مدونات

ماذا تعني الزيارات الرفيعة المستوى من تركيا إلى العراق ؟

تحليل الأثر الأميركي والتوجهات السياسية لتركيا في ظل التحولات الإقليمية والمحلية

صحيح أن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى العراق الأسبوع الماضي، لم تكن الأولى من نوعها. إذ سبقها جولة له خلال شهر أغسطس/آب 2023 استغرقت ثلاثة أيام. التقى خلالها بعدد كبير من الشخصيات الحكومية والزعامات السياسية والحزبية في العاصمة العراقية وفي مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق. إلا أنني أجزم بأن هذه الزيارة الأخيرة تتسم بأهمية بالغة، تجعلها أكثر من مجرد زيارة بروتوكولية عادية. ويرجع ذلك ابتداء لعاملين أساسيين هما طبيعة الوفد المرافق له، وتوقيت الزيارة نفسها.

فقد جاءت طبيعة تشكيل الوفد المرافق لوزير الخارجية لتشير إلى أهمية الزيارة. حيث ضم الوفد كلا من وزير الدفاع يشار غولر ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالن. وهما يترأسان سلم كبار المسؤولين الأتراك المنوط بهم صياغة وتنفيذ الخطط العسكرية والأمنية للبلاد، بخلاف الحال في الزيارات السابقة التي ضمت وزراء ومسؤولين تكنوقراط في مجال الطاقة وخلافه.

وأما من ناحية التوقيت، فقد أتت هذه الزيارة بعد زيادة وتيرة تعرض القوات التركية للعديد من الهجمات التي أودت بحياة العشرات من عناصر الجيش التركي والتي يُتهم بارتكابها تنظيم حزب العمال الكردستاني بي كيه كيه انطلاقاً من معاقله في جبال قنديل شمال العراق حيث أدت تلك العمليات وتكرار سقوط ضحايا من الجيش التركي إلى توجيه أسهم النقد من قِبل المعارضة التركية للحزب الحاكم وإدارته.

وبهذا التركيز على التفاصيل الحيوية للزيارة وأبعادها السياسية والأمنية. يمكننا فهم مدى التحركات التي تقوم بها تركيا في المنطقة وتأثيرها على الأوضاع الإقليمية والدولية.

تركيا والتدخل العسكري: تحليل للظروف الجيوسياسية في الشرق الأوسط

يتزامن ذلك مع استمرار تفاقم الأوضاع العسكرية والأمنية في المنطقة سواء من حيث تواصل الحرب في غزة دون وجود أفق للحل، أو من حيث انحسار الملاحة وحركة النقل البحري في مضيق باب المندب نتيجة لتزايد هجمات الحوثيين في اليمن.

وفي ضوء ما سبق. فإن الأمر الذي قد يطرأ على الذهن مباشرة أن تركيا تستعد لعملية عسكرية واسعة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

دعوني هنا أذكر بشيء. قبل أيام من هذه الزيارة. نشر موقع ميدل إيست آي مقالاً أكد فيه أن تركيا تتجهز للقيام بعملية عسكرية نوعية واسعة النطاق. ربما خلال الصيف المقبل، تستهدف معاقل تنظيم بي كيه كيه في شمال العراق. ولفت المقال النظر إلى أنه من المرجح أن تكون التحركات التركية الأخيرة وزيارة الرئيس أردوغان المتوقعة إلى بغداد الشهر المقبل والزيارات رفيعة المستوى التي تسبقها، ممهدة لأن يكون التدخل التركي ليس فقط عبر ضربات جوية كما اعتاد سابقا. وإنما يحتمل أن يكون التدخل هذه المرة برياً وربما طويل الأجل.

إذن، هل حدث تغير جيوسياسي بالمنطقة يجعل من هذا التدخل التركي أمرا ممكنا وملحاً أكثر من أي وقت مضى؟

وللإجابة على هذا التساؤل فإنني يمكنني أن أستعرض بعض العوامل التي تصب في كون الظرف الزمني أفضل من أي وقت للإجهاز على تنظيم بي كيه كيه في العراق.

تركيا ومشروع طريق التنمية العراقي: التحركات الإقليمية والآفاق المستقبلية

مشروع طريق التنمية العراقي يشكل جزءًا هامًا من رؤية العراق للتطور الاقتصادي والاستقرار الإقليمي. يهدف هذا المشروع الضخم إلى إنشاء طريق يمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، يجمع بين الطرق البرية والسكك الحديدية. ويقدم وسيلة مهمة لتعزيز التجارة بين آسيا والخليج وصولاً إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا.

تعد هذه الخطوة مهمة للعراق، ولكنها أيضًا تثير اهتمام تركيا بشكل كبير. فالطريق المقترح يمر عبر مناطق يمتلكها حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. مما يجعل التدخل التركي المحتمل ذا أهمية استراتيجية.

من المعروف أن تركيا تسعى إلى حماية حدودها الجنوبية وضمان استقرارها الأمني. وبالنظر إلى العلاقات التاريخية والسياسية بين العراق وتركيا. فإن التحالف العسكري المحتمل بينهما يعكس تفاهمًا إقليميًا متجذرًا.

وفي هذا السياق، يبرز دور إيران كلاعب رئيسي في المنطقة. فإيران تمتلك مصالحها الخاصة في العراق. وقد تكون لها دوراً في تشكيل المواقف الإقليمية بخصوص مشروع طريق التنمية العراقي والتدخلات المحتملة.

الدور الإيراني في المشهد السياسي العراقي وآفاق التفاهم مع تركيا

إيران تعد من أكبر القوى الإقليمية التي تؤثر في العراق. حيث تقدم دعمًا متقطعًا لتنظيم بي كيه كيه والتنظيمات المتحالفة معه، مثل وحدات المقاومة في سنجار. بغية تضعيف الأحزاب الكردية المعارضة وزيادة الضغط على تركيا.

يأتي الدعم الإيراني كورقة ضغط على تركيا، التي تدعم بدورها تنظيمات أذرية انفصالية في شمال إيران. ومع ذلك. فإن زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة إلى تركيا ربما ساهمت في تقريب وجهات النظر والتفاهم المشترك.

تطوّرات العلاقات الإيرانية التركية يمكن أن تؤدي إلى تحجيم نشاطات حزب العمال الكردستاني في العراق. حيث يُعتبر هذا التنظيم فرعًا مهمًا للمعسكر الغربي ويتلقى دعمًا تمويليًا وتدريبًا من دول غربية ودوليات أخرى. مما يعكس تدخلاته في الشؤون الإقليمية.

تأثير التطورات الإيرانية على العلاقات مع تركيا ومواقفها الإقليمية

وبالتالي لا عجب أن تغير إيران موقفها من التنظيم وتتخلى عن دعمها له داخل العراق لتحقيق مصلحة أهم لها مع تركيا وربما الحصول على مكاسب في ملفات خلافية أخرى مثل سوريا أو القوقاز.

تأثيرات هذا التحول الإيراني تظهر بوضوح في موافقتها على العملية التركية العراقية المشتركة لتأمين إنشاء طريق تجاري عالمي يمر بالعراق، مما يمثل مكسبًا جيوسياسيًا يعزز من قدرة تركيا ويحد من تأثيرات الكيان المحتل في المنطقة.

هذا الممر التجاري الدولي الذي يُعنى به. يلعب دورًا حيويًا في تعويض خسائر الكيان الناتجة عن إغلاق باب المندب بفضل عمليات الحوثي في البحر الأحمر. ويحد من تأثيرات إغلاق تلك الممرات البحرية الحيوية على التجارة العالمية.

تحقيق التفاهم والتعاون بين إيران وتركيا في هذا السياق يعكس تحولات إقليمية هامة. تحمل في طياتها مستقبلًا أكثر استقرارًا وتوازنًا في المنطقة.

تحليل الموقف الأمريكي والتطورات المتعلقة بتركيا في المنطقة

تأتي كل هذه التطورات في ظل انشغال الولايات المتحدة بالعديد من الملفات الداخلية والخارجية التي تراكمت عليها في الآونة الاخيرة والتي قد لا تجعلها تقف بقوة أمام التحرك التركي الوشيك. بل وقد تدفعها باتجاه تفهم مخاوف حليفتها في حلف شمال الأطلسي.

فداخليا، هناك مسألة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أصبحت تفصلنا عنها بضعة شهور والتي تضغط بشدة على بايدن خاصة في ظل تراجعه في استطلاعات الرأي لصالح ترامب، منافسه العائد بقوة.

خارجيا، فإن استمرار التورط الأميركي في الحرب على غزة وتفاقم الوضع الإنساني وانعدام أفق الحل من شأنه أن يخلق ضغطا دبلوماسيا مطرداً عليها في كثير من المحافل الدولية بسبب دعمها المطلق والمتهور للكيان الصهيوني في حربه الهمجية على القطاع.

تعرض الولايات المتحدة إلى هجمات استهدفت قواعدها العسكرية انطلاقا من العراق من قبل التنظيمات الموالية لإيران وذلك بعد اندلاع الطوفان، أصبح يمثل تهديدا للوجود العسكري الأميركي عبر قواعدها في المنطقة ويضغط عليها لربما باتجاه اتخاذ قرار بسحب قواتها من العراق وسوريا. ناهيك عن تورطها عسكريا في التصدي للتهديدات الحوثية في البحر الأحمر.

وفي ضوء ما سبق، قد لا يكون أمام واشنطن سوى أن تبدي تفهما للمخاوف التركية والتحركات العسكرية المترتبة عليها. وقد بدأت بالفعل مؤشرات هذا التفهم تتضح. بعد زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى واشنطن والإعلان عن إنشاء آلية إستراتيجية بين البلدين لمناقشة الملفات السياسية والعسكرية المشتركة. الأمر الذي قد يفتح المجال لقدر أكبر من التنسيق بين البلدين في ما هو قادم من تحركات تركية محسوبة.

اقرأ كذلك: معالم تطور العلاقات التركية المصرية في الحقبة الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات