السامريون في فلسطين.. طائفة موسى التي أنكرتها إسرائيل
السامريون بين التاريخ والدين والسياسة.. حكاية صمود طائفة تعيش بين جبل جرزيم والاحتلال
على قمة جبل جرزيم في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، يعيش السامريون في فلسطين كواحدة من أقدم الطوائف الدينية في العالم. تمتد جذورهم إلى آلاف السنين، ويعتبرون أنفسهم الامتداد الأصيل لبني إسرائيل وورثة التوراة الأولى.
ورغم قلة عددهم الذي لا يتجاوز الألف شخص وفق أحدث التقديرات، فقد حافظوا على لغتهم وطقوسهم ونسختهم الخاصة من الأسفار القديمة.
هوية السامريين في فلسطين وتاريخهم العريق
يؤمن السامريون في فلسطين بأنهم السلالة الحقيقية لبني إسرائيل.
ويختلفون عن اليهود رغم التشابه في بعض المعتقدات والرموز الدينية.
ويمتلك السامريون نسخة أصلية من التوراة تعود إلى أكثر من 3600 عام.
هذه النسخة مكتوبة على جلد غزال وتتضمن خمسة أسفار فقط من التوراة.
ورغم التقارب العقائدي والجذور التاريخية المشتركة بين السامريين واليهود، فإن موقع الطائفة ظل دائمًا محاصرًا في منطقة رمادية.
فـ”إسرائيل”، التي تقدم نفسها للعالم كـ”دولة اليهود”، لم تعترف بهم رسميًا، بل نظرت إليهم كخطرٍ ديني وسياسي.
وهكذا وجد السامريون أنفسهم في معادلة صعبة.
فهم طائفة قريبة من اليهودية القديمة من حيث الإيمان والطقوس، لكنها متجذّرة اجتماعيًا في المجتمع الفلسطيني.
هذا التداخل جعلهم عرضة للتضييق لأن معتقدهم لا ينسجم مع الصورة السياسية التي أرادت إسرائيل فرضها للعالم حول اليهودية.
نادر صدقة.. السامري الذي أربك محققي الاحتلال
يقول الأسير المحرر نادر صدقة، وهو من السامريين في فلسطين، إن هويته كانت سببًا في معاملة خاصة داخل سجون الاحتلال.
يروي كيف حاول المحققون الإسرائيليون استغلال انتمائه الديني للضغط عليه، لكنه كان يرد دائمًا بعبارته الشهيرة:
“لا تجرّني إلى مساحتك، أنا أقاتل في مساحتي.”
كان صدقة يرى نفسه مقاتلًا وطنيًا فلسطينيًا قبل أي شيء آخر.
ويقول: “اعتقلتني قوة خاصة بعد عامين من الملاحقة المكثفة. كنت ضمن خلية من ستة عناصر، خمسة استشهدوا وبقيت أنا وحدي”.
وجهت له تهمة المشاركة في تنظيم محظور وقيادة عمليات ضد الاحتلال.
لكن نادر يوضح أن جوهر القضية لم يكن أمنيًا فقط، بل سياسيًا وإنسانيًا.
فهو يرى نفسه صاحب هوية وطنية وانتماء للقضية الفلسطينية، ويعتبر هذه التهم وسام شرف.
خلال التحقيق، واجه نادر ضغوطًا قاسية.
تعرض للحرمان من النوم والطعام، ولساعات طويلة من الاستجواب النفسي والجسدي.
لكن ما ميّز قضيته كان الفضول الأمني حول هويته الدينية.
فالمحققون كانوا يسألون بإلحاح عن كيف ولماذا يقف “يهودي سامري” في صف المقاومة الفلسطينية.
يقول نادر:
“كانوا يحاولوا يفهموا حالتي، كانوا يتنقلوا بين الترهيب والترغيب. لكني كنت واضحًا: أنا هنا كمقاتل فلسطيني، لا كيهودي أو سامري.”
محاولة طمس الهوية السامرية داخل السجون
يؤكد نادر أن الاحتلال لم يكتفِ بمحاولات الضغط أثناء التحقيق، بل استمر في محاولات عزله حتى بعد خروجه من السجن.
فقد تعرض للتضييق في حياته الاجتماعية داخل الطائفة نفسها، إذ سعت أجهزة الاحتلال إلى تقليص تأثيره ومنع صوته من الانتشار.
يقول:
“كلما زاد التعاطف الشعبي مع أي أسير، زاد استهداف الاحتلال له. لديهم قاعدة واضحة: كلما برز اسمك، زاد الضغط عليك.”
ويضيف أن جهاز “الشاباك” لا ينظر عادة إلى الأمور من زاوية دينية بحتة، لكن وجود سامري يقف في مربع المقاومة الفلسطينية شكّل حالة إرباك أمني وسياسي.
جبل جرزيم.. قبلة السامريين التي تحاصرها إسرائيل
يُعتبر جبل جرزيم القلب الروحي للسامريين ومركز عقيدتهم الدينية.
فهو المكان الذي يتجهون إليه في صلواتهم ومواسمهم المقدسة.
لكن هذا الجبل لم يسلم من محاولات التهويد التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات.
فبحسب تقارير صادرة عن معهد الأبحاث التطبيقية في القدس، أعادت إسرائيل تصنيف العديد من المواقع الدينية الفلسطينية باعتبارها “مناطق تراث قومي يهودي”.
ويفتح هذا التصنيف الباب أمام طمس الهوية الفلسطينية والديانات القديمة التي وجدت في هذه الأرض منذ آلاف السنين، ومن بينها ديانة السامريين.
يقول لطفي فياض، سكرتير الطائفة السامرية، إن الهدف الحقيقي من الحفريات الإسرائيلية في جبل جرزيم هو السيطرة على الآثار ونقلها بعيدًا عن أيدي السامريين.
ويضيف أن الحفريات تتركز في النقطة الأعلى من الجبل، بعيدًا عن منطقة السكن، وتم تصنيفها كمناطق أثرية يمنع البناء فيها.
أما إسحاق رضوان، أحد أبناء الطائفة، فيوضح أن الاحتلال يحاول إثبات أن جبل جرزيم ليس هو المكان المقدس الذي يؤمن به السامريون.
لكنه يؤكد قائلًا:
“لا أحد يستطيع أن يمنعنا من عبادة الله في المكان الذي نؤمن به. جبل جرزيم هو ركن الإيمان الرابع، ولن نتخلى عنه.”
السامريون في مواجهة قيود الاحتلال اليومية
لا تقتصر معاناة السامريين في فلسطين على الجانب الديني فحسب، بل تمتد إلى تفاصيل حياتهم اليومية.
فالطرق المؤدية إلى جبل جرزيم محاطة بحواجز عسكرية تجعل التنقل صعبًا.
ويصف رضوان تلك الحواجز بأنها “سجن مفتوح”، إذ تحول دون ممارسة حياتهم الطبيعية بحرية.
ويضيف لطفي فياض أن الاحتلال يمنعهم من البناء في أراضيهم الواقعة في المنطقة المسماة “ج”، رغم امتلاكهم التراخيص القانونية.
بينما يُسمح للمستوطنين في المناطق المجاورة بالبناء بحرية تامة، ما يبرز سياسة التمييز التي تمارسها إسرائيل ضد الأقليات.
السامريون بين السياسة والدين
يحاول السامريون في فلسطين الابتعاد عن الصراع السياسي، لكنهم يجدون أنفسهم دائمًا في قلبه.
فوجودهم في منطقة نابلس يجعلهم عرضة لتقاطع المصالح بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
ويقول رضوان:
“السياسة تحاصر الجميع، حتى من لا يريد أن يتحدث فيها. نحن نبحث عن العدل والسلام، لكن الواقع صعب.”
ويشير لطفي إلى أن توافد المستوطنين إلى المواقع الدينية السامرية حوّلها إلى بؤر توتر سياسي بدل أن تبقى أماكن عبادة.
فإسرائيل، بحسب قوله، تتعامل مع كل موقع ديني على أنه أداة لخدمة مشروعها الاستيطاني، وليس مكانًا مقدسًا يجب احترامه.
ازدواجية إسرائيل في التعامل مع الأقليات
تُظهر تجربة السامريين في فلسطين التناقض الواضح بين ما تدّعيه إسرائيل من حماية الأقليات، وبين ما تمارسه فعليًا على الأرض.
فهي تتبنى خطابًا دبلوماسيًا في الخارج يروج لفكرة “التعايش”، لكنها تمارس التمييز والاضطهاد ضد كل من لا يتبنى الرواية الصهيونية.
ويقول نادر صدقة:
“وجود يهود معادين للصهيونية يربكهم، لأن هذه الأصوات تكشف التناقض بين الدين اليهودي والمشروع الصهيوني السياسي.”
ومن هنا ظهر في الخطاب الإسرائيلي مصطلح “اليهودي الكاره لنفسه”، في إشارة إلى كل يهودي يرفض سياسات الاحتلال أو يدافع عن حقوق الفلسطينيين.
محاولات طمس الرواية التاريخية
يرى إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة موري ستيت، أن إسرائيل تنتهج سياسة توسعية تهدف إلى إعادة تعريف التاريخ الديني للأرض.
ويؤكد أن الاحتلال حول بعض المساجد إلى متاحف ومطاعم، واعتدى على مقبرة “مأمن الله” في القدس، لفرض رواية واحدة تقول إن “إسرائيل هي دولة اليهود فقط”.
ويشير الخطيب إلى أن مناطق نابلس القديمة، بما فيها جبل جرزيم، مدرجة في قائمة التراث العالمي المؤقتة لدى اليونسكو.
ومع ذلك، تعمل إسرائيل على إعادة تصنيفها لتتناسب مع سرديتها السياسية.
ويضيف أن تضييق الاحتلال على السامريين في فلسطين جزء من خطة أوسع لطرد كل غير اليهود من الأرض.
اليهود المناهضون للصهيونية.. صوت آخر
ورغم الصورة السائدة، فإن هناك يهودًا يعارضون المشروع الصهيوني من داخل إسرائيل نفسها.
ومن أبرزهم أعضاء حركة “ناتوري كارتا” الذين يرفضون إقامة دولة إسرائيل باعتبارها خروجًا عن تعاليم التوراة.
كما يعارض معظم يهود الولايات المتحدة سياسة الاحتلال، ويدعمون حل الدولتين.
لكن هؤلاء يواجهون بدورهم التضييق والمنع من دخول إسرائيل بسبب مواقفهم.
وفي بعض الحالات، يُعاقب الصهاينة الذين ينتقدون الحكومة أو يدعون لمقاطعة سياساتها.
السامريون في فلسطين.. حكاية وجود يتحدى النسيان
قصة السامريين في فلسطين ليست مجرد قصة طائفة دينية، بل هي حكاية هوية تواجه الاندثار.
من جبل جرزيم إلى سجون الاحتلال، ومن طقوس العبادة القديمة إلى صراع البقاء الحديث، يثبت السامريون أن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بعدد الأتباع، بل بقدرة الإنسان على الصمود في وجه التزوير.
إنهم أبناء موسى الذين أنكرتهم إسرائيل، لكنهم ما زالوا هنا، يصلّون بالعبرية القديمة، ويذبحون الأضاحي كما فعل أجدادهم قبل آلاف السنين، ويواجهون كل يوم سؤال البقاء بشجاعة لا تعرف الانكسار.
اقرأ كذلك: الفلسطينيون لن يتخلوا عن أرضهم أبدًا
