عن جدل النصر والهزيمة وما بعد صمت المدافع في غزة
تجليات النصر والهزيمة في غزة: تأملات في صمت المدافع وتحديات المستقبل بعد اتفاق وقف إطلاق النار

عن جدل النصر والهزيمة وغزة ما بعد صمت المدافع التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2025 سيظل يوماً تاريخياً في الذاكرة الفلسطينية. يوم صمتت المدافع، واختفت المقاتلات والمسيّرات من سماء غزة، يوم توقفت دماء الفلسطينيين عن الجريان، وهدأت آلة التدمير التي استهدفت الأرض والإنسان. كان هذا اليوم نهاية حرب طويلة وشديدة، ولكنه كان أيضاً بداية مرحلة جديدة من المواجهة والتحدي. في ذلك اليوم، توقف شلال الدم الفلسطيني، الذي تدفق على مدار أيام الحرب، وتوقفت آلة التدمير الوحشي التي أصابت الشجر والبشر والحجر.
لكن هذا اليوم لم يكن مجرد توقف للقتال، بل كان بمثابة انتصار معنوي، يعكس الإرادة الصلبة للشعب الفلسطيني والمقاومة التي قاومت جميع الضغوطات. يوم خرج مقاتلو القسّام من خنادقهم ومن تحت الأنقاض في استعراض مهيب للإرادة والصلابة، ليلتقوا لأول مرة مع شعبهم بعد غياب دام 471 يوماً من الجحيم. كان المشهد محملاً بالرسائل والدلالات التي تحمل معاني مختلفة في كل اتجاه.
مواجهة الحقيقة: هل كانت هناك هزيمة؟
في هذا السياق، ظهر جدل واسع حول مفهوم النصر والهزيمة، حيث تداولت العديد من الأطراف في الداخل والخارج هذا التساؤل: هل حققت المقاومة في غزة انتصاراً أم هزيمة؟ هناك من رأى أن الاتفاق الذي تم في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني لم يكن إلا استسلامًا ضمنيًا، وأن المقاومة قد فشلت في تحقيق أهدافها. في المقابل، كان هناك من يرى أن هذا الاتفاق كان بمثابة انتصار، لأنه أجبر العدو على التراجع وإيقاف الحرب، وهو ما لم يكن في حسابات الاحتلال.
الذين يروجون لفكرة الهزيمة، عليهم أن يتفحصوا جيدًا السياقات التاريخية لهذه الحروب. التاريخ الفلسطيني شهد العديد من اللحظات المشتبكة بين النصر والهزيمة. في الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، رفع البلدان المنهزمان، ألمانيا واليابان، الراية البيضاء، وقبلوا شروط المنتصرين، ففرضت عليهم القوى الخارجية العديد من القيود والتعهدات التي غيرت معالم هويتهم الوطنية والسياسية إلى الأبد. في هذا السياق، يمكننا أن نرى أن الهزيمة تعني قبول إملاءات العدو وتدمير الإرادة المقاومة للشعوب.
أما النصر، فهو في قدرتك على منع العدو من تحقيق أهدافه العدوانية. في حالة غزة، لم ترفع راية بيضاء، ولم يتم التوقيع على صك إذعان أو استسلام. بل على العكس، استطاع الشعب الفلسطيني والمقاومة عبر صمودهم وثباتهم أن يحبطوا الأهداف الرئيسة للاحتلال.
الانتصار في غزة: غياب الراية البيضاء
فشل الاحتلال في تحقيق هدفه الأول، وهو تهجير الفلسطينيين من غزة، كما فشل في تدمير بنية المقاومة. كانت هذه بمثابة الأهداف الأساسية التي كانت تسعى إسرائيل لتحقيقها، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق أي منها. ومع توقف الحرب، لم يكن الفلسطينيون على استعداد للقبول بالحلول التي لم تأتِ عبر نضالهم وكفاحهم، بل عبر صفقات سياسية مشبوهة.
رغم أن الاتفاق كان يتضمن شروطًا قاسية، من بينها التبادل الكبير للأسرى وإعادة الإعمار، إلا أنه لم يكن مجرد إقرار بهزيمة. بل كان اتفاقًا مبنيًا على التضحية والصمود، وهو ما جعل الصمود الفلسطيني أكثر قوة من أي وقت مضى. كان من الواضح أن غزة لم تقبل بسلام مذل أو استسلام، بل فرضت معادلة جديدة: لا يمكن أن يكون هناك سلام من دون احترام حقوق الفلسطينيين.
