منوعات

ما حقيقة طائر صلاح الدين الأيوبي الأسود؟ (قِراقوش)

بين الأسطورة والتاريخ: قراءة في حياة أمير «النسر الأسود»

في أروقة التاريخ الإسلامي يبرز اسمٌ غالباً ما يُحيط به الغموض والتضليل • هو بهاء الدين قِراقوش الذي لقب بـ«النسر الأسود» أو «الطائر الأسود» في الترجمة الحرفية للاسم التركي «قِراقوش» • وقد ربط الشعب المصري كلّ صورة حكم طاغٍ أو تصرّف فجّ بهذا الاسم • إلا أنّ الوقائع التاريخية تكشف ابناً لعصرٍ مضى، كان له دورٌ كبيرٌ، ولم يكن ما صوّره البعض بالحكايات الشعبية البسيطة.


• من هو قِراقوش؟ أصوله ومسيرته

أشارت مصادر عدة إلى أن قِراقوش نشأ في إحدى قرى الأناضول • وعندما شبّ انضمّ إلى دمشق لاستقرارٍ وطنيّ، وكان اسمه الكامل: أبو سعيد قِراقوش بن عبد الله • ولُقّب بـ«بهاء الدين» فيما يعني لقب «قِراقوش» في التركية «الطائر الأسود» أو «النسر الأسود» أو «العقاب» • والتسمية وإن اختلفت ألوانها، فإنها تعبّر عن مكانة وقوّة. 
كما ذكر المؤرخ المصري أحمد بن عبد الوهاب النويري (ت. 733هـ/1333م) أن قِراقوش تُوفي سنة 597هـ/1201م عن عمر يُقارب الثمانية والثمانين عاماً، أي إن ولادته كانت نحو سنة 507هـ/1113م تقريباً. 
ورغم أن المصادر التاريخية مثل ابن خلكان وسبط ابن الجوزي والمقريزي لا تحدد بدقة متى وصل إلى دمشق، فإن الوقائع السياسية تؤشر إلى أنه جاء بعد عام 549هـ/1154م حين استحوذ نور الدين محمود زنكي على دمشق.
ومع وصوله دمشق انضم لخدمة القائد الشهير أسد الدين شيركوه (ت. 564هـ/1169م)، عمّ السلطان صلاح الدين الأيوبي، وارتقى فيها من مملوك إلى قائد «الأسدية» – وهي الفرقة المملوكية التابعة لشيركوه – حتى أصبح قائداً لها. ومن ثم، ساهم في الحملات المتكرّرة إلى مصر.


• قِراقوش في مصر: دورٌ سياسي وعسكري

عند تولّي صلاح الدين الوزارة في مصر سنة 564هـ/1169م، دخل قِراقوش معاركً سياسية وإدارية واسعة • فقد أقام شراكته مع الفقيه ضياء الدين عيسى الهكّاري (ت. 586هـ/1190م) لتسهيل تولّي صلاح الدين القيادة العامة للجيش ثم الوزارة. وبمساندة خال صلاح الدين، شهاب الدين محمود الحريمي، تمّ تأسيس ذلك الدعم العائلي والسياسي والعسكري. 
بعد وفاة شيركوه، بدأ قِراقوش يظهر كلاعب محوري في مصر. أول مهامه المهمة كانت القبض على المؤتمن، أحد رجالات الدولة الفاطميين، الذي حاول التواصل مع الصليبيين طلباً للمساندة • وفي هذا السياق عُهد بقصر الدولة إلي قِراقوش، بعدما أقال صلاح الدين كبار موظفي المؤتمن.
ثم جاء تمرد الجنود السودانيين الموالين للمؤتمن، الذي واجهه صلاح الدين بدعم من قِراقوش الذي تولّى منصب «أستاذ الدار» خلفاً للمؤتمن. ومنذ ذلك ارتقى قِراقوش في المناصب وصار الرجل الأول في القصر الفاطمي، ثم الرجل الذي أعطاه صلاح الدين الثقة المطلقة في إدارة شؤون مصر.


• إنجازاته العمرانية والهندسية

إلى جانب دوره السياسي والعسكري، فقد لقِراقوش بصمة عمرانية واضحة في مصر الأيوبية. ففي سنة 573هـ/1177م، أمر صلاح الدين بإجراء مسح شامل للأراضي في القاهرة وضواحيها لتوزيع الإقطاعات على قادة الجيش والجنود، وأسند هذه المهمة إلى قِراقوش الذي تخطّى دوره حين تنازل عن نصيبه لصالح الفقراء والمحتاجين، مما أظهر جانبه الاجتماعي.

ولعلّ أهمّ أعماله أن تفكيك أجزاء من الأهرامات الصغيرة في الجيزة وإعادة استخدام حجارتها في بناء سور القاهرة الأيوبية وسور الجيزة الكبير وتحسين السدود والجسور والقناطر، كل ذلك في فترة كانت فيها مصر تواجه تهديد الصليبيين من جهة والبيزنطيين والصقلية من جهة أخرى. 
وفي سنة 572هـ/1176م أشرف على بناء قلعة الجبل التي أصبحت تُعرف لاحقاً بقلعة صلاح الدين، وهي على هضبة المقطم، وأُقيمت كقلعة عسكرية وإدارية ومركز للحكم في مصر. كما من بين أهم إنجازاته حفر بئر يوسف داخل القلعة عبر قناة تحت الأرض بعمق 90 متراً، ممّا اعتبره المؤرخ المقريزي من المعجزات الهندسية. 
وفي سنة 596هـ/1200م، أي قبل وفاته بعام، أشرف على بناء جامع القيطون خارج القاهرة بجوار الخليج الشرقي، ليكون مكاناً للعبادة والخلوة. وقد نالت منشآته من القصور إلى الجسور والأسوار تقديراً حتى من مؤرخي الحملات الصليبية الذين وصفوه بأنه “مهندس عظيم”.


• حصار عكّا: ذروة المسيرة العسكرية لقِراقوش

بلغ دور قِراقوش ذروته أثناء حصار مدينة عكا بين 586هـ و588هـ/1189-1191م، وذلك خلال الحملة الصليبية الثالثة. في أوائل 585هـ/1189م تم تعيينه والياً على عكا وأسندت إليه مهمة ترميم أسوارها وتعزيزها. 
وعند وصوله ربيع ذلك العام كان مصحوباً بالبنّائين والأسرى والدواب والآلات، فشرع في أعمال التحصين بإتقان. وقد وصفه المؤرخون اللاتينيون بأنه أنشأ حصناً يُشبه في صلابته قلعة «تشيبستو» في ويلز، وهو ما يعكس مدى الانبهار بتحصيناته.

وقد قاد قِراقوش ابتكاراً دفاعياً حين دمج المجانيق ووسائل الحصار المضاد، واستعمل خليطاً نوويّاً من نفطٍ ومواد اشتعلت عند القذف على أبراج الحصار الصليبية، مما أحبط هجوماً ضخماً قاده الصليبيون في 27 رجب 586هـ/3 مايو 1190م.
ولم يقتصر الأمر على البناء والدفاع، بل لجأ إلى الحرب النفسية؛ فقد أمر بتعليق جثث قتلى الصليبيين على الأسوار لإضعاف معنويات خصومه. وقد تولى بنفسه صد الهجوم بعد انهيار جزئي للسور في 5 يناير/كانون الثاني 1191م، ما أبرز قدرته التنظيمية والإدارية.
وعندما وصل الملك الفرنسي فيليب أوغست والملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد إلى الحصار في ذي القعدة من العام نفسه، بلغت آلة الحصار ذروتها، لكن براعة المسلمين بقيادة قِراقوش أثبتت نفسها، وقد استُخدم النفط المشتعل كثمرة تراث عسكري متجذّر.
ومع تناقص الإمدادات، اضطر القادة إلى التفاوض في منتصف 588هـ/1191م، فوقع قِراقوش بالأسر، لكن السلطان صلاح الدين دفع فدية ضخمة لإطلاقه، ثم استقبله في القدس معانقاً، تعبيراً عن تقديره العميق له.


• التشويه الشعبي والإعلامي لصورة قِراقوش

رغم كل هذه الإنجازات، فإنّ اسم قِراقوش أصبح في الثقافة الشعبية المصرية مرادفاً للحكم الظالم أو القرار الغريب، وكان كتاب الفاشوش في حكم قِراقوش للكاتب الأسعد بن ممّاتي أحد أهمّ الوسائل التي ضربت صورته التاريخية، إذ صورته كرجل دولة مهرج ساذج وطاغية جبار في آن واحد.
ومنذ حينها دخل الاسم إلى الأمثال الشعبية، حتى أصبح عند المصريين مصطلحاً يطلق على «حكم قِراقوش» للدلالة على القرار غير المعقول أو الظالم.
غير أن المؤرخين المعاصرين يبذلون جهداً لإعادة قراءة الشخصية التاريخية وفكّ التشويه عنها؛ إذ يؤكدون أن صلاح الدين لم يكن ليسلّم زمام الدولة إلى رجل ضعيف أو غير قادر. فعلى سبيل المثال، قال ابن خلكان: «لما استقل صلاح الدين بالديار المصرية، جعله زمام القصر … وكان رجلاً مسعوداً وصاحب همة عالية».
كما نفى ابن العماد الحنبلي ما ورد في كتاب الفاشوش، عندما قال: «لقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لما سلم إليه عكّا وغيرها».


• الميراث والبصمة: كيف يُذكر قِراقوش اليوم؟

توفي بهاء الدين قِراقوش في القاهرة ودفن في مقبرة تُطل على جبل المقطم • ويُذكر المقريزي أن اسمه بقي حاضراً في الذاكرة من خلال مواقع ارتبطت به، مثل ميدان «قِراقوش» عند باب الفتوح، أو «باب قِراقوش» شمال مدينة عكا التي شهدت دفاعه الصلب.
وتُبقى قلعة الجبل وسور القاهرة والمشروعات الهندسية الأخرى شهادة حية على قدرته التنظيمية والهندسية، رغم ما لحق باسمه من تشويه شعبي. وقد أشار بحث بعنوان «إضاءة: جريمة الأدب في حق قِراقوش» إلى أن الأدب الوثائقي والتاريخي ظلّ يصارع الصورة الزائفة التي رسمها البعض له.
وبالتالي، فإنّ ما يُروى اليوم من طرافات أو أحكام غريبة تحت اسم «حكم قِراقوش» إنما هو انعكاسٌ لتشويهٍ أدبيٍّ وثقافيٍّ لا يعكس بدقة الواقع التاريخي لشخصية خدمت دولتين ومَلكَتِه.

إنّ قراءة متأنّية في تاريخ بهاء الدين قِراقوش تؤكد أن الرجل كان أكثر من مجرد «طائر أسود» يُرهب المصريين أو يُضحّكهم بحُكمٍ غريبٍ. بل كان قائداً وسياسياً ومهندساً، أعطى للدولة الأيوبية كثيراً من الأمن والبناء، وقدر له أن يكون أحد جنود الأيمان في زمنٍ عسير.
ومن هنا، فإنّ استعادة صورته وإعادة تقييمها تُعدّ خطوة نحو استعادة الحقائق التاريخية من تحت أكوام التشويه الشعبي والإعلامي.

اقرأ كذلك: العلماء يكتشفون تشابهًا مذهلاً بين لغة البشر والحيتان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك يجب ايقاف مانع الاعلانات