ترامب يتراجع عن خطاب التهجير: ما الذي جرى؟
تراجع الخطاب الأميركي والإسرائيلي حول مقترح ترامب لتهجير سكان غزة: التحولات السياسية والضغوط الإقليمية تفرض مسارًا جديدًا للتسوية

ترامب يتراجع عن خطاب التهجير: ما الذي جرى؟ اليمين الإسرائيلي يرحب بمقترح ترامب لتهجير سكان غزة: ماذا حدث؟. تفاعل اليمين الإسرائيلي مع مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير سكان قطاع غزة بحماس كبير. كان هذا المقترح، الذي كان يرغب ترامب في تنفيذه منذ بداية العدوان على غزة، أحد أهداف الحرب غير الرسمية بالنسبة لإسرائيل. وقد أعدت وزارة شؤون الاستخبارات خلال الحرب خطة مفصلة حول سيناريو التهجير، وكان بعض جوانبها يحمل طابعًا هزليًا. ومع ذلك، تم حل هذه الوزارة لاحقًا، وبقيت الخطة معلقة.
في يناير/ كانون الثاني، نظم اليمين الإسرائيلي مؤتمرًا لتهجير سكان غزة بمشاركة عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست من الائتلاف الحكومي. ومع تزايد الحراك اليميني الرسمي، لم يقتصر خيار التهجير على اليمين فقط. فقد نشر عضو الكنيست رام بن براك من حزب “يوجد مستقبل” المعارض، والمختص في الشؤون الأمنية، إلى جانب عضو الكنيست داني دانون من الليكود، مقالًا يروج لفكرة “الهجرة الطوعية” لسكان غزة، وتوزيعهم على دول العالم.
مع استمرار العدوان، وفشل إسرائيل في تنفيذ خطة التهجير على نطاق واسع، حاولت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تنفيذ خطة تهجير جزئية في شمال غزة، لكنها فشلت في تحقيقها.
عودة فكرة التهجير مع ترامب
أعاد ترامب إحياء فكرة التهجير في فكر الإسرائيليين من خلال عرض تفاصيل الخطة في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن. بعد أسبوع من ذلك، تبنى المجلس الوزاري السياسي الأمني (الكابينت) خطة ترامب بشكل رسمي خلال اجتماعه الأول بعد عودة نتنياهو من واشنطن. اعتبر نتنياهو الخطة رائعة، واعترف لاحقًا بأن إسرائيل شاركت الإدارة الأميركية في بلورة الخطة وأثرت على موقف ترامب.
كانت خطة ترامب تهدف إلى تحقيق ما يسميه المخيال الصهيوني حسم الصراع مع الفلسطينيين عبر التهجير. وهو المسار الذي لم تحسمه الحركة الصهيونية في 1948 و1967. إذ أن خطة ترامب لم تكن استثناءً في التفكير الصهيوني الإسرائيلي بل كانت جزءًا من هذا المسار. منذ عقود، كانت هناك معارضة للترانسفير الفلسطيني من بعض التيارات السياسية. ورغم ذلك، كان سبب المعارضة آنذاك أن التهجير كان يحمل طابع التطهير العرقي، وهو ما كان غير مقبول أخلاقيًا. لكن عند طرح ترامب الخطة، رحب بها أغلب الحركات والأحزاب السياسية الإسرائيلية في الكنيست، باستثناء حزب الديمقراطيين والعمل برئاسة يائير غولان.
الخطوات التي اتخذتها إسرائيل لتنفيذ الخطة
بعد تبني إسرائيل لمقترح ترامب، بدأ وزير الدفاع الإسرائيلي بتشكيل إدارة خاصة داخل وزارة الدفاع للعمل على إعداد خطة مفصلة لتهجير سكان قطاع غزة. وكان الهدف هو تحفيز السكان على مغادرة القطاع من خلال تقديم امتيازات اقتصادية لهم، ودفعهم نحو مغادرة غزة عبر المعابر البرية والبحرية والجوية الإسرائيلية. ضمت هذه الإدارة موظفين وممثلين عن وزارات حكومية مختلفة لتنسيق الجهود وتحقيق الهدف. ورغم ذلك، لم يتم توضيح ما إذا كانت الخطة تتطلب احتلال القطاع أم لا.
الانقسام داخل الساحة الإسرائيلية حول الخطة
انقسم النقاش داخل إسرائيل حول خطة ترامب إلى ثلاثة تيارات رئيسية. أولاً، هناك التيار المعارض أخلاقيًا للخطة، وهو التيار الأقلية في المشهد الإسرائيلي. ثانيًا، هناك تيار مؤيد لكنه يعتبر الخطة غير قابلة للتنفيذ. ومع ذلك، يعتقد هذا التيار أنه يمكن استخدام الخطة كأداة ضغط على الأطراف الإقليمية لتحقيق مصالح إسرائيل. وأخيرًا، يوجد تيار ثالث يؤيد الخطة ويعتقد أنها قابلة للتنفيذ، خصوصًا إذا كانت الولايات المتحدة جادة في تنفيذها.
في استطلاع للرأي أجراه معهد سياسات الشعب اليهودي، أظهر أن 53% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون مقترح ترامب، مع الاعتقاد بإمكانية تنفيذه. بينما أيد 30% الخطة لكنهم اعتبروا أنها غير قابلة للتنفيذ. وأما البقية، فقد عارضوا المقترح لأسباب مختلفة.
التراجع الأميركي والإسرائيلي عن الخطة
ومع استمرار السجال الإسرائيلي، تراجع الحديث عن مقترح التهجير بشكل سريع. يعود هذا التراجع إلى تصاعد التردد في الإدارة الأميركية، وخاصة لدى الرئيس ترامب. ففي البداية، صرح ترامب أن الخطة “رائعة”، لكن مع مرور الوقت، أشار إلى أنه لن يفرض الخطة بل سيكتفي بتوصية بها. وتراجع الخطاب الأميركي كان ملحوظًا، خاصة بعد التصريحات التي وردت من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الذي أشار إلى أن مقترح ترامب يمكن أن يُطرح فقط إذا لم يقدم العرب بديلاً عنه. بذلك، أصبح من الواضح أن الإدارة الأميركية تراجعت عن طرح الخطة كهدف أساسي، واستبدلته كأداة ضغط على الأطراف الإقليمية لتقديم تصور سياسي لمستقبل قطاع غزة.
التحولات السياسية في إسرائيل
مع بداية المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، تراجعت إسرائيل عن التحدث عن مقترح التهجير. بدلًا من ذلك، عادت للحديث عن أهداف الحرب، مثل نزع السلاح في غزة وإنهاء حكم حماس. لم يعد هناك أي حديث عن مقترح ترامب للتهجير، على الرغم من أنه كان جزءًا من الخطاب السياسي في بداية العدوان.
إسرائيل تدرك أن هناك مسارًا سياسيًا أوسع في المنطقة يتفاعل ويشمل أطرافًا عربية وفلسطينية. هذا المسار يعارض فكرة التهجير، ويضغط على الإدارة الأميركية للقبول بحل لا يشمل التهجير. من المحتمل أن هذا المسار السياسي العربي سيؤدي في النهاية إلى تقديم مقترح عربي بموافقة أميركية، يتضمن إعادة إعمار غزة بدون تهجير، وإنهاء حكم حماس.
التهديدات السياسية والاقتصادية لمقترح التهجير
إذا نجح المسار العربي وفرض هذا الحل على الإدارة الأميركية، فإن ذلك سيشكل تهديدًا حقيقيًا لحكومة نتنياهو. فقد عرض نتنياهو فكرة تهجير غزة كأداة لتثبيت حكومته داخليًا، ما يعني أن رفض المجتمع الدولي لهذا الخيار سيضع الحكومة في موقف صعب.
كما أن المقترح العربي الذي يرفض التهجير سيشكل تحديًا آخر. هذا المقترح يتطلب حكمًا فلسطينيًا مستقلًا عن السلطة الفلسطينية، وفي المستقبل، قد يفضي إلى عودة السلطة الفلسطينية كمرجعية للحكم في غزة. وهذا يشكل معضلة لإسرائيل، التي ترغب في حكم غزة دون أي ارتباط بالسلطة الفلسطينية أو حركة حماس.
التحديات التي تواجه إسرائيل
من المتوقع أن تواصل إسرائيل محاولاتها لتحقيق أهدافها من خلال المسار السياسي الذي تدعمه الولايات المتحدة. مع ذلك، سيظل المقترح العربي الذي يرفض التهجير يمثل حجر الزاوية لأي اتفاق مستقبلي.
إذا نجح هذا المقترح في التأثير على السياسة الأميركية، فسوف ينهار حلم إسرائيل في تهجير سكان غزة. وبذلك، ستجد إسرائيل نفسها مجبرة على التكيف مع مسار سياسي جديد يتضمن إعادة الإعمار، إنهاء حكم حماس، وتشكيل حكم فلسطيني بعيدًا عن السلطة الفلسطينية.
ستبقى قضية تهجير سكان قطاع غزة مسألة سياسية معقدة. وعلى الرغم من تراجع الخطاب الأميركي والإسرائيلي عنها في الوقت الراهن، إلا أن الضغوط الإقليمية والدولية قد تؤدي إلى إحياء هذه القضية في المستقبل.
اقرأ كذلك :خطط تهجير الفلسطينيين من أرضهم: من “النكبة” إلى “التهجير” وترامب لن يكون الأخير