الانعكاسات السياسية بعد وقف إطلاق النار
أما في الجانب السياسي، فقد شكل الاتفاق نقطة تحوّل في النقاش الدائر حول مصير غزة. فبينما كانت هناك دعوات لغياب حماس عن المشهد السياسي في غزة، كان الرد القوي من قِبل المقاومة الفلسطينية يشير إلى أن غزة لا يمكن أن تُحكم من دون حماس. كانت هذه الرسالة واضحة في كل موقف سياسي تم اتخاذه، حيث أكد المقاومون أن غزة لن تُحكم إلا بحماس، وأن كل من يحاول أن يفرض حكومة فلسطينية غير حماسية سيكون في مواجهة مع الشعب الفلسطيني.
كما أن الاتفاق كان بمثابة الرد القوي على المحاولات المتكررة لفصل حماس عن الواقع السياسي في غزة. على الرغم من الضغوطات السياسية والاقتصادية التي كان يتعرض لها القطاع، فإن المقاومة الفلسطينية أظهرت قوة وصلابة لا يمكن تجاهلها. لقد كانت رسالة لكل من أراد أن يفرض سياسات فاشلة على الشعب الفلسطيني بأن لا مجال لهذه السياسات بعد الآن.
الإعلام الإسرائيلي والتناقضات في خطاب القيادة
وفي الوقت نفسه، كان الخطاب الإسرائيلي مليئًا بالتناقضات. فقد حاول العديد من القادة الإسرائيليين التهرب من واقع الهزيمة التي تعرضوا لها على الأرض، حيث كان خطاب نتنياهو وحكومته في البداية مليئًا بالحديث عن الانتصارات الوهمية. لكن في النهاية، ظهر نتنياهو في خطاب متلعثم، بعيدًا عن أعين الصحفيين، في محاولات فاشلة لتبرير فشلهم العسكري والسياسي.
أما أبو عبيدة، فقد خرج صوته، محملاً بعز وفخار، يعلن عن انتصار المقاومة. كان صوتًا حقيقيًا، منبعثًا من تحت الرماد، ليؤكد أن غزة كانت وما زالت قلعة الصمود والمقاومة. ورغم كل التحديات، فإن المقاومة لم تتراجع عن أهدافها ولم تسمح للعدو بتحقيق أهدافه، بل كانت هي التي فرضت معادلات جديدة على الأرض.
مستقبل غزة: بعد وقف النار
ومع وقف إطلاق النار، بدأت الأسئلة تتزايد حول كيفية التعامل مع المرحلة القادمة. هناك من يرى أن هذا الاتفاق قد يكون بداية لإنهاء الصراع، بينما يرى البعض الآخر أن هذا مجرد استراحة مؤقتة قبل أن تنفجر الأوضاع مجددًا.
فيما يتعلق بحماس، فقد أكدت من خلال تحركاتها وتصريحاتها أنها لن تقبل بحكم غزة بدونها. كانت هذه الرسالة واضحة وقوية. وعلى الرغم من محاولات البعض لعزل حماس أو إضعافها، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن غزة لا تحكم من دون حماس.
السبل المستقبلية للسلام والمصالحة الفلسطينية
على الرغم من التحديات التي لا تزال تواجه الفلسطينيين، فإن الحل الوطني يبقى هو الخيار الأفضل. من المهم أن تبدأ الفصائل الفلسطينية في إعادة بناء الوحدة الوطنية، بعيدًا عن الحسابات الضيقة. يجب أن يكون هناك إطار قيادي موحد، من أجل الوصول إلى حلول سياسية تضمن تحقيق حقوق الفلسطينيين دون التنازل أو الاستسلام لأي طرف خارجي.
من المهم أيضًا أن يتم تفعيل القرارات التي تم اتخاذها سابقًا في إطار المصالحة الوطنية، وأن تكون هناك خطوات جدية نحو بناء حكومة توافق وطني تشمل جميع القوى الفلسطينية، بما في ذلك حماس. هذا هو الحل الذي يجب أن يتبعه الشعب الفلسطيني من أجل ضمان مستقبله.
إن ما حدث في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2025 ليس مجرد وقف لإطلاق النار، بل هو بداية مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. رغم أن الاتفاق حمل بعض التنازلات، إلا أنه كان في الأساس نتاجًا لصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته. لم تكن غزة مجرد مكان للدمار، بل كانت معركة للإرادة والصمود. وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل عن التحديات التي لا تزال قائمة، ولكن الأمل في تحقيق النصر يظل حيًا، مع بقاء الشعب الفلسطيني متمسكًا بحقوقه ومصيره.
اقرأ كذلك :7 محاور رئيسية ستحدد نجاح التحول في سوريا