أردوغان وقضية “اضبط كلابك”: صراع سياسي جديد في قلب تركيا
في خضم الساحة السياسية المليئة بالتوتر، عاد اسم أردوغان ليتصدر العناوين من جديد.
هذه المرة، ليس بسبب قرار حكومي أو تحرك اقتصادي، بل بسبب قضية رفعت أمام القضاء ضد زعيم المعارضة التركية.
القضية حملت عنوانًا صادمًا في الإعلام: “اضبط كلابك”.
عبارة واحدة كانت كافية لتفجر مواجهة قانونية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعيم المعارضة أوزغور أوزيل، رئيس حزب الشعب الجمهوري.
القضية ليست مجرد خلاف لفظي.
إنها انعكاس حقيقي لحالة الانقسام العميقة التي يعيشها الشارع التركي اليوم.
بين مؤيد يرى في أردوغان زعيمًا يحمي هيبة الدولة، ومعارض يرى فيه رجلًا يضيّق على حرية التعبير.
وهكذا، تحولت الكلمات إلى دعوى، والدعوى إلى معركة جديدة بين السلطة والمعارضة.
بداية القضية: كلمة أشعلت النيران
في مساء يوم الأربعاء، وخلال خطاب جماهيري ألقاه زعيم المعارضة أوزغور أوزيل أمام أنصاره في إحدى مناطق إسطنبول، وجه انتقادًا حادًا للسلطات التركية.
قال أوزيل إن الحكومة منعت عرض ملصقات انتخابية تحمل صورة رئيس بلدية إسطنبول المسجون أكرم إمام أوغلو.
ثم أضاف بحدة: “إنهم يخشون صورته، ومن الآن فصاعدًا اضبط من يعملون تحت أوامرك وكلابك الذين يزعجوننا.”
هذه العبارة الأخيرة أثارت غضب القصر الرئاسي.
فقد اعتبر فريق أردوغان أن فيها إهانة صريحة ومباشرة لرئيس الجمهورية.
لم تمر ساعات حتى أعلن محامي أردوغان، حسين أيدن، عبر منصة “إكس” أن موكله قرر مقاضاة أوزيل بتهمة الإهانة، والمطالبة بتعويض قدره 500 ألف ليرة تركية، أي ما يعادل نحو 11,800 دولار أمريكي.
القضية رُفعت أمام المحكمة المدنية الابتدائية في أنقرة.
وفي الوقت نفسه، تم تقديم دعوى جنائية أخرى إلى النيابة العامة بتهمة “إهانة رئيس الجمهورية”، وهي تهمة يعاقب عليها القانون التركي بالسجن وفق المادة 299 من قانون العقوبات.
أردوغان ورد فعله القانوني: دفاع عن المنصب أم تصعيد سياسي؟
منذ وصوله إلى الحكم، دأب أردوغان على التعامل بحزم مع كل ما يراه تعديًا على مقام الرئاسة.
وقد رفع في السابق العديد من القضايا المشابهة ضد معارضين، صحفيين، وحتى فنانين.
لكن هذه القضية تختلف، لأنها تأتي في مرحلة حساسة من المشهد التركي.
فالأجواء السياسية متوترة.
الانتخابات تقترب.
والمعارضة تحاول استعادة قوتها بعد هزيمتها الأخيرة أمام حزب العدالة والتنمية.
يرى مؤيدو أردوغان أن اللجوء إلى القضاء حق مشروع، وأن أي إساءة للرئيس تمثل إهانة للدولة بأكملها.
بينما يرى المعارضون أن القضايا المتكررة ضد المنتقدين أصبحت وسيلة لتكميم الأفواه.
ويقول بعض المحللين إن القضية الجديدة تهدف إلى تحجيم خطاب المعارضة قبل الانتخابات المقبلة.
القانون التركي وتهمة “إهانة الرئيس”
ينص القانون التركي، في مادته رقم 299، على أن من يهين رئيس الجمهورية يُعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وأربع سنوات.
كما يحق للمحكمة زيادة العقوبة إذا ارتُكبت الإهانة علنًا أو عبر وسائل الإعلام.
منذ عام 2014، حين تولى أردوغان منصب الرئاسة، تم تسجيل آلاف القضايا بتهمة “إهانة الرئيس”.
وقد أدين فيها صحفيون وسياسيون وحتى طلاب جامعات.
لكن المدافعين عن الحكومة يرون أن احترام المنصب الرئاسي ضرورة وطنية، وأن حرية التعبير لا تبرر الإساءة.
من ناحية أخرى، تنتقد منظمات حقوق الإنسان هذه القوانين، معتبرة أنها تُستخدم لتقييد حرية الرأي.
وتشير تقارير إلى أن بعض القضايا شملت حتى تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أثار جدلًا واسعًا داخل وخارج تركيا.
إمام أوغلو في قلب المشهد مجددًا
اللافت أن اسم أكرم إمام أوغلو ظهر مجددًا في هذه القضية.
فهو السياسي الذي يرى فيه كثيرون المنافس الأبرز لأردوغان في أي انتخابات رئاسية قادمة.
إمام أوغلو يقضي حاليًا فترة احتجاز على خلفية اتهامات بالفساد، وهي تهم ينفيها تمامًا.
ورغم غيابه عن الساحة العلنية، لا يزال يشكل هاجسًا سياسيًا للرئيس التركي.
إذ استطاع أن يحقق فوزًا تاريخيًا في انتخابات بلدية إسطنبول عام 2019، حين انتزعها من حزب العدالة والتنمية لأول مرة منذ عقود.
وبالنسبة للمعارضة، أصبح رمزًا للأمل في التغيير.
أما بالنسبة للحكومة، فهو خصم سياسي يجب الحذر منه.
كلمة أوزيل في خطابه كانت بمثابة رسالة رمزية لدعم إمام أوغلو.
لكنها فتحت بابًا قانونيًا جديدًا جعل أردوغان يدخل معركة قضائية قد تمتد لشهور.
أردوغان بين القانون والسياسة
القضية الحالية ليست الأولى من نوعها في مسيرة أردوغان السياسية.
فهو شخصية لا تتسامح مع ما يراه إهانة أو تجاوزًا للحدود.
في نوفمبر 2025، رفع الرئيس دعوى مماثلة ضد إمام أوغلو نفسه بتهمة التشهير والإساءة.
وقد اعتبر حينها أن تصريحات رئيس البلدية تمثل “إهانة لرئيس الجمهورية أمام الرأي العام”.
لكنّ المعارضين يرون أن مثل هذه الدعاوى تُستخدم كأداة سياسية.
ويعتقدون أن الهدف منها هو ترهيب الخصوم وفرض هيبة الرئاسة في المشهد السياسي.
بينما يردّ أنصار أردوغان بأن هذه الإجراءات ضرورية لحماية رمزية الدولة من أي إساءة، خصوصًا في ظل تصاعد حدة الخطاب السياسي.
الشق الاجتماعي والإعلامي: تأثير القضية على الرأي العام
لم تقتصر تداعيات القضية على قاعات المحاكم.
بل امتدت إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
فانقسم الشارع التركي بين من يرى أن أوزيل تجاوز حدود الأدب السياسي، وبين من يعتقد أن أردوغان بالغ في الرد.
وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة ركزت على وصف التصريحات بـ“الانحطاط السياسي”.
بينما رأت وسائل المعارضة أن الرئيس يستخدم القضاء لتصفية حساباته مع خصومه.
وأصبح وسم “اضبط كلابك” من أكثر الوسوم تداولًا في تركيا خلال ساعات قليلة، ما جعل القضية قضية رأي عام.
كما أن المجتمع التركي بات يعيش حالة من الاستقطاب الحاد.
فأنصار الحكومة يدافعون عن مبدأ “الاحترام للمؤسسات”، بينما يصر المعارضون على أن “الحرية لا تُضبط”.
وهذا الانقسام يعكس عمق الأزمة السياسية والاجتماعية في البلاد.
تحليل سياسي: ما وراء الدعوى؟
يعتقد العديد من المراقبين أن أردوغان يحاول من خلال هذه القضية إرسال رسالة سياسية مزدوجة.
الأولى إلى خصومه، مفادها أن أي تجاوز في الخطاب لن يمر دون حساب.
والثانية إلى أنصاره، بأن الرئيس لا يزال قويًا وحاضرًا في كل تفاصيل المشهد السياسي.
لكن، في المقابل، يحذر بعض المحللين من أن مثل هذه المواجهات قد تزيد من شعبية المعارضة.
فكلما حوكم معارض بسبب تصريح، ارتفعت شعبيته بين أنصاره.
وهذا ما حدث سابقًا مع إمام أوغلو، الذي تحوّل من رئيس بلدية إلى رمز سياسي وطني بسبب محاكمته.
من جهة أخرى، يرى بعض المراقبين أن أردوغان يستخدم أسلوب “المواجهة القانونية” بدل المواجهة السياسية المباشرة، في محاولة للحد من الانتقادات الحادة.
لكن النتيجة قد تكون عكسية، خاصة إذا شعر الشارع بأن القضاء يُستخدم كأداة سياسية.
أردوغان والرهان على الانضباط الإعلامي
من المعروف أن أردوغان يدير معاركه السياسية والإعلامية بانضباط شديد.
فهو يعي تمامًا أهمية الصورة والخطاب في كسب الرأي العام.
لذلك، فإن أي عبارة جارحة أو وصف مسيء يُعتبر بالنسبة له تجاوزًا لا يمكن السكوت عنه.
في المقابل، يزداد اعتماد المعارضة على الخطاب التصعيدي، معتبرة أن المواجهة الكلامية هي السلاح الأخير أمام آلة الدولة القوية.
وهذا التباين في الأسلوب يعكس الفجوة الفكرية والسياسية بين التيارين.
أردوغان يدعو إلى “الاحترام والالتزام بالنظام”، بينما خصومه يرفعون شعار “الجرأة في مواجهة السلطة”.
تأثير القضية على مستقبل السياسة التركية
القضية الحالية قد لا تتوقف عند حدود المحكمة.
بل يمكن أن تمتد آثارها إلى الحياة السياسية برمتها.
فإذا حكم القضاء لصالح أردوغان، سيُنظر إلى القرار كرسالة واضحة بأن “هيبة الدولة فوق الجميع”.
أما إذا تم رفض الدعوى، فستعتبر المعارضة ذلك انتصارًا لحرية التعبير.
في الحالتين، ستبقى القضية نقطة تحول في العلاقة بين الحكومة والمعارضة.
كما ستحدد الطريقة التي سيتعامل بها أردوغان مع الخطاب المعارض في المستقبل.
وفي حال تصاعد مثل هذه القضايا، فإن تركيا قد تواجه مزيدًا من الجدل حول حدود النقد السياسي ومفهوم الكلمة المباحة.
وقد يدفع ذلك بعض الأحزاب إلى تعديل خطابها الإعلامي، أو على الأقل إلى تجنّب العبارات الاستفزازية.
بين القضاء والسياسة يبقى أردوغان في قلب العاصفة
في النهاية، تبقى قضية “اضبط كلابك” أكثر من مجرد نزاع قضائي.
إنها مرآة تعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين أردوغان ومعارضيه.
فهي قضية تجمع بين القانون، السياسة، والرمزية الوطنية.
أردوغان، الذي بنى سلطته على مبدأ الانضباط والهيبة، يجد نفسه مجددًا في مواجهة خصوم يتحدونه بالكلمة.
والمعارضة، التي ترى في هذه المواجهة فرصة لإبراز نفسها، تستثمر كل تصريح وكل محاكمة لتقوية حضورها الشعبي.
وبين الاتهام والدفاع، تبقى الحقيقة أن السياسة التركية لا تعرف الهدوء.
فكل كلمة قد تتحول إلى قضية.
وكل قضية قد تعيد رسم خريطة القوة بين الأحزاب.
لكن ما لا شك فيه هو أن أردوغان سيبقى، كما كان دائمًا، في مركز العاصفة السياسية، يصنعها أحيانًا ويحتويها أحيانًا أخرى، في مشهد تركي لا ينفك عن الجدل والانقسام.
اقرأ كذلك: ثورة الإمام سوتشو .. كيف سحق الأتراك الفرنسيون في شوارع مرعش؟
