هل تجري حرب بين الضعفاء والأقوياء في غزة؟ دراسة لمفهومي النصر والهزيمة
معركة غزة: صراع المعنى والضلال، حقيقة الضعيف والقوة الظالمة
هل تجري حرب بين الضعفاء والأقوياء في غزة؟ دراسة لمفهومي النصر والهزيمة. في سياق اللغة الإنجليزية، يُستخدم مصطلح “معنى” (sense) للإشارة إلى مفاهيم مثل “الوجهة” و “الطريق”. وهذا يُشابه استخدام مصطلح “المقصود” في اللغة العربية، الذي يُشير بدوره إلى الهدف المراد والاتجاه المُعين.
إذاً، عندما نتحدث عن البحث عن المعنى، فإننا في الواقع نبحث عن الاتجاه والهدف. مثلما يبحث الشخص عن وجهته والطريق التي سيسلكها. وفي حالة فقدان المعنى. يمكن القول إن الشخص فقد الاتجاه والهدف، ولا يعرف إلى أين يتجه أو ما الذي ينوي القيام به. ببساطة، فإن فقدان المعنى يُمثل حالة الضلال، حيث يكون الفرد ضائعًا وليس لديه توجيه واضح. ويُمكن أن يكون الضلال قريبًا أو بعيدًا، وهذا يعتمد على السياق والتفاصيل.
في هذا السياق، يُظهر تصاعد الأدلة على الضلال البعيد بشكل أوضح من خلال التصاعد في تصرف إسرائيل والدعم الغربي لها. حيث يصرّون على تنفيذ سياسات تُعتبر خاطئة بشكل واضح، بمحاولتهم استئصال الهوية الفلسطينية وتدمير المؤسسات والموارد الحيوية في فلسطين.
إسرائيل وغزة: فقدان المعنى والمأساة الإنسانية
بالرغم من كل الجهود التي يبذلها المتحدثون للدفاع عن ما يحدث في غزة. إلا أن مشاهد القتل العشوائي والإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الأفراد العزل لا تزال تبدو بلا معنى. بل إذا أردنا التعبير بشدة، يمكن القول إن ما يحدث في غزة اليوم يشكل انتهاكًا جسيمًا للقيم والأخلاق والدين والإنسانية والعقل السليم. يبدو أن ما يجري يمثل انحرافًا عن المبادئ الأخلاقية والأهداف السامية.
إذا كانت الهدف المنشود هو تحقيق النصر من خلال العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين الأبرياء. فإن هذه العمليات بدت تضل الطريق وتبتعد عن المعنى. الجيش الإسرائيلي يبدو أنه لم يدرك أن للنصر مفاهيم أخرى يجب أن تتحقق فيها.
عندما يخطئ الإنسان الطريق نحو هذه المفاهيم، فإنه يكون عرضة للوقوع في أخطاء أخلاقية كبيرة. هل يمكن أن يكون هناك معنى للهزيمة الأخلاقية خلافًا للإصرار على إظهار القوة في غير سياقها. ؟ حيث يعتقد القوي أن النصر يأتي من خلال إبادة الخصوم، وقتل الأبرياء، وتدمير البنية التحتية، والاستهانة بالأرواح البشرية.
غزة وإسرائيل: بين النصر المادي والنصر المعنوي
كل الأعمال الوحشية التي تندرج تحت صفة الجيش الإسرائيلي تكشف عن هدف إسرائيل الوحيد. وهو تحقيق النصر البدني دون الأخذ في الاعتبار أي قيمة من قيم النصر الأخلاقي.
إذا قرأ أحد رواية “العجوز والبحر” للكاتب الأميركي “إرنست همنغواي”. سيتعرض لعبارة البطل “سنتياغو” التي تقول: “إن الإنسان قد يُدمَّر، ولكنه لن يُهْزم”. هذا يعني أنك قد تدمر وتقتل جسدًا، لكنك لن تستطيع هزيمة الروح التي تسكن هذا الجسد. يمكن للآخرين أن يعترفوا بتفوقك المادي. ولكنهم لن يمكنوا أبدًا من تحقيق التفوق الأخلاقي أو احتلال مكانتك في قلوب الآخرين بناءً على القيم.
هذا ما يشير إليه الفيلسوف الألماني “فريدريش نيتشه” في كتابه حول “الإنسان المفرط في إنسانيته”. حيث يقول: “لا تهدف إلى النصر إذا كانت نيتك فقط هي التفوق البسيط على الخصم. النصر الحقيقي يجلب السعادة للمهزومين ويحمل مكونات طبيعية ترفع عن المهزومين الشعور بالخزي والعار”.
تجعل كلمات “نيتشه” هذه تفسير ما يحدث في غزة اليوم وتظهر كيف تزيد شدة العدوان الإسرائيلي تصميم المقاومة وقوتها. لأن ما يقوم به إسرائيل لا يمكنه أبدًا أن يعكس تلك الروح الرفيعة التي تدفع من هو أضعف قوة نحو النجاح والتفوق الأخلاقي.
تناقضات إسرائيل: بين الدين والإنسانية في سياستها تجاه فلسطين
إحدى المفارقات الغريبة التي تبرز وتلفت انتباه المراقبين هي وجود جهات إسرائيلية تدعو إلى إبادة الشعب الفلسطيني. وتبحث عن تبرير لهذا الفعل، وهذه الجهات تجدها ضمن الجماعات اليمينية المتطرفة التي تحظى بالدعم من أحزاب دينية.
هذا الواقع يثير تساؤلات حول كيف يمكن للسلطات الإسرائيلية التي تدير الصراع داخل إسرائيل أن تجمع بين الدين وانتهاكات حقوق الإنسان، حيث تظهر تلك التصرفات ضاربةً عرض الحائط بالقيم والأخلاق الدينية. فالإنسان يُشدد على أهمية التوازن بين الجانب الروحي والجسدي، وبين القيم الأخلاقية والنفسية. لا يمكن للإنسان الذي يعبد الدين أن يسعى نحو النصر بأي طريقة تنطوي على الاستبداد والقتل. لأن ذلك يعكس عدم فهمه الصحيح للروحانية والقيم الدينية.
ما يحدث في غزة والعدوان الإسرائيلي يُظهر أن إسرائيل قد تخلت عن أخلاقياتها وفقدت حق النقاش بشأن القيم الدينية. الدين، في جوهره. يعني التحول من البطولة الجسدية التي لا تعتبر الأخلاق فيها عائقًا للقتل إلى بطولة أخلاقية تحدد المعنى الذي يمكن أن يكون معنى القتل في هذا السياق. يمكننا أن نجد هذا المعنى في قوله تعالى: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”. هذه الآية تُظهر لنا السبيل الصحيح لفهم الدين والإيمان أثناء الصراع، حيث تشدد على ضرورة الالتزام بالأخلاق وعدم الاعتداء على الأبرياء.
وبصرف النظر عن الكلام الفارغ الذي يستخدمه البعض لتبرير أفعالهم. يتوجب على العالم العقلاني أن يتوقع أن تعترف إسرائيل بما قامت به من أعمال تدمير وإبادة ضد الشعب الفلسطيني. ينبغي لها أن تعتذر عن فقدان الأرواح البريئة والأضرار التي تسببت فيها خلال هجومها على المدنيين الأبرياء وتوقعهم في هذا الصراع. غير أن الواقع يبين لنا أنها تستخدم كلمات جديدة لتبرير أفعالها الوحشية وتحاول اللجوء إلى المنطق لتبرير الجرائم التي ترتكبها.
العقل والسفسطة: تحولات في السياسة الإسرائيلية والتلاعب بالمعنى
في الوقت الحاضر، يبحث العقل السياسي الإسرائيلي في سبل تبرير أعماله الحربية من خلال إدخال مقولات معينة إلى ذهنيات الناس. هذه المقولات تنتمي إلى التفكير الاستعماري وتحاول أن تلقي الضوء على جرائم الحرب التي ترتكب. ومن المثير للدهشة أن يُرتبط العقل الإسرائيلي بين الانتماء للحضارة والديمقراطية والعقلانية من جهة، وبين الحق في إكراه الآخرين وإجبارهم على الاستسلام أو الموت من جهة أخرى.
هذا الاختلاط يدخل في نطاق العقل الاصطناعي الذي يصنع المعنى دون مراعاة المعنى الطبيعي. على سبيل المثال، كيف يمكن لعقل معقول أن يبرر تدمير ملايين الأطنان من المواد الغذائية بواسطة الحرق أو الرمي في البحر، في سبيل مصالح اقتصادية مزعومة، في حين يعاني الملايين من الجوع والموت؟ العقل الصحيح لا يمكن أن يقبل هذا الفعل إلا كما يقول: “اللهم، إن هذا منكر”.
إسرائيل والاستعمار الغربي استخدما العقل كوسيلة لتبرير الأعمال الوحشية والجرائم. إنهما استفادوا من التكنولوجيا والعقلانية في إدارة الصراع وتبرير ممارساتهم. إسرائيل لم تعد تلتفت إلى الواقع الموجود أو تُقر به، حتى إذا اتفق العالم على إدانة أفعالها بناءً على الوقائع، تستخدم التكنولوجيا والعقل لإخفاء الحقائق وتزويرها وللتلاعب بالعقول من أجل فرض واقع مصطنع. يكشف هذا التصرف عن انحراف عقلي واضح بعيدًا عن المعنى الحقيقي.
بينما يستمر الدفاع الأمريكي عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دون أخذ الواقع والحقائق في الاعتبار، يُظهر ذلك تدهورًا في العقلية. نشعر أن العقل الذي تم تطويره لديه حدٌّ غير مقبول من التلاعب والسفسطة، ولا يُعطى للحقيقة والواقع الأهمية التي تستحقها. وبعيدًا عن السفسطة التقليدية التي تعتمدها بعض الأشخاص لتحقيق أهدافهم، ترتكز السفسطة الجديدة على تشكيل الواقع وصناعة المعنى والحقيقة.
معركة غزة: بين المعنى والضلال، الحق والباطل
يبدو بوضوح أن معركة غزة الحالية لم تعد مجرد صراع بين إسرائيل والفلسطينيين، بل هي صراع بين المعنى الحقيقي والضلال الظاهر، بين الحق والباطل. من الخاطئ تمامًا أن نعتقد أن القوة الظالمة قادرة على الانتصار، حتى إذا كانت القوة المادية في صفها.
في كتاب “الحرب وضدها” لـ هايدي وآلفن توفلر، تنبأوا بأن الإنسانية ستشهد أنواعًا جديدة من الحروب لم تكن واضحة بعد. وبعد مضي نحو ثلاثين عامًا، جاءت حرب غزة لتلقي الضوء على طبيعة هذه الحروب.
المعركة في غزة اليوم تتجلى في صراع بين “القوة الضالة وضعفها” و “ضعف القوة وقوتها”. ضعف القوة ينبع من ضلالها، بينما قوة الضعيف تكمن في المعنى الذي يحمله أو المقصد الذي ينوي تحقيقه.
اقرأ كذلك : تعرف على تأثير العدوان على الاقتصاد في غزة من خلال الأرقام