مدونات

قصة السائق الذي تحدّى الإمبراطورية الأميركية

من حافلة مزدحمة إلى مواجهة أسطول عالمي

تتحرك سفن الأسطول الأميركي عبر مياه الكاريبي الهادئة بنبرة استعلاء واضحة. وتظهر حاملة الطائرات الأميركية USS Gerald R. Ford كوحش حديدي يقطع سطح الماء بثقة. وترافق الحاملة مجموعة من المدمرات والفرقاطات. بينما تحوم طائرات B-52 الثقيلة فوق المشهد. وكل ذلك على بعد ثلاثين كيلومترًا فقط من الساحل الفنزويلي. وفي تلك اللحظة الملتهبة، يتضح أنّ واشنطن حشدت ما يقارب عُشر قوتها البحرية الكاملة داخل منطقة واحدة. وقد أطلقت على تلك المنطقة اسم عمليات الرمح الجنوبي.

ويعلن الرئيس دونالد ترامب ووزير الحرب بيت هيغسيث أنّ العملية تهدف إلى مواجهة “الإرهاب” و”المخدرات”. لكن الجميع يعرف أنّ تلك الرواية جزء من قصة أكبر. لأن هدف العملية الحقيقي هو ضرب حكومة نيكولاس مادورو ومحاولة إسقاطها مرة أخرى. كما حاولت الولايات المتحدة مرارًا خلال السنوات الماضية. ولذلك يتساءل العالم عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تعود إلى فنزويلا بهذا المستوى الضخم. مع أنّ كل المحاولات السابقة فشلت.

وفي الوقت نفسه، يقف الرئيس نيكولاس مادورو داخل قصر ميرافلوريس الرئاسي في كاراكاس. ويحدّق الرجل نحو الأفق رغم كل الضغوط. فخصومه في واشنطن ينظرون إليه كدكتاتور يجب إزالته. ويعتبرونه خطرًا على الأمن القومي الأميركي. بينما يراه حلفاؤه في موسكو وبكين وطهران قائدًا صلبًا صمد أمام الهجمات والمؤامرات والانقلابات والعقوبات والضربات الإعلامية.

وبين تلك الرؤى المتناقضة تقف قصة معقدة. لأن الرجل الذي تقف أمامه أكبر حاملة طائرات في تاريخ البحرية الأميركية كان يومًا ما مجرد سائق حافلة بسيط. وقد حملته الظروف إلى رأس السلطة في لحظة تاريخية مربكة. ولذلك فإن قصة مادورو ليست مجرد سيرة سياسية. إنها قصة صراع بين طبقات. وصراع بين دول. وصراع بين إرادات متناقضة في عالم تتغير موازينه بسرعة.


طفولة ولّدت وعيًا سياسيًا مبكرًا

وُلد نيكولاس مادورو عام 1962 في حي إل فايي. وهو أحد أكثر الأحياء صخبًا في العاصمة كاراكاس. وينتمي الحي إلى الطبقة الفقيرة التي عاشت فترات طويلة من التهميش. ولذلك لم يولد مادورو في بيئة أرستقراطية. ولم يخرُج من الأكاديميات العسكرية. بل نشأ وسط صخب الحياة اليومية. ووسط الفروقات الطبقية التي فجرتها طفرة النفط في السبعينيات.

ومع أنّ الكثير من وسائل الإعلام اختزلت طفولته في صورة السائق الفقير. إلا أنّ حياته كانت أعمق من ذلك. لأن والده كان ناشطًا نقابيًا. وكانت والدته معلمة. ولذلك نشأ في بيت يحترم الثقافة. ويعرف معنى السياسة. ويعيش بعيدًا عن الرفاهية. فأبوابه مفتوحة للنقاشات الشعبية اليومية.

وخلال سنوات الدراسة الثانوية، لم يكن مادورو تلميذًا استثنائيًا من حيث التحصيل العلمي. ولكنه كان شابًا يبحث عن دور في الحياة. ولذلك انجذب إلى الحركات اليسارية. وانضم إلى تنظيمات سياسية يسارية راديكالية. وبالتوازي مع ذلك، كان مادورو يعزف الغيتار في فرقة روك صغيرة. وجمعت هذه المكونات بين الفكر والفن. وسيطر هذا المزيج على سلوكه لسنوات طويلة.


من الحافلة إلى النقابة

لم يكمل مادورو تعليمه الجامعي. وفضل دخول سوق العمل مباشرة. ولذلك بدأ بقيادة الحافلات في شركة مترو كاراكاس خلال الثمانينيات. وهناك عاش وسط الناس. واستمع يوميًا إلى قصص العمال. ورأى المشكلات الاقتصادية التي تزداد. وسمع احتجاجات الفقراء على تراجع الأجور وتدهور الأوضاع.

ومع مرور الوقت، أصبح مادورو جزءًا من العمل النقابي. وصعد داخل نقابة عمال المترو بشكل سريع. لأن قدرته على التواصل مع العمال كانت قوية. ولأن حضوره في الاجتماعات كان مميزًا. وبدأ يفهم كيف تتشكل القوة الحقيقية داخل المجتمع. وكيف تبنى النقابات. وكيف تتوزع السلطة داخل المؤسسات.

وخلال تلك الفترة، كان يتواصل مع مجموعة صغيرة من الضباط العسكريين الذين أصبحوا لاحقًا قادة الثورة البوليفارية. وعلى رأسهم الضابط المظلي هوغو تشافيز. ولذلك بدأ مسار مادورو السياسي يتشكل رغم عمله البسيط.


ثورة فاشلة فتحت أبواب المستقبل

عام 1992، حاول هوغو تشافيز القيام بانقلاب ضد الرئيس كارلوس أندريس بيريز. وفشل الانقلاب. ودخل تشافيز السجن. لكن الانقلاب الفاشل غيّر تاريخ فنزويلا. لأن تشافيز ظهر في خطاب تلفزيوني قصير. وقال عبارته الشهيرة “حتى الآن”. وأصبحت تلك الكلمات رمزًا للأمل. ورمزًا لثورة لم تمت.

وخلال فترة سجن تشافيز، كان مادورو أحد المدنيين القليلين الذين زاروا الزعيم الشاب. وشارك في نقل رسائل سرية بينه وبين الحركات الشعبية. وهناك نشأت الثقة بينهما. وتعرّف مادورو على زوجته سيليا فلوريس. التي كانت تقود فريق الدفاع عن تشافيز.

وكان هذا الثنائي جزءًا من بناء نواة سياسية جديدة. وبدأوا يشكلون كتلة مدنية داعمة للضباط الثائرين. ولذلك عندما خرج تشافيز من السجن وأسّس حركة الجمهورية الخامسة، كان مادورو أحد أوائل المشاركين في التنظيم الجديد.


الطريق من البرلمان إلى الخارجية

بعد تأسيس الحركة، أصبح مادورو عضوًا في البرلمان. وفاز بمقعد في الجمعية الوطنية. ثم أصبح رئيسًا لها عام 2005. وفي تلك الفترة، تزوج من سيليا فلوريس. وبدأت تتشكل شبكة سياسية متماسكة تجمع بين الحزب والنقابة والعسكر.

وفي عام 2006، اختار تشافيز مادورو وزيرًا للخارجية. وفي تلك المرحلة، كانت فنزويلا في ذروة قوتها. وكانت أسعار النفط مرتفعة. وكان البرنامج الاجتماعي لتشافيز منتشرًا. ولذلك تغيّرت السياسة الخارجية لفنزويلا بشكل واضح. لأن مادورو ركز على بناء محور مضاد لواشنطن.

وقد عزز العلاقات مع كوبا. وأسهم في تأسيس تحالف ألبا. وطور مشروع بتروكاريبي الذي يمنح النفط بأسعار منخفضة لدول المنطقة. كما فتح قنوات قوية مع الصين وروسيا وإيران. وكان الصوت المرتفع ضد سياسات الولايات المتحدة.

وخلال حرب غزة 2008، قطعت فنزويلا العلاقات مع إسرائيل. واعترفت بالدولة الفلسطينية رسميًا. وأصبح مادورو رمزًا للموقف المعادي للهيمنة الأميركية.

وساهمت تلك المرحلة في بناء عقيدة مادورو السياسية. وهي عقيدة تتعامل مع الولايات المتحدة بوصفها قوة إمبريالية تهدد الفقراء. ولذلك أصبح مادورو يمثل الحارس المدني لخط تشافيز.


الوريث المعلن للثورة

عام 2012، ظهر تشافيز بوجه متعب وأعلن أنّه سيذهب للعلاج في كوبا. وخلال خطابه الأخير، طلب من أنصاره دعم نيكولاس مادورو إذا تعرض لمكروه. وبذلك حسم الصراع على الخلافة. وتوفي تشافيز عام 2013. وفاز مادورو في الانتخابات اللاحقة بفارق ضئيل جدًا.

ومنذ ذلك اليوم، بدأ مادورو يواجه وضعًا اقتصاديًا صعبًا. لأن أسعار النفط انهارت بعد سنوات من الاعتماد المفرط عليها. وتراجع الإنتاج المحلي. وانتشرت السوق السوداء. وبدأ التضخم ينهش الاقتصاد. وانهار الناتج المحلي بشكل غير مسبوق. ورغم ذلك، كان مادورو يقول إنّ الثورة يجب أن تستمر. وإنّ الولايات المتحدة تقود الحرب الاقتصادية عليه.

ومع مرور الوقت، ازدادت العقوبات الأميركية. وتعمّقت الأزمة السياسية مع المعارضة. وظهرت محاولات انقلابية. ووقعت محاولة اغتيال بطائرة مسيرة. لكن الرجل بقي في موقعه.


العودة إلى البحر الكاريبي

اليوم، تعود الولايات المتحدة إلى فنزويلا بقوة عسكرية غير مسبوقة منذ سنوات. لأن واشنطن ترى أنّ السيطرة على فنزويلا ضرورة لإعادة تشكيل النفوذ الأميركي في المنطقة. خصوصًا بعد التوسع الروسي والصيني في أميركا اللاتينية.

ويفهم مادورو هذا المشهد جيدًا. ويعرف أنّ الصراع لم يعد سياسيًا فقط. بل أصبح صراع وجود. وصراع نفوذ. وصراع على ثروات النفط. وصراع على موقع جغرافي يطل على الكاريبي وأميركا الجنوبية.

ولذلك يقف الرجل اليوم في مواجهة أسطول كامل. وقد أصبح رمزًا لفكرة سياسية أكبر من شخصه. لأن العالم ينظر إليه كاختبار لصمود الدول الصغيرة أمام القوى الكبرى.

اقرأ كذلك: قناع جديد لفرض السيطرة على غزة بقرار مجلس الأمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات