منوعات

مغادرة آخر مهاجر عربي من أوروبا: رحلة الخيال والواقع في زمن الاستثارة والهويات

تخيّلات إيّكو وبن جلّون والحالة الأوروبية المعاصرة

في كتابه الشهير القهقرى كفراشة البحر الصادر عام 2006، رسم المفكر الإيطالي أمبيرتو إيكو مشهداً كابوسياً لصدام شامل بين العالمين الإسلامي والمسيحي. تخيل حرباً لا تشبه حروب الماضي. حرباً تتجاوز الحدود الجغرافية. فالبحر الأبيض المتوسط لم يعد يفصل بين العالمين. ملايين المسلمين يعيشون اليوم في قلب أوروبا. التكنولوجيا ربطت الشرق بالغرب. المصالح تشابكت حتى صار الخصمان بحاجة لبعضهما. الغرب يحتاج إلى النفط العربي. والمسلمون يحتاجون إلى التكنولوجيا الغربية.

إيكو لم يكن روائياً عابراً. بل فيلسوفاً يقرأ المستقبل من بين سطور الحاضر. في تخيله كتب أن الغرب إذا فقد مصالحه، وإذا وجد نفسه بلا نفط، فسيبدأ موسم صيد المسلمين. موسم يلاحق فيه الناس كل من له بشرة سمراء أو لحية قصيرة. لن تحتاج الدول إلى جيوش. ستتولى الجماهير المهمة. حينها ستتحول الكراهية من فكرة إلى فعل، ومن خطاب إلى سياسة.

هذا السيناريو الذي بدا خيالاً عام 2006، يبدو اليوم وكأنه واقع يتشكل في كل زاوية من القارة الأوروبية.


الخيال الذي صار سياسة

إيكو كتب أن الغرب ربما لا يقتل المسلمين المقيمين في بلاده. لكنه سيفعل كما فعلت أميركا بالحرب العالمية الثانية. سيرسل أبناء الجاليات الإسلامية ليقاتلوا المسلمين في أوطانهم. هكذا يتحول المهاجر إلى أداة. يصبح الولاء للغرب اختباراً للنجاة. وإن رفض القادة العرب استقبال المبعدين، فستُلقى جثثهم في البحر المتوسط.

هذه الصورة السوداوية التي ختم بها إيكو كتابه لم تكن سوى تحذير. لكنه تحذير لم يُصغِ له أحد. اليوم تتشكل الأحزاب اليمينية في أوروبا على ذات الإيقاع. وتستعيد الخطاب ذاته. الخطاب الذي يجعل من المسلم خصماً وجودياً، ومن المهاجر عبئاً على الهوية الأوروبية.


سيناريو الطاهر بن جلون: المهاجر الأخير

في العام نفسه، كتب الروائي المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون مقالاً بعنوان المهاجر الأخير في صحيفة لوموند ديبلوماتيك. تخيل فيه أن آخر مهاجر عربي يغادر فرنسا. مشهداً رمزياً، لكنه مليء بالمرارة. كتب أن فرنسا البيضاء ستعود لنفسها. لن تشم رائحة الأكلات العربية. ولن تسمع الأذان في ضواحي باريس.

تخيل أن الحكومة الفرنسية تودّع آخر مهاجر بدمية على شكل جمل. هدية رمزية تحمل كل السخرية الممكنة. اليمين المتطرف، رغم كراهيته للمهاجرين، شعر بالحزن. لأن رحيلهم يعني ضياع مشروع الكراهية الذي بنى عليه وجوده. قال بن جلون ساخرًا: “سيخرج اليمين الفرنسي ليرفع لافتات تقول: أعيدوا لنا عربنا، نحتاج إلى العرب، نحتاج إلى الكراهية”.

اليوم، وبعد قرابة عقدين على هذا النص، يبدو أن ما تخيله الكاتب صار قريباً من التحقق.


صعود اليمين المتطرف: من الهامش إلى الحكم

في عام 2002، حين ترشح جان ماري لوبان للرئاسة الفرنسية، خرج أكثر من مليون فرنسي احتجاجاً على صعود اليمين المتطرف. لكن المشهد تغيّر تماماً. الآن، تتقدم ابنته مارين لوبان نحو الرئاسة بخطى واثقة. ولم يعد أحد يخرج للاحتجاج سوى عشرات. بينما ملايين يصوتون لصالحها.

في ألمانيا، صعد حزب “البديل من أجل ألمانيا” إلى صدارة استطلاعات الرأي. تجاوز الحزب المسيحي الديمقراطي الذي حكم البلاد لعقود. الأحزاب اليمينية اليوم تملأ القارة من الشرق إلى الغرب. ترفع شعار الهوية المسيحية. وتضع الإسلام في خانة التهديد.

في البرلمان الأوروبي، يشكل اليمين الشعبوي الآن قرابة ربع المقاعد. وكل استطلاع يشير إلى مزيد من الصعود في السنوات القادمة.


الهوية في خطر.. أو هكذا يقولون

الخطاب اليميني في أوروبا يختزل الهوية في مفهوم المسيحية الغربية. الليبرالية لم تعد قيم حرية، بل صارت مقياساً للولاء لإسرائيل. فحتى الأحزاب التي تتحدث عن الديمقراطية تضع “معاداة السامية” كخط أحمر مطلق.

البديل الألماني مثلاً، يقدم دعمه لإسرائيل كدليل على انتمائه للعالم الليبرالي. يهاجم الفلسطينيين بلا تحفظ. ويصف أي تعاطف مع غزة بأنه خيانة للقيم الغربية.

بهذا المنطق، يتحول اليمين المتطرف إلى حارس القيم الجديدة. قيم مشوهة تبرر القتل باسم الأخلاق. وتمنح الكراهية شرعية سياسية.


الوباء الأوروبي: كراهية متخفية بالليبرالية

باستثناء مالطا وأيرلندا، لم تسلم أي دولة أوروبية من هذا الوباء الفكري. آلاف الأشخاص خسروا وظائفهم لأنهم عبروا عن تعاطفهم مع غزة. فصلٌ جماعي غير معلن. إعلام يشيطن المسلمين. وشركات تخشى أي موظف يحمل اسماً عربياً.

السيناريو الذي كتبه إيكو قبل عقدين يتكرر اليوم في نشرات الأخبار. ليس في صفحات الأدب. الجماهير التي تحدث عنها خرجت فعلاً. لا بالسكاكين هذه المرة. بل بالخطابات والسياسات والقوانين.


ميرتس.. المستشار الذي أحيا الكراهية

فريدريش ميرتس، المستشار الألماني الحالي، صب الزيت على النار. قال في تصريح إن “ألمانيا لا تزال تعاني من مشكلة في صورتها”. لم يقصد الاقتصاد أو البنية التحتية. بل المهاجرين.

حين واجه انتقادات، عاد ليقول مبتسماً إن كلامه لم يكن زلة لسان. وأضاف ساخرًا: “اسألوا بناتكم لتتأكدوا مما أعنيه”. كان يشير إلى قضايا التحرش. ليوحي أن العرب والمسلمين وراءها.

هذا الخطاب الشعبوي ليس جديداً. لكنه صار أكثر قبولاً. فبعد سنوات من تغذية الإعلام لصورة “العربي المغتصب”، صار الناس يصدقون دون دليل.


البروباغندا الإسرائيلية.. والنسخة الأوروبية منها

قبل بدء الحرب على غزة، أطلقت إسرائيل حملتها الدعائية الضخمة. ركزت على اتهامات بالعنف الجنسي ضد الفلسطينيين. استخدمت هذه القصص الملفقة لتبرير القصف والتدمير.

صحيفة نيويورك تايمز نشرت تقريراً بعنوان “صراخ بلا كلمات”. تحدث عن اغتصابات مزعومة. لاحقاً، تبين أن معدة التقرير جندية إسرائيلية تُدعى أنات شفارتس. لا علاقة لها بالصحافة. ألغت الصحيفة تعاقدها معها لاحقاً دون أن تعتذر.

الهدف من القصة لم يكن كشف الحقيقة. بل تثبيت الصورة ذاتها في الوعي الغربي: العربي المغتصب، المسلم العنيف، الذي يجب التخلص منه.

وهذه الصورة ذاتها يستخدمها ميرتس في الداخل الألماني. ليبرر السياسات القاسية ضد المهاجرين.


حين تُحجب الحقيقة بالأرقام

الإحصاءات الألمانية الرسمية تكشف مفارقة مذهلة. وزارة الداخلية سجلت في عام 2023 أكثر من 52 ألف حالة عنف جنسي ضد النساء. وأكثر من 16 ألف حالة ضد أطفال دون الرابعة عشرة. معظم الفاعلين ألمان.

لكن هذه الحقائق لا تجد طريقها إلى الإعلام. لأن الجريمة حين تصدر عن “الألمان الأصليين” تُعامل كحادث فردي. أما حين يكون المشتبه به عربياً، فإنها تتحول إلى قضية رأي عام.

في عام 2002، قبل أزمة اللجوء بعشر سنوات، سُجلت 15 ألف حالة اغتصاب لأطفال في ألمانيا. أي ما يعادل 750 فصلاً دراسياً. كل ذلك قبل أن يأتي اللاجئون الذين يُتهمون اليوم بكل الجرائم.


السياسة حين تبحث عن شماعة

ميرتس يعرف أن الاقتصاد الألماني في مأزق. وأن شعبيته تتراجع. آخر استطلاع أظهر أن 66% من الألمان غير راضين عن أدائه. نصفهم يطالب بإنهاء الائتلاف الحاكم.

في مثل هذه الأزمات، يبحث السياسي عن عدو خارجي. والمهاجر هو الهدف الأسهل. لا يحتاج إلى دليل. ولا من يدافع عنه.

لكن الأزمة الحقيقية أعمق. ألمانيا فقدت مكانتها كأكبر مصدّر في العالم. تأخرت في سباق الذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية. البيروقراطية تخنق الاستثمار. نصف الشركات الكبرى تفكر في مغادرة البلاد.

مجلة الإيكونوميست وصفت ألمانيا في عددها الصادر بأغسطس 2023 بأنها “رجل أوروبا المريض”.


موسم اصطياد المسلمين.. البداية من جديد

في ظل هذه الأزمات، يتقدم خطاب الكراهية كحلّ بديل. يهاجم السياسيون العرب والمسلمين لتبرير فشلهم. حزب “البديل” اليميني دعا علناً إلى خطة “إعادة التهجير” أو Remigration. أي طرد المهاجرين، حتى من يحملون الجنسية الألمانية.

ما كان خيالاً في رواية إيكو صار اليوم مشروعاً سياسياً يُناقش في العلن.

التهديد لا يقف عند حدود ألمانيا. بل يمتد إلى فرنسا وهولندا والسويد. اليمين الشعبوي يتغذى على الخوف. والخوف يصنع الكراهية.

في ألمانيا وحدها يعيش أكثر من ستة ملايين مسلم. يعرفون اليوم أن حياتهم تُستغل كورقة سياسية. بين كل تصريح وكلمة، يتأكد أن “الموسم” الذي كتبه إيكو قد بدأ فعلاً.


من خيال الأدب إلى واقع السياسة

الفرق بين ما كتبه أمبيرتو إيكو والطاهر بن جلون وما نراه اليوم هو الزمن فقط. الكراهية التي كانت فكرة صارت قانوناً. والخوف الذي كان رواية صار سياسة دولة.

يخشى المفكرون الأوروبيون أن تتحول مجتمعاتهم إلى ما وصفه إيكو: انهيار داخلي بعد موسم الصيد. لأن الكراهية لا تقتل فقط الآخر، بل تقتل الذات أيضاً.

الهجرة العربية من أوروبا لم تعد احتمالاً بعيداً. بل واقعاً يقترب يوماً بعد يوم.


الخاتمة: نبوءة تتحقق ببطء

حين كتب إيكو عن “موسم اصطياد المسلمين”، كان يتحدث عن المستقبل بخوف المثقف. اليوم، نحن في قلب ذلك المستقبل. الأحزاب اليمينية تصعد. الخطاب الليبرالي ينحسر. والإعلام يكرّس الصورة ذاتها التي حذر منها الأدب قبل عشرين عاماً.

المهاجر العربي الذي ودّعه بن جلون في خياله، ربما بدأ فعلاً حزم حقائبه. ليس بسبب القوانين فقط، بل لأن أوروبا لم تعد ترى فيه إنساناً. صارت تراه تهديداً. والمجتمعات التي ترى في الآخر خطراً، لا تملك إلا أن تكرر مآسي التاريخ نفسها.

إنها قصة خيال تحولت إلى مرآة للواقع. والمرآة تكشف ما لا يريد أحد أن يراه: أن الكراهية حين تُزرع، لا تُثمر إلا الخراب.

اقرأ كذلك: مؤسسة دار العطاء الخيرية: من غزة إلى العالم… رحلة عطاء لا تعرف الحدود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات