مدونات

عن صراعات السّاحات واستنزاف الذات.. المعارك التي يفضلها العدو

التحديات الفكرية والسياسية في الأمة الإسلامية: كيف تساهم التأويلات الاتهامية واستخدام مفهومي الولاء والبراء في تعميق الانقسامات الداخلية وزيادة صعوبة التفاهم بين المفكرين والسياسيين

عن صراعات السّاحات واستنزاف الذات.. المعارك التي يفضلها العدو… الاضطراب الفكري بين أبناء الأمة الإسلامية: التوسّع في التأويلات الاتهامية وأزمة الولاء والبراء في العديد من مجموعات الواتس آب التي تجمع تقريبًا مئتي من النخب الفكرية من مختلف بلدان العالم الإسلامي ومن تيارات فكرية متعددة، تجد حالة من التوتر والاشتباك الفكري الذي يعكس حجم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في الوقت الراهن. هؤلاء الأفراد الذين يُفترض أن يكونوا قادة الرأي والفكر في مجتمعاتهم، هم في الواقع غارقون في صراعات فكرية عميقة تجعل من التفاهم والتعاون أمرًا بعيد المنال. ما يثير الانتباه هو حجم الشروخ والانقسامات بين هؤلاء المفكرين الذين يعانون من قضايا مشتركة وآلام متشابهة، ولكنهم يقفون على طرفي نقيض عند تناول هذه القضايا.

عندما تتواجد في مثل هذه المجموعات، تجد أن النقاشات التي كانت في الماضي تمثل مساحات آمنة لتبادل الأفكار والنقاش الهادئ، تحولت الآن إلى ساحة حرب فكرية حيث يتراشق الأفراد بالاتهامات والأفكار الحادة. وعند النظر في وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، تجد نفسك محاطًا بموجات من الجدل والتصريحات المتناقضة، حيث كل طرف يظن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن الآخر هو العدو. هذه الموجات الفكرية تجعل من الصعب الحفاظ على روابط الأخوّة والتعاون بين أبناء الأمة الواحدة، مما يزيد من عزلتهم عن بعضهم البعض.

الاشتباك البيني في تاريخ الأمة الإسلامية

إن هذا الوضع الفكري الراهن يذكرنا بمواقف مشابهة في التاريخ الإسلامي، حيث كانت الأمة في صراعات داخلية بينما العدو يخطط للقضاء عليها. ومن أبرز الأمثلة التاريخية على هذا الاشتباك هو الهجوم الصليبي على أنطاكية في القرن الخامس الهجري. يذكر ابن الجوزي في كتابه “المنتظم” تفاصيل عن الحصار الذي فرضه الصليبيون على المدينة، وكيف أن المسلمين كانوا في حالة صراع داخلي حاد بين الفصائل المختلفة في حلب ودمشق، مما جعلهم غير قادرين على تقديم الدعم للمجاهدين في أنطاكية.

وكذلك يذكر أحمد الشقيري في كتابه “معارك العرب” كيف أن الحامية العربية في أنطاكية كانت تستصرخ المساعدة، لكن الصراع الداخلي بين ملك حلب وملك دمشق جعل أي نوع من التعاون مستحيلًا، وبالتالي فقد تمكّن الصليبيون من إحكام السيطرة على المدينة. هذا الاشتباك الداخلي والتنافس على السلطة كان له دور كبير في تسهيل الانتصارات الصليبية على المسلمين في تلك الفترة.

الواقع المعاصر: المعركة بين الأخوة

اليوم، يمكننا أن نرى هذا الواقع يتكرر بشكل مقلق في المنطقة الإسلامية. إذ يجري الآن إعادة تشكيل المنطقة كلها على يد قوى خارجية، بينما نحن في الداخل منغمسون في صراعاتنا البينية. وفي وقت تتصاعد فيه التحديات الكبرى التي تهدد وحدة الأمة الإسلامية، نجد أن بعض النخب الفكرية والسياسية لا تزال غارقة في خلافات فكرية، مما يجعل من الصعب عليها توحيد جهودها لمواجهة التحديات الكبرى.

وفي هذا السياق، يُطرح السؤال: لماذا لا نتمكن من تجاوز هذه الخلافات؟ لماذا نستمر في إلقاء اللوم على بعضنا البعض بينما هناك عدو مشترك يهدد وجودنا؟ هذه الأسئلة تزداد إلحاحًا في ظل الحرب المستمرة والتوسع الكبير في المعارك الميدانية والفكرية. بينما الدماء تُسفك والأرواح تُزهق في أماكن متعددة، يظل الكثيرون منهمكين في التشكيك في نوايا بعضهم البعض.

التوسّع في التأويلات الاتهامية

أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى تفاقم هذا الوضع هو التوسع في التأويلات الاتهامية. في وقت الأزمات، يزداد التحفز والتوثب، ويصبح أي تصريح أو عبارة أو مقال يعبر عن رأي مخالف عرضةً للتحليل والتفسير بشكل سلبي. إذ يتم التعامل مع التصريحات وكأنها تحمل نوايا خفية ضد القضايا العادلة أو دعمًا للأنظمة الظالمة، حتى لو لم يكن الأمر كذلك.

وفي هذا الصدد، يعتقد البعض أنه عندما يُقال شيء معين، فإن هذا يعني بشكل غير مباشر تأييدًا لطرف معين أو دعمًا لعمل غير مقبول. وهذه النزعة في التأويل تؤدي إلى إغلاق الأفق الفكري وتفكيك أي حوار بناء. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “مجموع الفتاوى” إن ما يراه البعض لازمًا من القول قد لا يكون بالضرورة مراد القائل، وبالتالي يجب أن يكون التعامل مع الأقوال والتصريحات بحذر شديد.

العديد من المواقف السياسية والفكرية التي يتم تناولها في هذه المجموعات تتسم بهذا التوسع في التأويلات. فعلى سبيل المثال، شكر جهة أو شخص على موقف معين في سياق معين لا يعني بالضرورة القبول بكل أفعاله في السياقات الأخرى. وبالتالي، لا يجب أن يُفهم هذا الشكر على أنه دعم أو تأييد لأي تصرفات أخرى قد تكون غير مقبولة. هذا النوع من التحليل يعكس مدى التباين والتعقيد في الفكر السياسي والفكري المعاصر.

إشهار سيف الولاء والبراء

أما النقطة الثانية التي تساهم في توسيع الفجوات الفكرية فهي استخدام سيف “الولاء والبراء” بشكل مفرط. من المؤكد أن مصطلح “الولاء والبراء” قد شغل مساحة واسعة في الخطاب الإسلامي خلال العقود الأخيرة. ولكن قد تمت إساءة تفسيره وتوظيفه بشكل غير دقيق. فالولاء والبراء لا ينبغي أن يكون أداة للتمييز بين المسلمين أو وسيلة لتقسيم الأمة إلى فئات متعارضة.

بدلاً من أن يكون مفهوم الولاء والبراء أداة لتوحيد الأمة ضد الأعداء الخارجيين، أصبح أداة للتفريق بين أفراد الأمة نفسها. فاختلاف وجهات النظر السياسية أو الفكرية حول قضايا معينة لا يعني بالضرورة تبني أحد الأطراف لمواقف عقدية أو سياسية متعارضة مع المبدأ الأساسي الذي يجمع الأمة. وفي هذا السياق. يشير شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه عندما يجتمع الخير والشر في شخص واحد، فإن الحكم عليه يجب أن يكون وفقًا للجانب الذي يظهر فيه. مما يقتضي عدم تبني مواقف حادة تنسف الأخوة في القضايا المشتركة.

الولاء والبراء في السياقات المعقدة

في الواقع المعاصر، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة للعلاقات بين الأطراف المختلفة. فلا يمكن أن يتم تفعيل مفهوم الولاء والبراء إلا في سياق دقيق ومعقد. يأخذ بعين الاعتبار التشابك بين الأبعاد السياسية والاجتماعية. فالعديد من المواقف السياسية والفكرية التي يتم اتخاذها تتطلب فهماً عميقاً لكيفية التعامل مع العلاقات المختلفة بين الأطراف المتصارعة. فعندما يتعامل المسلمون مع الظلم أو يتعاونون مع خصومهم في بعض المواقف. لا يعني ذلك بالضرورة دعمًا لظلمهم في أماكن أخرى.

إن انفكاك الجهة في المسائل السياسية والفكرية يعيننا على فهم المعقدات والمفارقات في العلاقات الدولية والإقليمية. إذ لا يمكن أن ننظر إلى المواقف السياسية المعقدة من زاوية أحادية. فعلى سبيل المثال. يمكن لدولة أن تدعم قضية معينة ضد العدو المشترك. وفي ذات الوقت تكون لديها خلافات مع بعض الأطراف الأخرى على قضايا داخلية أو إقليمية. هذا التفاهم العميق للمواقف السياسية يتطلب تفكيرًا عقلانيًا بعيدًا عن التسرع في إصدار الأحكام.

 دعوة إلى إعادة التفكير

إن التوسّع في التأويلات الاتهامية واستخدام مفهومي الولاء والبراء بشكل مفرط يعمّق الانقسامات بين أبناء الأمة. بدلاً من أن نتوحد في مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد وجودنا كأمة واحدة، نجد أنفسنا غارقين في معارك فكرية لا طائل من ورائها. علينا أن نتوقف لحظة ونعيد النظر في كيفية تعاملنا مع مواقفنا الفكرية والسياسية. وأن نعمل على تقليص فجوات الخلاف بيننا.


اقرأ كذلك :كيف نحلل عقلية الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات