الاسلام والحياة

مقدمة تمهيدية في فلسفة القانون والأخلاق في القرآن الكريم

"التشريع بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي: مقارنة شاملة بين المبادئ السرمدية والتاريخية في تنظيم الدولة المجردة وحماية القيم الكونية"

العلاقة بين الإسلام والدولة المجردة: فهم الجوهر الكوني للتشريع لفهم العلاقة الوثيقة بين الإسلام كدين خاتم وسياسة كونية للإنسانية، يجب أولًا استيعاب مفهوم “الدولة المجردة”. هذه الدولة ليست مجرد كيان سياسي، بل هي كونية في جوهرها، ما يعني أنها تُشكل نظامًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. الدولة المجردة ليست خاصة بمجتمع أو حضارة معينة، بل تمثل الفطرة التي تقتضي وجود جماعة لديها نظام مؤسساتي يحمي وجودها المادي والروحي.

 مفهوم الدولة المجردة

الدولة المجردة ليست كيانًا ماديًا أو مجرد قوانين تُطبق، بل هي فكرة مترسخة في وجدان الفرد والجماعة على حد سواء. كل جماعة بشرية تحتاج إلى نظام يحكمها ويحافظ على وجودها. هذا النظام يعبر عن القيم الروحية والمادية التي تجمع الأفراد في مجتمع واحد. ويمكن القول بأن الدولة المجردة تعني أن كل جماعة، مهما كانت بدائية أو متقدمة، تحتاج إلى مؤسسة تحميها من الفوضى وتضمن استمرارها.

الدولة المجردة توجد في الإنسان المادي: الإنسان لا يمكنه البقاء أو الاستمرار دون وجود جماعة تحمي حاجاته الأساسية وتضمن بقائه من خلال التفاعل مع الطبيعة.
الدولة المجردة توجد أيضًا في الإنسان الروحي: الإنسان يحتاج إلى قيم أخلاقية وروحية لا يمكن أن تُضمن إلا بوجود جماعة تحميها وتؤمن استمراريتها عبر التاريخ.

 الارتسام الكوني والعيني

يمكن تقسيم مفهوم الدولة المجردة إلى نوعين من الارتسام: الارتسام الكوني والارتسام العيني.

الارتسام الكوني: يتعلق بالوجود العضوي والروحي للإنسان ككائن مستعمر في الأرض. هذه الشروط ليست تاريخية بل سرمدية؛ بمعنى أنها تتعلق بكل إنسان في كل زمان ومكان. سواء كان الوعي بهذا الأمر دينيًا أو طبيعيًا، فالحاجة إلى نظام يحمي هذه القيم هي دائمة.
الارتسام العيني: يتعلق بالوجود التاريخي للإنسان ومحاولاته المستمرة لتحقيق هذه الشروط من خلال تأسيس أنظمة وقوانين تحاكي المثال الأعلى للدولة المجردة.

 العلاقة بين الفقه والقانون

قبل دراسة العلاقة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، يجب فهم أن كليهما يقوم على مبادئ أساسية مشتركة. هذه المبادئ تُشتق من مرجعيات متعالية عن إرادة الإنسان، سواء كانت إلهية أو طبيعية. التشريع الفقهي يعتمد على إرادة الله كمرجعية مطلقة، بينما يعتمد القانون الوضعي على مرجعية الطبيعة الإنسانية. لكن كلا النظامين يعترفان بحاجة الإنسان إلى مرجعية متعالية لضبط سلوكه وأفعاله.

القانون الوضعي، رغم اعترافه بمرجعية متعالية للطبيعة الإنسانية، لا يستطيع نفي الحاجة إلى مبدأ يتجاوز إرادة الإنسان الفردية. هذا المبدأ يتشابه مع مفهوم “إرادة الله” في التشريع الفقهي، حيث يظل الإنسان بحاجة إلى قاعدة ثابتة تحكم سلوكه ولا تتغير بتغير الزمان والمكان.

 الفرق بين التشريع الفقهي والتشريع الوضعي

بعض النظريات الحديثة في علم “المقاصد” تسعى إلى تطوير التشريع الفقهي بما يتماشى مع التحولات التاريخية، على غرار القانون الوضعي. لكن هذا الفهم يتجاهل السرمدية التي يتميز بها الفقه الإسلامي. التشريع الإسلامي لا يحتاج إلى تعديلات أو تحسينات تاريخية، لأنه يستند إلى مرجعية إلهية تامة وشاملة.

في المقابل، يحاول القانون الوضعي التعامل مع تغييرات العصر من خلال تطوير نصوصه وقوانينه. لكن حتى هذا القانون لا يمكنه نفي وجود سرمديات تتعلق بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. هذه السرمديات تمثل أساس كل تشريع، سواء كان إلهيًا أو وضعيًا.

 المقاصد السرمدية في التشريع

السرمديات التي يتحدث عنها الفقه الإسلامي تتعلق بأمور لا يمكن أن يتغير حكمها بمرور الزمن. هذه المقاصد تشمل:

حق الملكية: الملكية شرط أساسي لحرية الفرد واستقلاله. بدونها، لا يمكن للفرد أن يتحرر من التبعية الكاملة للجماعة.
النسل والتكاثر: استمرار الجماعة يعتمد على قدرتها على التكاثر. هذه الحاجة العضوية تُعد أساسية لبقاء المجتمع وتواصله عبر الأجيال.
كرامة الفرد والجماعة: الكرامة هي الأساس الذي يحدد علاقة الفرد بالجماعة. بدونها، تفقد الحرية معناها وتتحول العلاقات إلى عبودية أو تبعية.
المرجعية المتعالية: سواء كانت دينية أو طبيعية، فإن كل تشريع يعتمد على مرجعية تعلو على إرادة الإنسان الفردية.
العقل والاجتهاد: العقل هو الأداة التي يستخدمها الإنسان للحفاظ على حقوقه وحرياته. من خلاله، يستطيع الفرد تحقيق التوازن بين حاجاته الروحية والمادية.

 الفقه والقانون: تداخل أم تعارض؟

يمكن القول إن الفقه الإسلامي والقانون الوضعي يتشاركان في بعض الجوانب الأساسية، لكنهما يختلفان في مرجعيتهما وطريقة تطبيقهما. الفقه الإسلامي يستند إلى مرجعية إلهية ثابتة، بينما يعتمد القانون الوضعي على مرجعية إنسانية تتغير بتغير الظروف.

لكن على الرغم من هذه الاختلافات، يمكن أن يتداخل كلا النظامين في بعض الجوانب. فالفقه الإسلامي يعترف بالحاجة إلى تنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع، والقانون الوضعي يعترف بوجود مبادئ ثابتة تتعلق بالعدالة وكرامة الإنسان.

 السرمدية والتاريخية في التشريع

الفرق الجوهري بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي يكمن في كيفية التعامل مع التاريخية. الفقه الإسلامي يرى أن الشريعة تحتوي على مبادئ ثابتة لا تتغير بتغير الزمن. بينما يحاول القانون الوضعي التعامل مع التاريخية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التشريع.

لكن حتى القانون الوضعي يعترف بأن هناك بعض القيم الثابتة التي لا يمكن المساس بها. هذه القيم تتعلق بالكرامة الإنسانية والعدالة والتواصل الصادق بين الأفراد.

 الأخلاق كأساس للتشريع

كل من الفقه الإسلامي والقانون الوضعي يعتمدان على الأخلاق كأساس للتشريع. لكن الفقه الإسلامي يعترف بأن الأخلاق مصدرها الإرادة الإلهية، بينما يرى القانون الوضعي أن الأخلاق تستند إلى الطبيعة الإنسانية.

على الرغم من هذا الاختلاف، فإن كليهما يسعى لتحقيق العدالة والصدق في العلاقات بين الأفراد والجماعات. الفقه الإسلامي يسعى لتحقيق هذه الأهداف من خلال الالتزام بالشريعة، بينما يعتمد القانون الوضعي على المبادئ العقلية لتحديد ما هو صحيح وما هو خطأ.

في نهاية المطاف، العلاقة بين الإسلام والدولة المجردة تُظهر أن الحاجة إلى التشريع ليست مجرد حاجة تاريخية، بل هي حاجة كونية تتعلق بالوجود البشري ذاته. الفقه الإسلامي والقانون الوضعي يشتركان في بعض الجوانب الأساسية، لكنهما يختلفان في مرجعيتهما وطريقة تطبيقهما.

السرمديات التي يحاول كل نظام حمايتها تمثل القيم الأساسية التي لا يمكن للبشر الاستغناء عنها. سواء كان التشريع يعتمد على مرجعية إلهية أو طبيعية، فإن الهدف النهائي يظل تحقيق العدالة والكرامة والحرية للأفراد والجماعات.

بتطبيق هذه المبادئ، يمكن للبشرية أن تحقق التوازن بين حاجاتها المادية والروحية، وتحافظ على وجودها وبقائها في هذا العالم. الفقه الإسلامي والقانون الوضعي كلاهما يسعيان لتحقيق هذه الأهداف من خلال وسائل مختلفة، لكن الهدف النهائي يظل واحدًا: الحفاظ على كرامة الإنسان وضمان حريته في هذا العالم.

اقرأ كذلك :تأثير قضاء الأطفال وقتاً طويلاً أمام شاشات الأجهزة الإلكترونية على التعلم اللغوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات