل الخلفاء. وبالرغم من جهوده، لم تجد دعوته الصدى المأمول. قبض الأتراك عليه وأخضعوه للإقامة الجبرية وطلبوا منه الاستقالة، لكنه رفض ذلك. فقاموا بقطع أصابع يديه ورجليه، ولكنه لم يستسلم، وبقي متمسكًا بموقفه حتى توفي في ظروف قاسية.

وفي الوقت نفسه، استغلت أطراف أخرى في العالم الإسلامي الاضطرابات في بغداد لتأسيس دول مستقلة أو لتوسيع نفوذها على حساب الجيران، حتى وإن كانوا مسلمين. كان هذا واضحًا في الصراع بين عمرو بن الليث الصفار وإسماعيل بن أحمد الساماني. وفي النهاية، انتهت هذه الصراعات بمعركة مصيرية أسفرت عن هزيمة ساحقة للصفار، وقد أُسر وتم عرضه أمام الخلافة العباسية ليختار بين البقاء أو توجيهه إلى باب المعتضد بالله. واختار التوجيه وتم احتجازه في القصر حتى توفي في السجن. هذه الأحداث تعكس الظروف السياسية والاجتماعية المعقدة التي عاشها العالم الإسلامي في تلك الفترة.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

استضعاف متكرر: قصص من حكم الخلفاء العباسيين في العراق

في العراق، استمر استضعاف الخلفاء العباسيين كظاهرة تنتشر في أنحاء العاصمة التي ترنحت بين بغداد وسامراء. كان قادة الأتراك الكبار يعيشون في خوف من الخليفة القاهر بالله العباسي، حيث سمعوا شائعات عن نيته في القضاء عليهم.

أبو علي بن مسكويه يروي لنا مشهد اعتقال الخليفة القاهر بالله سنة 322 هـ/934 م، حيث حاول الهروب من قبضة خصومه والهرب من سجونهم. عندما علم القاهر بقدوم الغلمان إلى القصر، استيقظ وحاول الفرار إلى سطح الحمام في الحرم الشريف، حيث استتر. ومع وصول خصومه إلى هناك، رفض القاهر النزول حتى استخدموا السهام لإجباره على النزول، ثم قاموا بالقبض عليه ونقلوه إلى موقع الحبس حيث أُحْتُجِز.

بالإضافة إلى ذلك، قام القادة الأتراك بتحرير واحد من أمراء البيت العباسي من سجنه وهو محمد بن الخليفة المقتدر الذي أطلق عليه لقب “الراضي بالله”. حاول الراضي بالله إعادة التوازن إلى الحكم بعد الانقلاب القوي الذي أدى إلى تنصيب الخلفاء بالقوة. أرسل جماعة من كبار القضاة لاقناع القاهر بالله بالتخلي عن الخلافة من خلال شهادتهم، ولكنه رفض الاستقالة. في هذا السياق، ألقى أحد القضاة عبارة تلخص تحديات السلطة في تلك الفترة، حيث قال: “لا تُعقد الدول بنا (أي بالقضاة) وإنما يتم ذلك بأصحاب السيوف. نحن هنا فقط للشهادة والتحقق”، وهذا ما يبرز الصراع الدائر حينها حول مفهوم الحكم والسلطة.

مأساة الخلفاء العباسيين: حكايات من السجون والعقوبات

في الواقع، تدخل العسكر وأفرضوا عقوبة قاسية على الخليفة المخلوع القاهر بالله، حيث تمَّت مُجرّدة عينيه، حتى انتشر الدمع منهما بكثرة، وشهدت حياة القاهر أحداثًا مأساوية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإسلام. بقي القاهر محبوسًا في دار السلطان لمدة ثلاث وثلاثين سنة، حيث تم تبديل مكان احتجازه بين الزنزانة والحرية بين الحين والآخر. وفي النهاية، توفي في جمادى الآخرة من سنة 339 هـ/950 م، وهذه الأحداث قد وردت في تاريخ ابن الجوزي.

وتكررت الأحداث نفسها مع الخليفة الذي تولى الحكم بعد وفاة الراضي بالله، وهو المتقي لله. عهده تميز بالصراعات المتتالية بين القادة العسكريين من العرب والترك، وفي سنة 333 هـ/945 م، قاد “أمير الأمراء” التركي توزون تمرّدًا على هذا الخليفة وهو خارج العاصمة. بلّور توزون مخططًا للإمساك به، ونجح في القبض عليه وعمّيه ثم أدخله إلى بغداد. ثم توفي المتقي لله في السجن بعد 24 سنة من سجنه، وذلك وفقًا لسرد الذهبي في “السير”.

سيطر البويهيون على الحكم في بغداد في عام 334 هـ/945 م، مما أضاف فصلاً آخر في سلسلة التغلب وسيطرة القوة العسكرية. وقد وافق الخليفة العباسي المستكفي بالله على استدعاءهم من إيران بهدف القضاء على تسلط الأتراك، ولكنه لم يدرك أنه بذلك سيصبح ضحية لسياساتهم. وفي لقاء بينه وبين معز الدولة البويهي، انتظر المستكفي بالله تقبيل يده، لكنه تعرض للسحب والاعتداء عليه. وبقي المستكفي بالله معتقلًا لمدة أربع سنوات، حيث تمَّت عينيه وأُعمِي، وفارق الحياة في هذه الفترة، وهذه التفاصيل مستندة إلى ما ورد في تأريخ ابن الجوزي وأخرجه أبو الحسن الهمذاني.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

مبادرة توفيقية: توازن الشرعية والسلطة في الدول السلطانية

مرة أخرى، تدخل الشرعية الحاكمة، التي تعمل على توجيه الأمور وضمان استمرار الدولة، في مرحلة جديدة من تطور الدول السلطانية، سواء كانت بويهية، سلجوقية، مملوكية، أو عثمانية.

هذا التطور دفع الإمام الماوردي، الشيخ الشافعي البارز الذي عاش في القرن الحادي عشر، إلى تطوير نظريته المعروفة بـ “وزارة التفويض”. وبموجب هذه النظرية، فإن الخليفة يمكنه تفويض بعض اختصاصاته إلى أشخاص يثق بهم لتولي شؤون الدولة واتخاذ قراراتها بناءً على توجيهاته واجتهاداتهم.

ويرى الماوردي أن هذه النظرية مناسبة في سياق الدول التي تعتمد على قوة الحكم والاضطرار للحفاظ على الاستقرار. وبالتالي، تصبح “وزارة التفويض” أداة مفيدة في إدارة الشؤون الحكومية في مثل هذه الأنظمة.

بصفة خاصة، كانت نظرية الماوردي جزءًا من محاولات تصحيح العلاقة بين الخلفاء الذين ادعوا الشرعية بناءً على الحق والسلاطين الذين استندوا إلى القوة العسكرية. ويبدو أن تطبيقها على الأوضاع السياسية في ذلك الوقت ساهم في تجنب الصراعات وتحقيق التوازن بين السلطتين.

وكان لهذه النظرية أيضًا دور في التواصل مع السلاجقة ودخولهم إلى بغداد في عام 1056 م، قبل وفاة الماوردي بثلاث سنوات فقط. وشارك الماوردي بفعالية في المفاوضات بين السلاجقة والخليفة القائم بأمر الله، مما ساهم في تطويق التوترات وتحقيق الاستقرار، وفقًا لما ورد في “سير أعلام النبلاء” للإمام الذهبي.

حينما تستمر ظاهرة الحجر وقتل الخلفاء في العالم الإسلامي

رغم الجهود المبذولة للتوفيق بين السلطة والشرعية في الدول الإسلامية، إلا أن ظاهرة حجر وقتل الخلفاء والأمراء المستقلين استمرت وتفشت في أرجاء العالم الإسلامي. في سنة 441 هـ / 1050 م، حدث ذلك مع أمير الموصل قرواش بن مقلد العقيلي الذي قبض على ابن أخيه بركة وسجنه في تلك السنة. وفيما بعد، تملك أبو المعالي قريش ابن بدران المكان ومات قرواش بن مقلد في السجن.

الذهبي يروي في تاريخ الإسلام قصصًا تكشف عن تصرفات قرواش وسلطانه في تلك الفترة، حيث استهان بالقيم والمحرمات بما فيها الدماء. وقد سجل الذهبي كلمات قرواش الذي كان شاعرًا بارعًا، حيث وصف شعره بأنه يجمع بين ملح البداوة وسرعة الحضارة. ومن أشعاره:

“للهِ دَرُّ النائباتِ فإنها * صدأُ اللئامِ وصَيْقَلُ الأحرارِ
ما كنتُ إلا زُبْرَةً فَطَبَعْنَنِي * سَيْفاً وأطلقَ صرفُهُنَّ غِرارِي”

تلك الأحداث تعكس تواصل الصراع بين السلطات المختلفة في العالم الإسلامي وتأثيرها على الأوضاع السياسية والاجتماعية في تلك الفترة.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

نماذج تاريخية من الأندلس: مصير الحكام والسلاطين

على غرار ما حدث في الشرق الإسلامي، تكررت ظاهرة تصفية السلاطين جسدياً في المناطق الغربية من العالم الإسلامي بعد خلعهم عن الحكم، واستمرت هذه الظاهرة بصور متنوعة في مصر ومناطق أخرى في الغرب الإسلامي.

عندما تفككت الدولة الأموية في الأندلس نهائياً في سنة 422 هـ / 1032 م، بدأت فترة حكم “ملوك الطوائف” الذين تناوبوا على السلطة وسيطروا على مناطق مختلفة. ومع ذلك، استثنت العاصمة قرطبة والمناطق المحيطة بها من هذا التوزيع، حيث حكمها أسرة “آل جَهْوَر”، وهم من أصول فارسية.

في سنة 435 هـ / 1044 م، توفي الأمير جهور بن محمد، وبدأ ابنه أبي الوليد محمد حكمه. ومع ذلك، قام المعتمد بن عباد، اللخمي وأمير أشبيلية الذي توفي في سنة 488 هـ / 1095 م، بالسيطرة على قرطبة وسجن ابن أبي الوليد. واستمر أبو الوليد في السجن حتى وفاته.

رغم أن ابن جهور كان قد طلب المساعدة من ابن عباد لحماية مملكته من جاره المسلم ملك طليطلة المأمون، إلا أن مصيرهما انتهى بهما إلى السجون.

في سياق مماثل، بعد أن قضى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين على دويلات الطوائف في الأندلس سنة 484 هـ / 1091 م، تم القبض على المعتمد الذي أصبح كبير ملوك الأندلس بسبب نقضه للطاعة وخرقه للاتفاق مع المرابطين.

تاريخ هؤلاء الحكام والأمراء يكشف عن تعقيدات الصراعات الداخلية والمصاعب التي واجهوها في تلك الفترة من تاريخ الأندلس والعالم الإسلامي بشكل عام.

مصير ملك أبي الوليد محمد ابن عباد في الأندلس

في تاريخ الأندلس، قدم الملك ابن عباد مثالًا على التعقيدات والصراعات التي شهدتها المنطقة. وفي سياق تنازل السلطة للمرابطين، وقعت سلسلة من الأحداث التي أدت إلى مصيره النهائي.

بحسب ما أورده الذهبي نقلاً عن المؤرخ الأندلسي إليسع بن حزم الجياني، فقد تجلى تردد ابن عباد في توجيه استدعاء للمرابطين، حيث حذره مستشاروه من ذلك، لكنه في النهاية تحالف مع المسيحيين ضد المرابطين، وهذا القرار أدى إلى إطاحته بالسلطة.

قاضي القضاة ابن خلكان عبّر عن حزنه لهذه النهاية المؤلمة لملك ابن عباد، حيث دُعي في جنازته بعد مجده وعظمته السابقة بـ”الصلاة على الغريب”. وهذا يجسد التباين الكبير في مصيره بين عظمته السابقة وانتهائه الحزين.

وقبل أن تحل مصيره النهائي، أدرك ابن عباد الوضع المأساوي الذي وصلت إليه بلاده بعد فقدانه السلطة، وعبّر عن حزنه وتأثره في قصيدة ألقاها في إحدى المناسبات، حيث وصف حياته السابقة بالسعادة وكان يعتبر أيام العيد أيام سعادة وابتهاج. وفي النهاية، أصبح يشاهد بناته الجائعات يبيعن المأكولات للناس، وهذا الواقع كان مريرًا ومؤلمًا بالنسبة له.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

ظاهرة الاعتقال والسجن للحكام في التاريخ الإسلامي

في العديد من الفترات في التاريخ الإسلامي، شهدنا حدوث ظاهرة متكررة تتعلق بالاعتقال والسجن للحكام والسلاطين. سواء كانوا في مناصب عليا أو أمراء صغار، فقد تعامل البعض منهم بصرامة وسجنوا أو عاقبوا بالموت البطيء.

في الفترة الأيوبية، التي حكمت مناطق متعددة في الشرق الإسلامي، لم تكن استثناءً من هذه الظاهرة. على الرغم من تأسيسها على يد صلاح الدين الأيوبي الذي كان شخصية جهادية بارزة، إلا أن العديد من أمرائها وحكامها واجهوا مصيرًا مشابهًا. واشتهر الملك العادل الثاني بتهوره وترفيهه عن السلطة، مما أدى إلى اعتقاله وسجنه على يد أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب.

ومع دخول فترة المماليك، شهدت هذه الظاهرة تجددًا وتفاقمًا، حيث تم اعتقال وسجن وقتل السلاطين الضعفاء. فمثلاً، السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير تم اعتقاله وسجنه بسبب اضطهاده للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، واضطر إلى مغادرة مصر والعيش في الكرك بعد الخروج من مصر.

تظل هذه الظاهرة تمثل جزءًا من تاريخ الحكم والسلطة في العالم الإسلامي، حيث تتباين الأسباب والملابسات والمصائر التي يواجهها الحكام والسلاطين في مختلف العصور والأمصار.

مأساة بيبرس الجاشنكير: سلطان مخلوع في قبضة الناصر قلاوون

بعد إعلان بيبرس الجاشنكير توليه السلطنة في مصر بتأييد من أمراء المماليك، لم يمض وقت طويل حتى عاد الناصر قلاوون مسنودًا بدعم قوي من أمراء الشام. دخل مصر وأسر الجاشنكير، ثم أودعه في سجن البرج الكبير بقلعة الجبل في القاهرة.

تصف السجن هذا بأنه كان مكانًا حيث شهد السلطان الجاشنكير اللحظات الأخيرة في حياته، حيث تعرض لمعاناة لا تُصدق. وفي وصف المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي، يظهر لنا تعذيب ووحشية الناصر قلاوون تجاه الجاشنكير. حيث قام بخنقه أمامه بواسطة وتر قوس حتى كاد يفقد حياته، ثم تركه لفترة قبل أن يعود ويعنفه ويشتد في شتمه. وفي لحظة ثانية، خنقه مرة أخرى حتى فارق الحياة. هذا الانتقام الوحشي أخذ بيبرس الجاشنكير من الحياة بطريقة مروعة.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

مأساة عائلة الناصر قلاوون: النكبة التي ألمت بأبنائه

إن رغم أن الناصر قلاوون كان قد أنهى حياته بقتل منافسه الجاشنكير، إلا أن النكبة لم تكتمل بعد. بالفعل، واجه بعض أبنائه نفس المصير المأساوي الذي ألم بهم.

أحد هؤلاء الأبناء كان السلطان المنصور أبو بكر بن محمد بن قلاوون، الذي تولى الحكم وهو في سن العشرين، بناءً على وصية والده. ورغم ذلك، لم يطلب حكمه طويلاً بسبب صغر سنه وتنازع الأمراء من حوله. كان يُستخدم كأداة في صراع النفوذ والإقطاع، وبالإضافة إلى ذلك، كان منهمكاً في الملذات واستهتاره بالمسؤوليات. كان يعيش في عالم اللهو وشرب الخمور والملاهي، مما أثار غضب الأمراء الذين لم يكونوا معتادين على هذا النوع من السلوك من قبل السلاطين.

بسبب هذه السلوكيات والتوتر الناتج عنها، حاصر الأمير قوصون الناصري، الذي كان يعتبر واحدًا من أقوى الأمراء ومدير الدولة بوصية من الناصر قلاوون، السلطان المنصور في قلعة الجبل بالقاهرة. عندما توعّد قوصون وظهرت قوته وتأييده من قبل الأمراء، تم نفي المنصور إلى مدينة قوص في صعيد مصر، حيث تم وضعه تحت الإقامة الجبرية.

لكن لم يتوقف الأمر هنا، بل تم قرار التخلص نهائيًا من المنصور، الذي كان مسجونًا في قلعته الجبرية. وفقًا للمؤرخ ابن تغري بردي، فقد قام قوصون بدفن جثته بعد أن قتله في مكان إقامته الجبرية، وأخفى الأمر عن الناس.

هذه النكبة التي ألمت بأبناء عائلة الناصر قلاوون تظهر الجوانب الأليمة للصراع على السلطة والانتقام في عالم السياسة الإسلامي.

مأساة قوصون: الطفل الذي حكم ومات مقتولاً

في مشهدٍ لا يُنسى من تاريخ مصر الإسلامية، تعيش عائلة الناصر قلاوون نكبةً جديدة عندما يُعيِّن الأمير قوصون، الذي أصبح الحاكم الفعلي للبلاد، طفلًا صغيرًا باسم كوجوك (الأشرف) وهو لا يزال في سن السابعة من عمره. بهذا التعيين الغريب، أصبح قوصون السلطان الفعلي لمصر، وبدأ بالعيش في دار النيابة بالقلعة، حيث أصبح هو من يتخذ القرارات الهامة بالمملكة.

وفي هذا السياق، عبَّر أحد الشعراء في مصر عن هذا الموقف المروع بقصيدة تلخص المأساة والفارق الكبير بين قوصون والسلطان الصغير، حيث وصف الواقع بجملة تبين الوضع الصعب الذي مر بهم:
“سلطانُنا اليومَ طفلٌ والأكابرُ في ** خـُلْفٍ، وبينَهم الشيــطانُ قد نـَـزَغا
فكيف يَطمع من تــُـغْشيه مَظلمةٌ ** أنْ يَبلُغَ السُّؤْلَ والسلطانُ ما بلغا؟!”

وبمجرد تمكنه من السلطة، عمل قوصون على إقصاء واضطهاد منافسيه البارزين من كبار الأمراء، وقام بإلقاء القبض عليهم. بعد ذلك، قرروا الانتقام منه وحاصروه في القلعة، حيث تم اعتقاله وإرساله إلى سجن الإسكندرية شمال مصر.

وكما يروي ابن تغري بردي، استمرت حكم قوصون بسجن الإسكندرية حتى حضر الملك الناصر أحمد ابن قلاوون من الكرك. تم تنفيذ حكم الإعدام بحق قوصون بناءً على اتفاق أمراء المملكة، حيث خنقه شهاب الدين أحمد بن صبح في سجنه.

وبعد موت قوصون، تم نفي السلطان المنصور كوجوك الصغير إلى الإقامة الجبرية في دور النيابة تحت كنف والدته، وهو ووالدته يعيشان في ذل وصغر سنه. ظل هذا السلطان الصغير في قلعة الجبل حتى قرر السلطان الكامل شعبان التخلص منه، حيث أرسل أربعة خدم لقتله في مضجعه، وهكذا انتهت مأساة هذا السلطان الصغير الذي لم يبلغ الحلم، وذلك خوفًا على العرش والسلطة.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

إرث يمتد: الفترة العثمانية في مصر وتونس

في أحداث مصيرية، تمكنت الإمبراطورية العثمانية من تحقيق الانتصار على الدولة المملوكية في معارك مرج دابق والريدانية. ومع هذا الانتصار، سقط السلطان المملوكي الأخير، طومان باي، في الأسر، وتم تسليمه إلى السلطان العثماني سليم شاه الأول. تم نقله إلى خيمة خاصة تحت حراسة مشددة، وهناك بقي تحت حماية مستمرة من العسكر العثماني.

بعد ثلاثة أسابيع فقط من أسره، تم تنفيذ حكم الإعدام ضده، مما أدى إلى انقضاء حكم السلاطين المملوكيين نهائيًا والاستيلاء على مصر بشكل رسمي من قبل العثمانيين. وهكذا، بدأت الحكم العثماني في مصر، سواءً من الناحية العملية أو الشكلية، واستمرت حتى إعلان مصر سلطنة مستقلة في عام 1914.

وفيما يتعلق بتونس، بعد أن استولت البحرية العثمانية بقيادة سنان باشا على تونس وطردت الاحتلال الإسباني، تم نقل آخر سلطان حفصي، محمد بن الحسن الحفصي، إلى إسطنبول. تم احتجازه هناك خوفًا من هروبه أو استدعائه من قبل الإسبان مرة أخرى. وبقي في الاعتقال في إسطنبول حتى وفاته.

هذه الأحداث الهامة تمثل بداية فترة الحكم العثماني في مصر وتونس، والتي استمرت لعدة قرون وتركت تأثيرًا مستدامًا على تلك البلدين.

محاولات الإصلاح وصراع السلطنة في الدولة العثمانية

في الدولة العثمانية، تكررت أحداث مشابهة لتلك التي حدثت مع السلطان عثمان الثاني. هذا السلطان الشاب حاول تنفيذ إصلاحات جذرية في بنية الدولة، نتيجة للضرورة التي فرضت نفسها في ذلك الوقت. من بين هذه الإصلاحات كانت محاولة إنشاء نظام عسكري جديد، حيث كانت الفرقة العسكرية المستقلة تحل محل جنود الإنكشارية، الذين أصبحوا عبئًا على الدولة وتقاعسوا في بعض الحملات العسكرية.

لكن الإنكشارية رفضوا هذه الإصلاحات وحاصروا السلطان عثمان الثاني. في النهاية، اقتادوه إلى السجن في يدي كولة، وهو سجن معروف بالأبراج السبعة Yedi kule. هناك تعرض للتعذيب على يد عشرة جلادين، وعلى الرغم من قتله لثلاثة منهم، إلا أنه تم قتله في النهاية بواسطة خيط من الحرير عن طريق الخنق. وقعت هذه الأحداث في مساء يوم 22 مايو/أيار عام 1622.

بعد وفاته، تم تصعيد الإنكشارية عمه، السلطان مصطفى الأول، الذي اشتهر بجنونه وخرفه، ومن ثم تمكنوا من حكم الدولة من خلف الستار حتى حين. هذه الفترة شهدت صراعًا داخليًا في الدولة العثمانية وتراجعًا في قوة السلطة المركزية.

سيادة القوة وانعدام الاحترام للشرعية الدستورية في تاريخ الحكم الإسلامي

في نهاية هذا الاستعراض التاريخي لظاهرة قتل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء في سجونهم أو إقاماتهم الجبرية، سواء بالفعل المباشر أو بالإهمال القاتل، نجد أننا نشهد استمرار هذه الظاهرة المؤلمة. إنها ظاهرة تكتسب أهمية كبيرة في تاريخ الحكم الإسلامي على مر العصور، منذ زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وحتى نهاية حكم الدولة العثمانية.

هذا الاستمرار يظهر لنا سيادة مبدأ القوة وهيمنته المطلقة على مبدأ احترام الشرعية الدستورية للأمة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. هذا الأمر يظهر بشكل واضح في تاريخ العثمانيين وكيف قام السلاطين بإطاحة بسلاطين آخرين بالقوة واحتلال السلطة بعدهم، وكانوا يحكمون بشكل مشكلين حتى نهاية عصر العثمانيين.

على الرغم من ترسيخ هذه الظاهرة الغريبة، يجب أن نشير إلى أن هؤلاء السلاطين – سواء كانوا ناجحين أم فاشلين – استمروا في حكمهم دولًا تخضع في الواقع لشريعة الإسلام وتنظيمها. كما شاركوا في مبدأ التقاضي إلى الشريعة واحترامها. كان للفقهاء دورًا مهمًا في إدارة المؤسسات العلمية والتعليمية والعدلية، وكانوا شركاء في الحكم.

على الرغم من تقبل مفهوم “التغلب” كوسيلة لحكم الدولة، فإنه لم يُسلم بشكل جوهري بأسسه ومبادئه. وهذا ما يمثل القطيعة الكبيرة بين هذا المفهوم وبين الاعتراف بالمرجعية الحصرية لأحكام الإسلام في الدولة الحديثة.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي .. قصص أشهر السلاطين الذين تم عزلهم بالقوة وفقدوا حياتهم في سجون المنقلبين

الفقهاء والعلماء في وجه التغلب والاستيلاء في عصور المماليك

بينما تجلت الانقلابات العسكرية في عصور المماليك وما سبقها وما تلاها، تمثل النخبة المدنية من الفقهاء والعلماء شاهدين على هذه الأحداث الملتبسة، والتي استخدموا فيها مصطلحات الفقهاء مثل “التغلب” و”الاستيلاء” لوصف هذه الظواهر.

يبدو أن الفقه السياسي في تلك الأوقات اتخذ منحىً واقعيًا بشكل كبير، وقد أعرب قاضي القضاة في مصر، بدر الدين ابن جماعة الشافعي، عن هذا المنحى بوضوح. قال إن هناك “شرعية اضطرارية” لمفهوم التغلب في السياق المملوكي. وفي تلك الأزمان، حينما تم تسليم الإمامة لشخص وثقل السلطة لآخر، تفرض قاعدة التغلب نفسها. وبهذا القرار، تم التركيز على مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم.

ولكن دائمًا ما وجد هناك علماء رفضوا شرعية “الأمر الواقع” للسلاطين المتغلبين، بغض النظر عن مبرراتها. هذا ما أظهره الإمام الزمخشري الحنفي، حيث سمى هؤلاء السلاطين بـ “اللصوص المتغلبة”. وقد وصفهم في تفسيره “الكشاف” على أنهم لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بالعدل، بل يتبعون شهواتهم. هؤلاء السلاطين كانوا بعيدين تمامًا عن صفات الحكام الذين يلتزمون بأمانة السلطة والعدالة، ولذا كانت واجبة عليهم هذه التسمية بوصفهم “اللصوص المتغلبة”.

اقرأ كذلك:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات