مدونات

تاريخ النضال ضد الفصل العنصري .. قصة مشتركة بين فلسطين وجنوب أفريقيا

تاريخ العلاقة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا: من التعاون السري إلى التضامن الدولي

في موقف تاريخي يمكن أن يغير مسار الحرب الإسرائيلية على غزة التي استمرت لأكثر من مئة يوم. قدمت جنوب أفريقيا دعواها ضد إسرائيل أمام المحكمة الدولية. اتهمتها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. حرب أسفرت عن استشهاد أكثر من 24 ألف فلسطيني. معظمهم نساء وأطفال، وأكثر من 60 ألف جريح، ونزوح مليون ونصف شخص من منازلهم وتدمير آلاف المباني والمنشآت.

هذه القضية تكتسب أهمية كبيرة كونها المرة الأولى التي يتم فيها محاكمة إسرائيل أمام المحكمة الدولية بشكل مباشر. إذا أدانت المحكمة إسرائيل بالإبادة الجماعية، ستكون هذه المرة الأولى التي يتم فيها اتهام دولة بارتكاب الإبادة الجماعية بشكل مباشر.

تمثل هذه المحاكمة موقفًا تاريخيًا يشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا واحتجاجات شعبيها. يُقارن هذا الموقف بين نضال جنوب أفريقيا وفلسطين. في محاولة لفهم موقف جنوب أفريقيا ودعمها للقضية الفلسطينية واستلهام نضالها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الحالي.

العنف الإسرائيلي وارتباطه بالاستعمار الغربي

إسرائيل، بتأسيسها في المنطقة، أصبحت نموذجاً للاستعمار الغربي الإمبريالي. الذي يعتمد على استخدام العنف كوسيلة ضرورية لحماية المستعمر الأبيض، الذي يُعتبر ممثلاً للحضارة. ضد السكان الأصليين الذين يُعتبرون ممثلين للهمجية أو أقل تحضرًا. هذا المفهوم يسرد طبيعة العنف الإسرائيلي وخطاب العقوبة الجماعية.

يمكن التفكير في ظهور أنظمة عنصرية مماثلة في جنوب أفريقيا وإسرائيل كجزء من الاستعمار. بدأ الهولنديون في استعمار أراضي جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر ونفذوا عمليات نزع ملكية للسكان الأصليين. ولاحقًا انضم إليهم البريطانيون، وهذا يشبه الاستيطان الصهيوني في فلسطين تحت حماية الانتداب البريطاني.

في كلا السياقين، تم تبرير الاستعمار باستخدام مزاعم حضارية مزيفة. في جنوب أفريقيا. اعتبر المستعمر وجوده هدية من الحضارة البريطانية للسكان الأصليين الأقل تحضرًا. بالمقابل. رأى الاحتلال الإسرائيلي فلسطين فرصة لإيجاد مستقبل جديد لليهود واستغلال الأراضي والموارد التي لا يمكن لسكانها الأصليين استغلالها.

كل هذا يأتي في إطار النموذج الاستعماري التاريخي الغربي الذي كان ناجحًا في القرون الماضية. لكنه يبدو الآن مفارقة تاريخية في عصرنا الحالي، حسب توني جودت في مقاله الذي نشره في عام 2003. حيث وصف إسرائيل بأنها “مفارقة تاريخية” في عالم يتطور نحو حقوق الإنسان والقوانين الدولية.

إسرائيل: الوجه الجديد للفصل العنصري

تحدد المحكمة الجنائية الدولية الفصل العنصري كنظام يتضمن قمعًا وهيمنة منهجية تنفذها مجموعة عرقية واحدة ضد مجموعة أو مجموعات عرقية أخرى بهدف الحفاظ على هذا النظام. نشأ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1948، نفس العام الذي شهد وقوع النكبة الفلسطينية وإعلان قيام إسرائيل. في بادئ الأمر، قدمت حكومة حزب الوطني في جنوب أفريقيا هذا النظام على أنه أداة لتحقيق المساواة في التنمية وحرية التعبير الثقافي وإدارة الشؤون الخاصة للمجموعات. ومع ذلك، كانت الواقعية تختلف تمامًا.

نظام الفصل العنصري أو “الأبارتايد” في جنوب أفريقيا اعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: تصنيف السكان. وفصل الإسكان، وسيطرة على الأراضي. تم تقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية وتم فصلهم. حيث تم توجيه الغالبية السوداء إلى مناطق محددة تسمى “بانتوستانات”. التي كانت تمثل نسبة صغيرة جدًا من مساحة البلاد. كانت هناك إجراءات تقييدية تستهدف السود بشكل خاص. منها تخصيص وسائل نقل ومطاعم ومرافق عامة للبيض. بينما تم فصل السود في المستشفيات والأماكن العامة. تعرض السود لنقص في جودة التعليم والرعاية الصحية وتم منعهم من الاقتراع وامتلاك الأراضي وممارسة الأعمال خارج مناطقهم إلا بتصاريح استثنائية.

كان هذا النظام يشبه إلى حد كبير ممارسات إسرائيل الحالية في فلسطين. والتي تشهد انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الفصل العنصري.

تشابه الوضع بين جنوب أفريقيا وفلسطين: فصل عنصري واستعمار إسرائيل

يُقارن في كثير من الأحيان بين الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا وأوضاع الفلسطينيين والعرب تحت الاحتلال الإسرائيلي. حيث يتمتع اليهود في إسرائيل بجميع حقوق المواطنة بينما يتعامل الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية ولا يُمنحون أي حقوق سياسية. وفقًا لتقرير نشرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” عام 2010 بعنوان “انفصال وعدم مساواة: معاملة إسرائيل التمييزية للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة”، يعاني الفلسطينيون من تمييز منهجي فقط بسبب عرقهم وأصلهم القومي. ينتج عن ذلك حرمانهم من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والتعليم والوصول إلى الطرق، بينما يتمتع المستوطنون اليهود القريبون بكل هذه المزايا التي تقدمها الدولة.

يُلخص جون دوغارد، المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، هذه الانتهاكات في تقريره. مشيرًا إلى أن المجتمع الدولي قد حدد ثلاثة أنظمة معادية لحقوق الإنسان: الاستعمار، والفصل العنصري. والاحتلال الأجنبي، وأن كل هذه الأنظمة تجتمع في إسرائيل. بشكل واضح. إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية عسكريًا وفي الوقت نفسه تمارس سلطة الاحتلال بأشكال من الاستعمار والفصل العنصري. مما يجعلها وفقًا لدوغارد تناقضًا مع المبادئ الرئيسية لحقوق الإنسان الدولية.

التشابهات بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة

هناك العديد من التشابهات التي تربط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى على مستوى الممارسة العملية. على سبيل المثال، نجد تشابهًا واضحًا في سياسة تصاريح الحركة التي تُستخدم للتحكم في حركة السكان. حيث اعتمدت حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نظام مرور معقد لفرض السيطرة على حركة السود. وبشكل مماثل، أنشأت إسرائيل نظامًا معقدًا لتصاريح الحركة ونقاط التفتيش التي تقيّد حركة الفلسطينيين بشكل يصعّب الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية ومكان العمل.

الممارسة الثانية تتعلق بإنشاء جيوب عِرقية لعزل السكان. وهو ما يشبه الوضع في جنوب أفريقيا حيث أُنشئت “البانتوستانات” لعزل السود. وفي فلسطين، يُشبه قطاع غزة المحاصر هذه الجيوب العرقية ويمكن اعتباره أكبر سجن مفتوح. بالإضافة إلى ذلك، تم بناء أكثر من 123 مستوطنة إسرائيلية في المناطق المحيطة بالمدن الفلسطينية الكبرى. مما يعزل هذه المدن عن بقية الأراضي.

من الناحية القانونية، تم استخدام قوانين منفصلة للجماعات العرقية المختلفة في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وفي الأراضي الفلسطينية أيضًا هناك قوانين منفصلة للفلسطينيين والإسرائيليين. مما يؤدي إلى تفاوت في الحقوق القانونية. بالإضافة إلى ذلك، يواجه الفلسطينيون سياسات تمييزية مثل قانون الدولة القومية. الذي يُعرِّف إسرائيل بوصفها دولة لليهود فقط، مما يعيق المواطنين الفلسطينيين ويضعهم عمليًا في مرتبة الدرجة الثانية.

إسرائيل كنظام فصل عنصري: حقائق تجعل التشابه ليس مجرد تشبيهاً بل واقعًا واضحًا

عندما نتحدث عن التشابه بين التجربتين ونصف إسرائيل كدولة فصل عنصري. فإننا نتحدث عن واقع ملموس وليس مجرد تشبيه بلاغي. وعلى الرغم من أن هناك حججًا قانونية قوية لتصنيف إسرائيل كدولة فصل عنصري. إلا أن هناك من يعترض على المقارنة المباشرة بين الوضع في جنوب أفريقيا والأوضاع الحالية في فلسطين. يمكن تلخيص هذه الاعتراضات في عدة نقاط رئيسية.

أولًا، يُشير البعض إلى أن اليهود والفلسطينيين لا يمثلون مجموعاتٍ عرقية. وأن إسرائيل لا تميز بينهم على أساسٍ عرقي بل على أساس المواطنة كأي دولة قومية أخرى. ولكن يمكن بسهولة تفنيد هذا الاعتراض من خلال توضيح أن الاختلافات الواسعة بين اليهود والفلسطينيين تندرج تحت تعريف العرق وفقًا للقانون الدولي.

حتى من ناحية المواطنة، يُظهر القانون الإسرائيلي تمييزًا بين حاملي الجنسية الإسرائيلية من العرب واليهود. فمن يُشار إليهم بـ”عرب إسرائيل” يمثلون أكثر من 20% من سكان إسرائيل. ويواجهون التمييز في مجالات مثل التوظيف والسكن ومصادرة الأراضي، على الرغم من حملهم للجنسية الإسرائيلية. كل هذه الأمور تؤكد أن الممارسات التمييزية في إسرائيل تعتمد على العرق وليس على المواطنة. مما يجعلها دولة فصل عنصري بكل وضوح.

تاريخ طويل من النضال المشترك

لا يمكن إلتباس عندما نقول أن النجاح الذي حققه النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كان مصدر إلهام كبير للمقاومة الفلسطينية. فقد ربطت منظمة التحرير الفلسطينية والمؤتمر الوطني الأفريقي علاقة وثيقة منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث كان هذا الارتباط يقوم على أساس النضال المشترك. وهذه العلاقة توسعت لتشمل العديد من الجوانب، فعلى سبيل المثال. بعد أسبوعين فقط من خروجه من السجن في عام 1990. قام الزعيم نيلسون مانديلا بزيارة زامبيا ليلتقي بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وغيره من القادة الذين دعموا النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. واشتهر نيلسون مانديلا بارتدائه للكوفية الفلسطينية في مناسبات عديدة كرمز لدعمه القضية الفلسطينية.

وقام العديد من الشخصيات البارزة والناشطين الذين كانوا مناهضين للفصل العنصري في جنوب أفريقيا بنقل إنتقاداتهم للاحتلال الإسرائيلي وأعلنوا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية. من بين هؤلاء الشخصيات، كان دينيس غولدبرغ واحدًا من أهم أعضاء الجناح المسلح في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وكان لديزموند توتو، الذي كان كبير أساقفة جنوب أفريقيا وفاز بجائزة نوبل للسلام، دور بارز في التعبير عن تضامنه مع القضية الفلسطينية.

تاريخ طويل من النضال المشترك

على الجانب الآخر، وعلى الرغم من التصريحات الإسرائيلية العلنية بإدانتها لسياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. إلا أنه تطور تحالف سياسي وعسكري بين إسرائيل وحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال سبعينيات القرن الماضي. هذا التحالف تم تكوينه في عهد حكومة إسحاق رابين. حيث لعب شيمون بيريز، وزير الدفاع في ذلك الوقت، دورًا بارزًا في تطوير هذه العلاقة. وتضمنت هذه العلاقة اجتماعات سرية نُعقد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، أسفرت عن العديد من الصفقات العسكرية، بما في ذلك عرض إسرائيل بيع رؤوس نووية لجنوب أفريقيا.

على مدار سنوات، ساهمت صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى جنوب أفريقيا في تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي ودعمت نظام الفصل العنصري المحاصر والمعزول في بريتوريا. في الوقت الذي كانت فيه العديد من دول العالم تدين هذا النظام وتتجه لمقاطعته، قامت إسرائيل وجنوب أفريقيا بتشكيل تحالف استفادا منها الطرفان بشكل كبير، حيث قدمت إسرائيل دعمًا تكنولوجيًا ومساعدة في تطوير التكنولوجيا الصاروخية لجنوب أفريقيا.

بالإضافة إلى هذا التعاون العسكري والاقتصادي، كان هناك تقارب أيديولوجي بين النظامين. فأشار الجنرال رافائيل إيتان، الذي شغل مناصب عدة في الحكومة الإسرائيلية، إلى تواجد تشابه في الأفكار بين النظامين. وقال: “السود في جنوب أفريقيا يرغبون في السيطرة على الأقلية البيضاء تمامًا كما يرغب العرب هنا في السيطرة علينا… ونحن، مثل الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، يجب أن نعمل على منعهم من الاستيلاء على السلطة”.

في الختام، يمكن القول أن الإجراء القانوني الذي اتخذته جنوب أفريقيا بمقاطعتها إسرائيل يتأصل في تاريخها الطويل والمشترك مع الفلسطينيين، وليس مجرد تعبير سطحي عن التضامن. ويمكن اعتبار تحرك جنوب أفريقيا دعوة ضمنية إلى العالم لتغيير قواعد اللعبة بعد كشف نفاق المجتمع الدولي أمام العنف والظلم.

اقرأ كذلك: لماذا لم تقدم أي دولة عربية دعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة الدولية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات