مدونات

ماذا تغير في تركيا بعد عام من بدء عودة السوريين إلى بلادهم؟ تحولات ديمغرافية واقتصادية وسياسية عميقة

عام على عودة السوريين من تركيا: أرقام جديدة وتأثيرات ممتدة على المجتمع والاقتصاد والسياسة

شهدت تركيا خلال عام واحد فقط تحولات لافتة. هذه التحولات جاءت بعد بدء أوسع موجة عودة طوعية للسوريين إلى بلادهم. جاءت الموجة عقب انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر كانون الأول 2024. ومنذ ذلك التاريخ. دخل ملف اللجوء السوري في تركيا مرحلة جديدة. مرحلة مختلفة في أرقامها. وفي آثارها. وفي خطابها السياسي.

ومع مرور عام كامل على هذه التطورات. بدأت ملامح التغيير تظهر بوضوح. ظهرت في المدن الكبرى. وظهرت في سوق العمل. وظهرت في الخطاب السياسي. كما انعكست على السياسات الحكومية. وعلى علاقة الدولة بالمجتمع. وباللاجئين العائدين.


حجم العودة خلال عام واحد

سجلت تركيا خلال عام واحد أوسع موجة عودة طوعية للاجئين السوريين منذ بداية الأزمة. ووفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية التركية. وإدارة الهجرة. عاد أكثر من 578 ألف سوري إلى بلادهم.

جاءت هذه العودة خلال الفترة الممتدة بين انهيار النظام السابق. ونهاية ديسمبر كانون الأول الحالي. وتمت العودة ضمن برنامج العودة الآمنة والمنظمة. وهو برنامج تشرف عليه الحكومة التركية بشكل مباشر.

وبذلك. ارتفع إجمالي عدد السوريين العائدين منذ عام 2016 إلى نحو مليون و318 ألف شخص. وهذا الرقم يمثل تحولا كبيرا في مسار ملف اللجوء. ويعكس تغيرا جوهريا في المعادلة السكانية داخل تركيا.


التحولات الديمغرافية في المدن الكبرى

برزت التحولات السكانية بوضوح في المدن التركية الكبرى. وفي مقدمتها إسطنبول. وغازي عنتاب. وهاتاي. هذه المدن كانت الأكثر استضافة للاجئين السوريين خلال سنوات الأزمة.

ووفق بيانات رسمية صادرة عن إدارة الهجرة التركية. سجلت هذه المدن تراجعا ملحوظا في أعداد السوريين المقيمين فيها.

في إسطنبول. انخفض عدد السوريين من نحو 481 ألفا في مايو أيار الماضي. إلى حوالي 417 ألفا بنهاية نوفمبر تشرين الثاني. وهذا التراجع يعكس مغادرة عشرات الآلاف خلال أشهر قليلة.

أما في غازي عنتاب. فتراجع العدد من 386 ألفا إلى 333 ألفا. بينما شهدت هاتاي انخفاضا أكبر نسبيا. حيث تراجع العدد من نحو 195 ألفا إلى ما يقارب 154 ألفا خلال الفترة نفسها.


أثر التحولات السكانية على الخدمات العامة

انعكس هذا الانخفاض بشكل مباشر على ضغط الخدمات العامة. خاصة في قطاعات التعليم والصحة. وأشارت بلديات محلية إلى تراجع الكثافة الصفية في المدارس الحكومية.

وجاء هذا التراجع نتيجة انخفاض أعداد التلاميذ السوريين. وهو ما خفف الضغط على البنية التعليمية. وساعد في تحسين نسب التوزيع داخل الصفوف.

كما سجلت المستشفيات والمراكز الصحية انخفاضا ملحوظا في أعداد المراجعين من اللاجئين. وهذا الانخفاض ساهم في تقليل فترات الانتظار. وخفف العبء عن الكوادر الطبية.

وتأتي هذه التحولات ضمن سياق أوسع. حيث تراجعت نسبة السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة من إجمالي سكان تركيا. لتصل إلى نحو 3.16% في نهاية 2024. وتشير تقديرات غير رسمية إلى استمرار هذا التراجع خلال العام الجاري.


تداعيات اقتصادية مباشرة

أثرت عودة مئات الآلاف من السوريين بشكل مباشر على الاقتصاد التركي. وكان التأثير مزدوجا. فمن جهة. خف الضغط على سوق العمل. ومن جهة أخرى. ظهرت فجوات واضحة في قطاعات حيوية.

فقد خففت العودة من المنافسة على الوظائف. خاصة في المدن الكبرى. كما ساهمت في تهدئة بعض التوترات الاجتماعية المرتبطة بسوق العمل.

لكن في المقابل. كشفت العودة عن اعتماد عميق لقطاعات صناعية كاملة على العمالة السورية. خاصة في ولايات الجنوب. التي تتميز بنشاط صناعي كثيف.


غازي عنتاب نموذجاً للأثر الاقتصادي

تعد ولاية غازي عنتاب من أكثر الولايات تأثرا بموجة العودة. فهي مركز صناعي مهم. وتعتمد بشكل كبير على اليد العاملة السورية.

وأكد رئيس غرفة تجار الخياطة والنسيج. علي كومورجو. أن أكثر من نصف ورش النسيج اضطرت إلى الإغلاق. جاء ذلك بسبب فقدان شريحة واسعة من العمال السوريين. الذين كانوا يشكلون العمود الفقري لهذا القطاع.

وأشار كومورجو إلى أن هذه الورش لم تتمكن من تعويض العمالة المفقودة بسرعة. بسبب نقص العمالة المدربة. وارتفاع كلفة التدريب.


قطاع الأحذية والصناعات الخفيفة

في السياق نفسه. أوضح رئيس غرفة صناعة الأحذية في غازي عنتاب. محمد أمين إينجه. أن نحو 10 آلاف عامل سوري غادروا القطاع خلال عام واحد.

هذا الخروج أدى إلى نقص كبير في الأيدي العاملة المدربة. وترك أثرا مباشرا على وتيرة الإنتاج. خاصة في واحد من أكبر القطاعات الصناعية في المنطقة.

كما طالت تداعيات النقص مصانع صغيرة. اضطرت إلى التوقف مؤقتا عن العمل. بينما لجأت مصانع أكبر إلى حلول جزئية. مثل توظيف عمال جدد. أو زيادة الاعتماد على العمالة التركية.

ورغم ذلك. لم تتمكن هذه الحلول من تعويض المهارات والخبرات التي غادرت السوق.


تحرك حكومي لمعالجة الفجوات

استجابة لهذه التحديات. أعلنت وزارة العمل التركية إطلاق دراسة موسعة. شملت 17 قطاعا اقتصاديا.

وجاءت الدراسة عبر استبيان واسع. استهدف 16 ألف منشأة في مختلف أنحاء البلاد. وهدف إلى تقييم أثر عودة السوريين على سوق العمل. ورصد الفجوات الناتجة عن خروج أعداد كبيرة من العمال.

وركزت الدراسة على قطاعات الإنتاج والخدمات. التي كانت تعتمد بشكل واضح على العمالة السورية.


إستراتيجية توظيف جديدة حتى 2028

بالتوازي مع هذه الدراسة. كشفت وسائل إعلام مقربة من الحكومة عن إعداد إستراتيجية وطنية جديدة للتوظيف. تمتد حتى عام 2028.

وتتضمن الإستراتيجية خططا لاستقدام عمالة أجنبية مدروسة. من دول آسيا الوسطى وأفريقيا. وذلك لتغطية النقص في قطاعات حيوية. مثل البناء. والنسيج. والصناعات الخفيفة.

كما لم تستبعد مصادر رسمية إمكانية منح بعض العمال السوريين المهرة تصاريح عمل طويلة الأجل. أو إقامات دائمة. بشرط إثبات الكفاءة والاستقرار.

ويأتي هذا التوجه في إطار معالجة واقعية لحاجة السوق. دون المساس بالمبدأ الأساسي. وهو تشجيع العودة الطوعية.


تحول في الخطاب السياسي التركي

شهد الخطاب السياسي التركي خلال العام الجاري تحولا واضحا. خاصة في التعاطي مع ملف اللاجئين السوريين.

فقد تراجعت نبرة التصعيد. التي كانت حاضرة بقوة في السنوات الماضية. وحلت محلها لغة أكثر توافقا. ترتكز على دعم العودة الطوعية. واحترام كرامة العائدين.


موقف المعارضة التركية

حزب الشعب الجمهوري. الذي طالما تبنى خطابا يدعو لإعادة اللاجئين عبر التنسيق مع دمشق. عدل من نبرته بعد انهيار النظام السابق.

وأعرب زعيم الحزب. أوزغور أوزال. منذ الأيام الأولى للتغير في سوريا. عن ترحيبه بالتطورات.

ودعا أوزال إلى تشكيل حكومة انتقالية سورية جامعة. تهيئ الظروف لعودة آمنة وكريمة للسوريين.


موقف الحكومة وحزب العدالة والتنمية

في المقابل. رأت قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم في موجة العودة تأكيدا على سلامة نهجها.

وأكدت الحكومة أن سياساتها القائمة على العودة الطوعية. والدعم الإنساني. أثمرت عن نتائج ملموسة.

كما انعكس هذا التحول داخل البرلمان. حيث خفتت السجالات الحادة حول ملف اللاجئين. وتراجع استخدامه كورقة سياسية.


نقلة مفاهيمية في إدارة الملف

يرى الباحث التركي في شؤون الهجرة. حيدر شان. أن التغيرات التي شهدتها تركيا لا تقاس فقط بالأرقام.

ويؤكد أن ما جرى يمثل نقلة مفاهيمية في طريقة تعامل الدولة مع ملف اللجوء.

فبحسب شان. بدأت أنقرة لأول مرة منذ بداية الأزمة السورية. في التعامل مع ملف العودة كمتغير حاكم. في سياسات التخطيط الحضري. وسوق العمل. والخدمات.

ولم يعد الملف مجرد بند إنساني أو أمني. بل أصبح جزءا من التخطيط الإستراتيجي طويل الأمد.


اختبار حقيقي لسوق العمل التركي

يشدد شان على أن فقدان اليد العاملة السورية شكل اختبارا حقيقيا لسوق العمل التركي.

ويشير إلى أن السوق لم يكن قد استعاد توازنه الكامل بعد جائحة كورونا. وأزمة الليرة.

ويرى أن قياس الأثر يجب ألا يقتصر على معدلات البطالة. بل يجب أن يشمل الإنتاجية القطاعية. وديناميكيات الأجور. واستدامة الصناعات.


تغير موقع ملف اللجوء في السياسة

يضيف شان أن التحول في الخطاب السياسي. سواء لدى الحكومة أو المعارضة. يعكس نهاية مركزية خطاب اللجوء. في المعارك الانتخابية.

ويرى أن هذا التحول يحتاج إلى تحليل منهجي معمق. يشمل الخطاب السياسي والإعلامي. باستخدام أدوات تحليل كمية وكيفية.

وذلك لفهم كيفية تعاطي الرأي العام مع السوريين. كملف سياسي. وليس كقضية توتر قومي.


خلاصة المشهد بعد عام كامل

بعد عام من بدء عودة السوريين إلى بلادهم. تبدو تركيا أمام مشهد جديد.

مشهد يتسم بتغيرات سكانية واضحة. وتأثيرات اقتصادية عميقة. وتحولات سياسية لافتة.

ورغم التحديات. يظهر أن الدولة التركية دخلت مرحلة أكثر نضجا في إدارة هذا الملف. مرحلة تقوم على التخطيط. والواقعية. والتوازن بين الحاجة الاقتصادية. والاعتبارات الإنسانية.

اقرأ كذلك: المقامرة النووية بين روسيا وأمريكا: اللحظة التي كادت تغيّر مصير العالم وتعود اليوم بثوب جديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات