ملامح الصراع في المرحلة الجديدة بعد عملية الطوفان
التداعيات الاستراتيجية والعسكرية لحرب غزة الأخيرة: خسائر الاحتلال، صمود المقاومة، ومستقبل الصراع في ظل التغيرات الإقليمية والدولية

ملامح المرحلة الجديدة للصراع بعد عملية الطوفان. حرب غزة الأخيرة ونتائجها المختلفة. لم تكن الحرب الأخيرة على غزة مجرد مواجهة جديدة في الصراع مع الاحتلال، بل شكلت نقطة تحول فارقة على مستويات عدة. فقد امتدت تداعياتها إلى أبعاد سياسية وأمنية وعسكرية واجتماعية، لم تقتصر على ساحة المعركة بل تجاوزتها إلى المحيط الإقليمي والدولي. وبالرغم من أن هذه الحرب قد تشابهت مع سابقاتها في بعض الجوانب، مثل الخسائر البشرية والمادية، فإن نتائجها الاستراتيجية كانت أعمق وأكثر تأثيرًا على المدى البعيد، حيث وضعت المنطقة برمتها أمام واقع جديد يتطلب إعادة تقييم لكل الحسابات السابقة.
الخسائر البشرية والمادية في صفوف الاحتلال
تشير التقارير الأولية إلى أن الاحتلال تكبد خسائر بشرية فادحة، حيث فقد أكثر من 900 من ضباطه وجنوده، إضافة إلى مئات من المدنيين وفق تصنيفه الرسمي. ويعد هذا الرقم الأعلى منذ حرب أكتوبر 1973، ما يعكس حجم الضربة التي تعرض لها خلال هذه المواجهة. كما تضرر الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير، مما استدعى تقديم مساعدات مالية مباشرة من الولايات المتحدة، في محاولة لإنقاذ الوضع الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، شهد الكيان موجة هجرة عكسية متزايدة، مع تصاعد شعور المستوطنين بعدم الأمان، خاصة في مستوطنات غلاف غزة والمناطق الشمالية.
خسائر قطاع غزة البشرية والمادية
في المقابل، كانت الخسائر البشرية في قطاع غزة مأساوية، حيث تجاوز عدد الشهداء 60 ألف شهيد، بينهم حوالي 60% من النساء والأطفال. كما تشير التقديرات إلى أن نحو 11 ألف شهيد ما زالوا تحت الأنقاض، في ظل تعذر عمليات الإنقاذ بسبب استمرار الحصار والقصف المتواصل خلال فترة الحرب.
أما من الناحية العمرانية، فقد دمر الاحتلال البنية التحتية في أكثر من نصف القطاع، مستهدفًا المؤسسات الحكومية والمستشفيات والعيادات، فضلًا عن تدمير غالبية المنازل بشكل كلي أو جزئي، مما جعل الحياة في العديد من المناطق شبه مستحيلة.
تداعيات الحرب على المقاومة الفلسطينية
على الرغم من شراسة العدوان، فقد خرجت المقاومة الفلسطينية أكثر تنظيمًا وقوة، واستطاعت الصمود رغم استهداف قياداتها السياسية والعسكرية. حيث نعت حركة حماس عددًا من قياداتها البارزين، من بينهم رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري، إضافة إلى يحيى السنوار الذي كان يقود الحركة في غزة، ومعظم أعضاء المكتب السياسي داخل القطاع. كما استشهد عدد من قياداتها في الضفة الغربية والخارج، بالإضافة إلى قيادات من الفصائل الفلسطينية الأخرى.
عسكريًا، أعلن الناطق باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” استشهاد قائد هيئة الأركان محمد الضيف، ونائبه مروان عيسى، وثلاثة من قادة الألوية، وعدد من القادة الميدانيين. كما أفادت التقديرات بارتقاء عدد كبير من القيادات الوسيطة، إلى جانب مئات أو ربما آلاف المقاتلين في كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة.
الأهداف المعلنة للاحتلال وفشله في تحقيقها
رغم حجم الدمار والتضحيات الكبيرة، لم يتمكن الاحتلال من تحقيق أهدافه المعلنة. فقد أوقف عدوانه دون القضاء على المقاومة، أو استعادة الأسرى بالقوة، أو تحقيق نصر استراتيجي يعزز من قوة الردع لديه. وعلى العكس، خرجت المقاومة أكثر قوة وتماسكًا، وظل الفلسطينيون صامدين على أرضهم، رغم كل محاولات التهجير والإبادة الجماعية.
التحديات المستقبلية لقطاع غزة والمقاومة الفلسطينية
إمكانية تجدد العدوان الإسرائيلي
يبقى أحد أهم التحديات التي تواجه غزة والمقاومة الفلسطينية هو احتمال استئناف العدوان بعد انتهاء مراحل تبادل الأسرى، حيث تواترت تصريحات من مسؤولين إسرائيليين ومن الرئيس الأميركي الجديد حول إمكانية استكمال الهجوم على القطاع. ولهذا، تسعى المقاومة إلى إرسال رسائل قوة واضحة تؤكد استعدادها لأي مواجهة قادمة.
إعادة الإعمار والأوضاع الإنسانية
على الصعيد الإنساني، يبرز ملف إعادة الإعمار كأحد التحديات الكبرى، إلى جانب عمليات الإغاثة، وعلاج المصابين، ودعم السكان المنكوبين. تسعى “إسرائيل” إلى عرقلة هذه الجهود، بغية استخدام المعاناة كورقة ضغط سياسي لإضعاف المقاومة والمجتمع الغزي على المدى الطويل. ويستدعي هذا التحدي دعمًا عربيًا وإسلاميًا عاجلًا، فضلًا عن الضغط الدولي لإلزام الاحتلال بفتح المعابر والسماح بوصول المساعدات الإنسانية.
مشروع التهجير ومحاولات تفريغ غزة
لم تتوقف المحاولات الإسرائيلية لتهجير سكان غزة، رغم فشلها المتكرر خلال الحرب. وقد أظهرت تصريحات لمسؤولين أميركيين، بينهم الرئيس السابق دونالد ترامب، توجهًا نحو إقناع دول مثل مصر والأردن باستقبال أعداد من اللاجئين الفلسطينيين. ومن الواضح أن عرقلة جهود الإغاثة والإعمار تأتي في إطار محاولة جعل غزة غير صالحة للحياة، مما يعزز الضغط على سكانها للبحث عن حلول بديلة خارج القطاع.
التداعيات السياسية الإقليمية للصراع
إعادة ترتيب أولويات المنطقة
على المستوى السياسي، لا تزال المشاريع الإسرائيلية المدعومة غربيًا بشأن مستقبل غزة غير محسومة. إلا أن عملية “طوفان الأقصى” عطلت بشكل واضح مسار التطبيع بين بعض الدول العربية و”إسرائيل”، ما دفع الإدارة الأميركية إلى تكثيف جهودها لإعادة إحياء هذه العملية ضمن صفقة إقليمية شاملة.
تشويه صورة المقاومة ومحاولات تقويضها
إحدى أبرز المحاولات التي يسعى إليها الاحتلال هي تغيير الرواية العامة عن المقاومة، من خلال إلقاء اللوم عليها في حجم الدمار والخسائر البشرية التي لحقت بغزة، بدلًا من تحميل الاحتلال المسؤولية عن ذلك. وتندرج هذه المحاولات ضمن إطار أوسع يهدف إلى شيطنة المقاومة وتجفيف منابع دعمها سياسيًا وماليًا.
دلالات الحرب وتغير ميزان القوى
انهيار العقيدة الأمنية الإسرائيلية
كشفت هذه الحرب ضعف العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي قامت على مبدأ الردع والإنذار المبكر والحسم العسكري. لقد أثبتت الوقائع أن الاحتلال لم يعد قادرًا على تحقيق تفوق استراتيجي دائم، وأن المقاومة قادرة على إلحاق خسائر كبيرة به، رغم الفارق الكبير في الإمكانيات العسكرية.
ثبات المقاومة واستمرار المواجهة
في المقابل، أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها قادرة على امتصاص الضربات، وإعادة ترتيب صفوفها بسرعة، مما يجعل أي مواجهة مستقبلية تبدأ من حيث انتهت الحرب الأخيرة. ويؤكد ذلك أن الاحتلال لن يتمكن من فرض معادلات جديدة بسهولة، خاصة في ظل الدعم الشعبي الذي تحظى به المقاومة داخل فلسطين وخارجها.
رغم الجرائم التي ارتكبها الاحتلال خلال الحرب، لم يتمكن من تحقيق أهدافه، ولم يستطع تهجير الشعب الفلسطيني أو القضاء على المقاومة. وبدلًا من تصفية القضية الفلسطينية، وجد الاحتلال نفسه في مواجهة مرحلة جديدة من الصراع، أكثر تعقيدًا وأشد خطورة على مستقبله. ومع مرور الوقت، ستتضح ملامح هذه المرحلة أكثر، حيث ستحدد طبيعة التحولات الإقليمية والدولية القادمة مدى قدرة الاحتلال على تجاوز أزماته، أو انزلاقه نحو مزيد من التراجع والانكشاف.
اقرأ كذلك :كيف حول النظام الدولي دول العالم الإسلامي إلى أراضٍ محتلة؟